صفحة جزء
وحدثني عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاث ليال

قال مالك لا أحسب التدابر إلا الإعراض عن أخيك المسلم فتدبر عنه بوجهك
1683 1633 - ( مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك ) رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تباغضوا ) بحذف إحدى التاءين فيه وفي تالييه ، أي : لا تتعاطوا أسباب التباغض ولا تفعلوا الأهواء المضلة المقتضية للتباغض والتجانب لأن التباغض مفسد للدين .

( ولا تحاسدوا ) بأن يتمنى أحدكم زوال النعمة عن أخيه فإن سعى في ذلك كان باغيا وإن لم يسع في ذلك ولا تسبب فيه ، فإن كان المانع عجزه بحيث لو تمكن فعل فإنه آثم ، وإن كان المانع التقوى فقد يعذر لأنه لا يملك دفع الخواطر النفسانية ، فيكفيه في مجاهدة نفسه عدم العمل والعزم عليه .

ولعبد الرزاق مرفوعا : " ثلاث لا يسلم منها أحد : الطيرة والظن والحسد ، قيل : فما المخرج منهن يا رسول الله ؟ قال فإذا تطيرت فلا ترجع ، وإذا ظننت فلا تحقق ، [ ص: 413 ] وإذا حسدت فلا تبغ " وروى ابن عبد البر عن الحسن البصري : ليس أحد من ولد آدم إلا وقد خلق معه الحسد فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء ، وقد ذم الله قوما على حسدهم آخرين فقال : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ سورة النساء : الآية 54 ] وقال : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض إلى قوله : واسألوا الله من فضله [ سورة النساء : الآية 32 ] وجاء مرفوعا : " إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " وروى ابن أبي شيبة عن الزبير مرفوعا : " دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء حالقتا الدين لا حالقتا الشعر " وعنه أيضا عن عمر بن ميمون : " لما رفع الله موسى نجيا رأى رجلا متعلقا بالعرش فقال : يا رب من هذا ؟ قال : هذا عبد من عبادي صالح إن شئت أخبرتك بعمله ، قال : يا رب أخبرني ، قال : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله " قال ابن عبد البر : وهذا مخصوص بحديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم : " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " وبحديث الصحيح عن ابن مسعود مرفوعا : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " ا هـ على أن هذا إنما هو غبطة وهو أن يتمنى أن يكون له مثله من غير أن يتمنى زواله عنه .

( ولا تدابروا ) أي : لا يعرض أحدكم بوجهه عن أخيه ويوله دبره استثقالا وبغضا له بل يقبل عليه ويبسط له وجهه ما استطاع .

( وكونوا ) يا ( عباد الله ) فهو منادى بحذف الأداة ( إخوانا ) زاد في رواية قتادة عن أنس : " كما أمركم الله " ، أي : متواخين متوادين باكتساب ما تصيرون به كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والنصيحة .

( ولا يحل لمسلم أن يهاجر ) قال أبو عمر : كذا ليحيى وحده وسائر رواة الموطأ يقولون يهجر ( أخاه ) في الإسلام ( فوق ثلاث ليال ) بأيامها .

قال ابن العربي : إنما جوز في الثلاث لأن المرء في ابتداء الغضب مغلوب فرخص له في ذلك حتى يسكن غضبه ، زاد عياض : وقيل : يحتمل السكوت عن حكمها ليطلب في الشرع واقتصر على ما وراءها ، وهذا على رأي من لا يقول بالمفهوم من الأصوليين ، قال الأبي : والمراد بالأخوة أخوة الإسلام فمن لم يكن كذلك جاز هجره فوق الثلاث ، والمراد بالهجرة فيما يقع بين الناس من عتب أو موجدة ، أي : غضب أو تقصير في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان في جانب الدين ، فإن هجرة أهل البدع دائما ما لم تظهر التوبة ، ومر له مزيد .

[ ص: 414 ] ( قال مالك : لا أحسب التدابر ) أي : معناه في الحديث ( إلا الإعراض عن أخيك المسلم ) وترك الكلام والسلام ونحوهما ( فتدبر عنه بوجهك ) لأن من أبغضته أعرضت عنه ومن أعرضت عنه وليته دبرك ، وكذلك يصنع هو بك .

ومن أحببته أقبلت عليه وواجهته لتسره ويسرك ، فمعنى تدابروا وتقاطعوا وتباغضوا معنى متداخل متقارب كالمعنى الواحد في الندب إلى التواخي والتحابب ، فبذلك أمر صلى الله عليه وسلم وأمره للوجوب إلا لدليل يخرجه إلى الندب كذا قال أبو عمر ، وظاهره التنافي إلا أن يكون مراده بالأمر ا هـ ، أي : أنه للتحريم فيجب تركه ، ثم بعد ذلك يستحب التواخي والتحابب ، قال : وقد زاد سعيد بن أبي مريم عن مالك عقب قوله ولا تدابروا ولا تنافسوا قال حمزة الكناني : لا أعلم أحدا قالها غيره عن مالك في هذا الحديث ، وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى عن مالك به ، وتابعه شعيب عند البخاري والزبيدي ويونس وابن عيينة وزاد : " ولا تقاطعوا " ومعمر أربعتهم عند مسلم والخمسة عن ابن شهاب وله طرق في الصحيحين وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية