صفحة جزء
كتاب القدر

باب النهي عن القول بالقدر

وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحاج آدم وموسى فحج آدم موسى قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق
[ ص: 382 ] 46 - كتاب القدر

1 - باب النهي عن القول بالقدر

بفتح القاف والدال المهملة وقد تسكن ، قال الراغب : هو التقدير والقضاء هو التفصيل والقطع ، فالقضاء أخص من القدر لأنه الفصل بين التقدير فالقدر كالأساس ، وذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المعد للكيل ، والقضاء بمنزلة الكيل .

قال أهل السنة : قدر الله الأشياء ، أي : علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه ، فلا يحدث في العالم العلوي والسفلي شيء إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وإن خلقه ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وإن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله وبقدرته وإلهامه لا إله إلا هو ولا خالق غيره ، كما نص عليه القرآن والسنة .

قال ابن السمعاني : سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل ، فمن عدل عن التوقيف ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء ولا يطمئن به القلب ; لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص به الخبير العليم وضرب دونه الأستار ، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة ، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب ، وقيل : القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل دخولها .

1660 1612 - ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تحاج ) بفتح الفوقية والمهملة وشد الجيم أصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى ( آدم وموسى ) أي : ذكر كل منهما حجته ، قال القابسي وابن عبد البر : التقت أرواحهما في السماء أول ما مات موسى فتحاجا .

قال عياض : ويحتمل أن الله أحياهما فاجتمعا فتحاجا بأشخاصهما كما جاء في الإسراء ، وقيل : كان هذا في حياة موسى وأنه سأل الله أن يريه آدم فأجابه .

ذكر ابن جرير في ذلك أثرا أن موسى [ ص: 383 ] قال : رب ، أبونا آدم الذي أخرجنا وأخرج نفسه من الجنة أرنيه ، فأراه إياه ( فحج آدم ) بالرفع فاعل ( موسى ) في محل نصب مفعول ، أي : غلبه بالحجة ( قال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس ) قال الباجي : أي : عرضتهم للإغواء لما كنت سبب خروجهم من الجنة ، وقال عياض : أي : أنت السبب في إخراجهم وتعريضهم لإغواء الشيطان ( وأخرجتهم من الجنة ) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس والفناء .

وفيه أن الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة التي يسكنها المؤمنون في الآخرة ، فيرد قول المبتدعة أنها غيرها .

قال الأبي : كأن موسى جوز الولادة في الجنة مع أنها مشقة لأنها إنما هي مشقة في الدنيا ، وقد قيل في هابيل أنه من حمل الجنة .

وذكر الغزالي عن أبي سعيد مرفوعا : " أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي ويكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة " وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا : " احتج آدم وموسى فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة " وفي رواية : " أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض ؟ " ( فقال له آدم : أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء ) قال عياض : عام يراد به الخصوص ، أي : مما علمك ويحتمل مما علمه البشر ( واصطفاه ) اختاره ( على الناس ) أهل زمانه ( برسالته ) بالإفراد وقرئت الآية به وبالجمع .

وفي رواية للصحيحين : " اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده " وفي أخرى : " اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح ، فيها تبيان كل شيء " ( قال : نعم ، قال : أفتلومني على أمر قد قدر ) بشد الدال مبني للمجهول ( علي قبل أن أخلق ؟ ) فحجه بذلك بأن ألزمه أن ما صدر منه لم يكن هو مستقلا به متمكنا من تركه بل كان قدرا من الله لا بد من إمضائه ، أي : أن الله أثبته في علمه قبل كوني وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار ؟ وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي على أحد الأقوال عند ملتقى الأرواح ، واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف ، أما بعدها فأمره إلى الله لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق ، فالتائب لا يلام على ما [ ص: 384 ] تيب عليه منه لا سيما إذا انتقل عن دار التكليف .

وفي رواية للشيخين : " أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ " وفي حديث أبي سعيد عند البزار : " أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ " وجمع بحمل المقيدة بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والأخرى على ما يتعلق بالعلم .

قال المازري : " الأربعين " مثل خلقه تاريخ محدود وقضاء الله الكائنات وإرادته أزلي ، فيجب حمل الأربعين على أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة أو فعل فعلا ما أضاف إليه هذا التاريخ ، والأظهر أن المراد : بقدر كتبه في التوراة ألا تراه .

قال في الطريق الآخر : فكم وجدت الله كتبه في التوراة من قبل أن أخلق ؟ قال : بأربعين .

فإن قيل : معنى التحاج ذكر كل واحد من المتناظرين حجته ولا بد من بيان ما تقع به المحاجة وهو هنا اللوم فموسى أثبته وآدم نفاه ، ولا شك أن آدم احتج بشيء سبق به القدر ، وأما موسى فإنما ذكر الدعوى ولم يذكر حجة .

أجاب الأبي بأن قوله في تلك الطريق أنت أبونا حجة ; لأن الأب محل الشفقة ، وهي تمنع من وقوع ما يضر بالولد .

وقال ابن العربي ، والباجي : ليس ما سبق من القضاء والقدر يرفع الملامة عن البشر لكن معناه قدر علي وتبت منه والتائب لا يلام ، وقيل : إنما غلبه لأن آدم أبوه ولم يشرع للابن لوم الأب .

قال المازري : وهذا بعيد من سياق الحديث ، وقيل : لأن موسى كان قد علم من التوراة أن الله جعل تلك الأكلة سببا لهبوطه إلى الأرض وسكناه بها ونشر ذريته فيها وتكليفهم ليرتب الثواب والعقاب عليهم ، وإذا علم ذلك فلا بد من الخروج وقد فعل سببه ففيم اللوم ؟ وقيل : إنما غلبه لأن ترتيب اللوم على الذم ليس أمرا عقليا لا ينفك ، وإنما هو أمر شرعي يجوز أن يرتفع ، فإذا تاب الله على آدم وغفر له فقد رفع عنه اللوم فمن لام فيه محجوج مغلوب بالشرع .

وقيل : لما تاب الله عليه لم يجب لومه على المخالفة .

ومباحثها إنما هي على السبب الذي دعاه إلى ذلك ولم يكن عند آدم سبب إلا قضاء الله وقدره ; ولذا فحج آدم موسى ; ولذا قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله وذكر فضائله ، أي : كما قضى تعالى لك بذلك ونفذه فيك ، كذلك قضى علي فيما فعلت ونفذه في .

وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية