صفحة جزء
باب بيع الخيار

حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار قال مالك وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه
38 - باب بيع الخيار

بكسر المعجمة اسم من الاختيار وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو رده .

1374 1356 - ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المتبايعان ) تثنية متبايع وفي رواية لغير مالك : " البيعان " تثنية بيع ( كل واحد منهما بالخيار ) خبر كل أي محكوم له بالخيار على صاحبه والجملة خبر قوله المتبايعان .

( ما لم يتفرقا ) بفوقية قبل الفاء ، وللنسائي يفترقا بتقديم الفاء ، ونقل ثعلب عن المفضل بن سلمة افترقا بالكلام وتفرقا بالأبدان ورده ابن العربي بقوله تعالى : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ) ( سورة البينة : الآية 4 ) فإنه ظاهر في التفرق بالكلام لأنه بالاعتقاد .

وأجيب بأنه من لازمه في الغالب لأن من خالف آخر في عقيدته كان مستدعيا لمفارقته إياه ببدنه .

قال الحافظ : ولا يخفى ضعف هذا الجواب ، والحق حمل كلام المفضل على الاستعمال بالحقيقة وإنما استعمل أحدهما في موضع الآخر اتساعا ( إلا بيع الخيار ) مستثنى من قوله : ما لم يتفرقا ، قال عياض : وهذا أصل في جواز بيع المطلق والمقيد ، قال الأبي : يعني بالمطلق المسكوت عن تعيين مدة الخيار فيه ، وبالمقيد ما عين فيه أمد الخيار وإنما يكون أصلا في بيع الخيار على أن الاستثناء من مفهوم الغاية أي فإن تفرقا فلا خيار إلا في بيع شرط فيه الخيار ، وقيل إنما الاستثناء من الحكم والمعنى المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيع شرط فيه عدم الخيار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقيل المعنى إلا بيعا جرى فيه التخاير بأن يقول أحدهما للآخر في المجلس : اختر فيختار فيلزم بالعقد لبعض خيار المجلس ، فعلى هذين لا يكون أصلا في بيع الخيار انتهى .

قال الباجي : والأول أظهر لأن الخيار إذا أطلق شرعا فهم منه إثباته لا قطعه .

قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على ثبوت هذا الحديث وقال به أكثرهم ، [ ص: 479 ] ورده مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ولا أعلم أحدا رده غيرهم .

قال بعض المالكية : رفعه مالك بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به وذلك عنده أقوى من خبر الواحد كما قال أبو بكر بن عمرو بن حزم : إذا رأيت أهل المدينة أجمعوا على شيء فاعلم أنه الحق .

وقال بعضهم : لا تصح هذه الدعوى لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب روي عنهما نصا ترك العمل به ، وهما من أجل فقهاء المدينة ، ولم يرو عن أحد من أهلها نصا ترك العمل به إلا عن مالك وربيعة بخلف عنه ، وأنكر ابن أبي ذئب وهو من فقهائها في عصر مالك عليه ترك العمل به حتى جرى منه في مالك قول خشن حمله عليه الغضب لم يستحسن مثله منه وهو قوله : من قال البيعان بالخيار حتى يفترقا استتيب ، فكيف يصح لأحد أن يدعي إجماع أهل المدينة في هذه المسألة ؟ قال هذا البعض وإنما معنى ما ( قال مالك وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ) أي ليس للخيار عندنا حد بثلاثة أيام كما حده الكوفيون والشافعي بل هو على حال المبيع انتهى .

وفي قوله : لا أعلم من رده غيرهم قصور كبير من مثله ، فقد نقل عياض وغيره عن معظم السلف وأكثر أهل المدينة وفقهائها السبعة وقيل إلا ابن المسيب وقيل له قولان نفي خيار المجلس لأن الأصل في العقود اللزوم إذ هي أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان ، وترتب المسببات على أسبابها هو الأصل ، فالبيع لازم تفرقا أم لا .

وأجيب عن الحديث بحمل المتبايعان على المتشاغلين بالبيع ، فإن باب المفاعلة شأنها اتحاد الزمان كالمضاربة ويكون الافتراق بالأقوال كقوله تعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) ( سورة النساء : الآية 130 ) وليس من شرط الطلاق التفرق بالأديان ، فكما أن المتضاربين صدق عليهما حالة المباشرة اللفظ حقيقة فكذلك المتبايعان ، ويكون الافتراق مجازا جمعا بين الأدلة ؛ ولأن ترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم ، فوصف المفاعلة هو علة للخيار فإذا انقضت بطل الخيار لبطلان سببه ، وحمل المتبايعين على من تقدم منه البيع مجاز ، كتسمية الخبز قمحا والإنسان نطفة ، ولا يرد أنا تمسكنا بالمجاز وهو حمل الافتراق على الأقوال وإنما هو حقيقة في الأجسام لأنه راجح على المجاز الثاني لاعتضاده بالقياس والقواعد سلمنا عدم الترجيح فليس أحد المجازين بأولى من الآخر ، فالحديث مجمل فيسقط به الاستدلال وهذا يمكن الاقتصار عليه في الجواب .

وأجيب أيضا بأنه معارض بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهذا منه ; لأن كل واحد لا يدري ما يحصل له هل الثمن أو المثمون وهو أيضا خيار مجهول العاقبة فيبطل كخيار الشرط إذا كان كذلك ، ولأن الأمر في قوله : ( أوفوا بالعقود ) ( سورة المائدة : الآية 1 ) للوجوب وهو ينافي الخيار ، وقول أبي عمر لا حجة في الآية لأن المأمور بالوفاء به من العقود ما وافق السنة لا ما خالفها كما لو عقدا على الربا فيه نظر فليس هذا مما [ ص: 480 ] خالفها ، فإن من جملة الأجوبة أن مالكا لم يأخذ بالحديث مع أنه رواه ; لأن في بعض طرقه عن أبي داود والنسائي والترمذي : المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله ، فهذه الزيادة تسقط خيار المجلس إذ لو كان مشروعا لم يحتج للاستقالة قاله القرطبي وهذا أشبه الأجوبة ، وقول عياض : الزيادة قوية في وجوب خيار المجلس رده الأبي بأنها ليست بقوية لأنه لم يكره قيامه من جهة أنه قصد أخذ الخيار حتى يكون حجة في إثباته ، وإنما كره له القيام من جهة أنه قصد به قطع طلب الإقالة في المجلس ، فالزيادة تسقط خياره إذ لو ثبت لم يحتج إلى طلب الإقالة .

وأجيب أيضا بحمل الحديث على الاستحباب لهذه الزيادة واستبعده القرطبي ، قال محمد بن الحسن عن أبي حنيفة معنى الحديث إذا قال بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشتري : قد قبلت وليس المراد ظاهره أرأيت لو كانا في سفينة أو قيد أو سجن كيف يفترقان .

وقد أكثر المازري وغيره من الأجوبة عن الحديث واختلف القائلون به فقال الأوزاعي : هو أن يتوارى أحدهما عن صاحبه ، وقال الليث : هو أن يقوم أحدهما ، وقال الباقون : هو افتراقهما عن مجلسهما .

وفي الصحيحين قال نافع : وكان ابن عمر إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه .

وفي الترمذي : كان إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجيب له .

وعند ابن أبي شيبة : إذا باع انصرف ليجب البيع ، قال أبو عمر : فعله وهو راوي الحديث يدل على أنه فهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل انتهى .

ولا دلالة فيه لذلك لاحتمال أنه بحسب فهمه من اللفظ لا من نفس المصطفى .

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به ، وتابعه يحيى القطان وأيوب في الصحيحين ، وعبد الله وابن جريج عند مسلم كلهم عن نافع بنحوه ، وتابع نافعا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عند الشيخين ، وجاء أيضا من حديث حكيم بن حزام عند البخاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية