صفحة جزء
حدثني يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة فأري عبد الله بن زيد الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج خشبتين في النوم فقال إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل ألا تؤذنون للصلاة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان
149 146 - ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال ) مرسلا ( كان رسول الله ) لما [ ص: 260 ] كثر الناس ( قد أراد أن يتخذ خشبتين ) هما الناقوس وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها فيخرج منها صوت كما في الفتح وغيره ( يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة ) قال ابن عمر : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم : أنتخذ ناقوسا مثل ناقوس النصارى ؟ وقال بعضهم : بل بوقا مثل قرن اليهود ، الحديث في الصحيحين .

وقال أنس : لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن يوروا نارا أو يضربوا ناقوسا رواه البخاري ومسلم وفيه اختصار ، وهو في أبي داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار : اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة كيف يجمع الناس لها قيل له انصب راية فإذا رآها الناس آذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك ، فذكر له القبع أي شبور اليهود فقال : " هو من أمر اليهود " ، فذكر له الناقوس ، فقال : " هو من أمر النصارى " وكأنه كرهه أولا ثم أمر بعمله .

ففي أبي داود عن عبد الله بن زيد : لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ليضرب به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا ( فأري عبد الله بن زيد ) بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد ( الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج ) فيقال له شهد العقبة وبدرا قال الترمذي : لا نعرف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا هذا الحديث الواحد في الأذان وكذا قال ابن عدي ، قال في الإصابة : وأطلق غير واحد أنه ما له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد ، ومات سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين وصلى عليه عثمان قاله ولده محمد بن عبد الله نقله المدايني ، وقال الحاكم : الصحيح أنه قتل بأحد فالروايات عنه كلها منقطعة ، وخالف ذلك في المستدرك ( خشبتين في النوم ) متعلق بأري ( فقال : إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أن يجمع به الناس للصلاة ( فقيل : ألا تؤذنون للصلاة ) وأسمعه الأذان فاستيقظ ( فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ فذكر له ذلك ) فقال : إنها لرؤيا حق إن شاء الله ( فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان ) كذا أورد الحديث مرسلا مختصرا كما سمعه من يحيى بن سعيد ، قال ابن عبد البر : وروى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان انتهى .

وأخرج أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح ، وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان [ ص: 261 ] وصححاه من حديث محمد بن عبد الله بن زيد قال : حدثني أبي لما أمر - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل به للناس ليجتمعوا للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟ قال وما تصنع به ؟ فقلت ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ فقلت : بلى قال : تقول الله أكبر فذكره مربع التكبير بلا ترجيع ، قال : ثم استأخر عني غير بعيد فقال : تقول إذا قمت إلى الصلاة فذكر الإقامة مفردة وثنى قد قامت الصلاة ، فلما أصبحت أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت ، فقال : " إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى منك صوتا " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال : فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " فلله الحمد " اهـ . لفظ أبي داود وهو كالشرح لمرسل الموطأ .

ونقل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي بذال ولام أن هذه الطريق أصح طرقه ، وشاهده حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا ، ومنهم من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد والمرسل أقوى إسنادا .

ولأحمد عن معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد قال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت ، رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال : الله أكبر ، فذكر الحديث .

وعند أبي داود في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : ما منعك أن تخبرني ؟ فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت وظاهره يعارض ما قبله .

قال الحافظ : ولا مخالفة لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيا عنه ، فقوله : ما منعك أن تخبرني أي عقب إخبار عبد الله فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور انتهى .

بعده لا يخفى مع قوله فسمع عمر فخرج يقول : يا رسول الله لقد رأيت مثل ما أري فجعله حالا من فاعل خرج أي قائلا في حال خروجه لكنه لا يمتنع للجمع بين الحديثين مع صحتهما .

وللطبراني في الأوسط أن أبا بكر أيضا رأى الأذان ، وذكر الجيلي في شرح التنبيه أنه رآه أربعة عشر رجلا وأنكره ابن الصلاح ، فقال : لم أجده بعد إمعان البحث ، ثم النووي فقال في تنقيحه : هذا ليس بثابت ولا معروف وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه ، وفي سيرة مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة من الأنصار قال الحافظ : ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد ، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه ، وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واه عن كثير الحضرمي قال : أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء الدنيا [ ص: 262 ] فسمعه عمر وبلال فسبق عمر بلالا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء بلال فقال له : " سبقك بها عمر " قال : وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي ، وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك أو لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بمقتضى الرؤيا لينظر أيقر على ذلك أم لا ، ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه ، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده في الأحكام وهو المنصور في الأصول ، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سبقك بذلك الوحي " ، وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام وجاءت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة منها للطبراني عن ابن عمر قال : لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوحى الله إليه الأذان فنزل به فعلمه بلالا ، وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك ، وللدارقطني عن أنس أن جبريل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف أيضا ولابن مردويه عن عائشة مرفوعا : " لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم فقدمني فصليت " وفيه من لا يعرف .

وللبزار وغيره عن علي : لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بالبراق فركبها الحديث وفيه : إذ خرج ملك من الحجاب فقال : الله أكبر وفي آخره فأخذ الملك بيده فأم بأهل السماء .

وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود وهو متروك أيضا ، ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء فيكون وقع ذلك بالمدينة ، وقول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه فيه نظر لقوله أوله : لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان وكذا قول المحب الطبري : يحمل الأذان ليلة الإسراء على الأذان اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضا لتصريحه بصفته المشروعة فيه ، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث ، وقد جزم ابن المنذر بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بلا أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة إلى أن وقع التشاور في ذلك على ما في حديث ابن عمر ، ثم في حديث عبد الله بن زيد ، انتهى .

ومن الواهي أيضا ما لابن شاهين عن زياد بن المنذر حدثني العلاء قال : قلت لابن الحنفية : كنا نتحدث أن الأذان رؤيا رآها رجل من الأنصار ففزع وقال : عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان رؤيا هذا والله الباطل ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله ملكا ما رآه أحد في السماء قبل ذلك اليوم فعلمه الأذان ، ففيه كما رأيت زياد بن المنذر متروك ، وقد صرح الحافظ الذهبي بأن هذا باطل .

قال الحافظ : وقد حاول السهيلي الجمع فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى ، فقال بانيا على صحة [ ص: 263 ] الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه فوق سبع سموات وهو أقوى من الوحي ، فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة وأراد إعلامهم بالوقت رأى الصحابي المنام فقصه فوافق ما كان - صلى الله عليه وسلم - سمعه فقال : " إنها لرؤيا حق " ، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء أن يكون سنة في الأرض ، وتقوى ذلك بموافقة عمر لأن السكينة تنطبق على لسانه ، والحكمة أيضا في إعلام الناس به على غير لسانه - صلى الله عليه وسلم - التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه ، انتهى ملخصا .

والثاني : حسن بديع ويؤخذ من عدم الاكتفاء برؤية عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة ، وجاء في رواية ضعيفة ما ظاهره : أن بلالا رأى أيضا لكنها مؤولة فإن لفظها سبقك بها بلال فيحمل على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد ، ومما يكثر السؤال عنه هل باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان بنفسه ؟ وقد روى الترمذي بإسناد حسن عن يعلى بن مرة الثقفي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في سفر وصلى بأصحابه وهم على رواحلهم السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم ، قال السهيلي : فنزع بعض الناس بهذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن بنفسه ، لكن روى الحديث الدارقطني بسند الترمذي ومتنه وقال فيه : فأمر بالأذان فقام المؤذن فأذن ، والمفصل يقضي على المجمل المحتمل ، انتهى .

وتبع هذا البعض النووي فجزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن مرة في سفره وعزاه للترمذي وقواه وتعقبه الحافظ فقال : ولكن وجدنا الحديث في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي بلفظ : فأمر بلالا فأذن ، فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا ، وأن معنى " أذن " أمر بلالا به ، كما يقال : أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفا وإنما باشر العطاء غيره ونسب للخليفة لكونه أمر به ، انتهى .

وانتصر بعض للنووي تبعا للبعض بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة ، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء لأذن على حقيقته عملا بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته وهو مردود بأن ذلك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ، ومخرجه أما مع الاتحاد فلا ، ويجب رجوع المجمل إلى المفصل عملا بقاعدة الأصول وأهل الحديث ، وقال بعض المحدثين : لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه لاختلاف الرواة في ألفاظه ونحوها ، نعم قال السيوطي : في شرح البخاري : قد ظفرت بحديث آخر مرسلا رواه سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة قال : أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة فقال : " حي على الفلاح " ، قال : وهذه رواية لا تقبل التأويل ، انتهى .

فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده ، وانظر ما أحسن قوله آخر لكن لم يبين هل كان في سفر أو حضر ؟

[ ص: 264 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية