صفحة جزء
باب ما جاء في إفلاس الغريم

حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه منه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء
42 - باب ما جاء في إفلاس الغريم

يقال : أفلس الرجل كأنه صار إلى حال ليس له فلوس كما يقال له أقهر إذا صار إلى حال يقهر عليه ، وبعضهم يقول : صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير ، فهو مفلس والجمع مفاليس ، وحقيقته الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر كذا في المصباح .

وفي المفهم : المفلس لغة : من لا عين له ولا عرض ، وشرعا : من قصر ما بيده عما عليه من الديون .

1382 1363 - ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أبي بكر بن عبد الرحمن [ ص: 492 ] بن الحارث بن هشام ) المخزومي الفقيه التابعي الوسط ، ولأبيه رؤية فهو صحابي من حيثها ، تابعي كبير من حيث الرواية ، وجده من فضلاء الصحابة ، سأل عن كيفية الوحي كما مر ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال ابن عبد البر : هكذا في جميع الموطآت ولجميع الرواة عن مالك مرسلا إلا عبد الرزاق بخلف عنه فوصله عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذا اختلف أصحاب الزهري عنه في إرساله ووصله ، ورواية من وصله صحيحة ، فقد رواه عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبشير بن نهيك ، وهشام بن يحيى كلاهما عن أبي هريرة مرفوعا الثلاثة في الفلس دون ذكر حكم الموت ، والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت اهـ ملخصا .

( قال : أيما ) مركبة من أي وهي اسم ينوب مناب حرف الشرط ، ومن ما المبهمة المزيدة ، قال الطيبي : من المقحمات التي يستغنى بها عن تفصيل غير حاصر أو عن تطويل غير ممل ( رجل ) بجره بإضافة أي إليه ورفعه بدل من أي ، وليس المبدل منه على نية الطرح ، وما زائدة وذكره غالبي والمراد إنسان ( باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ) اشتراه ، وقوله : ( منه ) كذا ليحيى ، وسقط لغيره ( ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده ) أي متاعه ( بعينه فهو أحق به ) من الغرماء ، لأن المفلس يمكن أن تطرأ له ذمة ، بخلاف الميت ، ولذا قال : ( وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء ) وبهذا قال مالك وأحمد لنصه - صلى الله عليه وسلم - على الفرق بين الفلس والموت ، وهو قاطع لموضع الخلاف ، وقال الكوفيون : ليس أحق به فيهما ، وقال الشافعي : هو أحق به فيهما لحديث أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن عمرو بن نافع عن عمر بن خلدة الزرقي قال : " أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس ، فقال أبو هريرة : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " وأجيب بأن أبا المعتمر ليس بمعروف بحمل العلم ، وقد قال أبو داود عقب روايته : من يأخذ بهذا أبو المعتمر من هو ؟ يعني أنه لا يعرفه ، وفي التقريب أنه مجهول الحال ، فحديث التفريق أرجح ، فوجب العمل به وتقديمه ، ولو سلم صلاحيته للحجية فقد قال المازري أنه لم يذكر فيه بيعا فيحمل على أنه في الودائع أو غصبا أو تعديا ، وأيضا فإنه لم يذكر فيه لفظه - صلى الله عليه وسلم - ، ولو ذكره لأمكن فيه التأويل ، وقال بعض أصحابنا : لعله لما تبين فلسه قام وطلب فلسه فبادر الموت .

ووجه الفرق بين الفلس والموت من جهة المعنى أن ذمة المشتري عينت في الفلس فصار البائع بمنزلة من اشترى سلعة فوجد بها عيبا فله ردها واسترجاع شيئه ، ولا ضرر على بقية الغرماء لبقاء ذمة المشتري ، وفي الموت وإن عينت الذمة أيضا لكنها ذهبت [ ص: 493 ] رأسا ، فلو اختص البائع بسلعته عظم الضرر على بقية الغرماء لخراب ذمة الميت وذهابها ، وإنما يكون لرب السلعة استرجاعها في الفلس إذا لم يعطه الغرماء الثمن ، فإن أعطوه فذلك لهم ، لأن استرجاعها إنما كان لعلة وقد زالت ، وقال الشافعي : لا يسقط حقه في استرجاعها ، ولو دفع له الغرماء الثمن ، لأنه قد يطرأ غريم فلا يرضى ما صنع هؤلاء اهـ .

ولأنه ليس للمفلس ولا ورثته أخذها ، لأن الحديث جعل صاحبها أحق بها منهم ، فالغرماء أبعد من ذلك ، وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها وإن شاء تركها وحاصص بثمنها ، وبه قال أحمد وأبو ثور وجماعة ، قال ابن عبد البر : هذا الحديث صحيح ثابت من رواية الحجازيين والبصريين ، وأجمع على القول بجملته فقهاء المدينة والحجاز والبصرة والشام ، وإن اختلفوا في بعض فروعه ، ودفعه الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه وهو مما يعد عليهم من السنن التي ردوها بغير سنة صاروا إليها وأدخلوا النظر حيث لا مدخل له مع صحيح الأثر ، وحجتهم أن السلعة مال المشتري ، وثمنها في ذمته ، فغرماؤه أحق بها كسائر ماله وهذا ما لا يخفى على أحد لولا أن صاحب الشريعة جعل لصاحب السلعة إذا وجدها بعينها أخذها وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ( سورة الأحزاب : الآية 36 ) ( فلا وربك لا يؤمنون ) ( سورة النساء : الآية 65 ) الآية .

ولو جاز مثل رد هذه السنة المشهورة عند علماء المدينة وغيرهم بإمكان الوهم والغلط فيها لجاز ذلك في سائر السنن حتى لا تبقى سنة إلا قليل مما أجمع عليه ، وهذه السنة أصل برأسها ، فلا سبيل أن ترد إلى غيرها ؛ لأن الأصول لا تنقاس ، وإنما تنقاس الفروع ردا على أصولها ، ولا أعلم للكوفيين سلفا إلا ما رواه قتادة عن خلاس ابن عمرو ، عن علي قال : هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها .

وأحاديث خلاس عن علي ضعيفة ليس في شيء منها إذا انفرد حجة .

وروي مثله عن إبراهيم النخعي ، وليس في قوله حجة على الجمهور ؛ إذ الواجب عليه الرجوع للسنة فكيف يقلد ويتبع ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية