صفحة جزء
وحدثني عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة وضيافته ثلاثة أيام فما كان بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه
1728 1678 - ( مالك عن سعيد بن أبي سعيد ) كيسان ( المقبري ) - بضم الباء ، وفتحها - المدني - ( عن أبي شريح ) - بضم الشين المعجمة ، وآخره حاء مهملة - الخزاعي ، ثم ( الكعبي ) نسبة إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة اسمه خويلد بن عمرو على الأشهر ، وقيل عمرو بن خويلد ، وقيل : هانئ وقيل : كعب بن عمرو ، وقيل : عبد الرحمن ، أسلم قبل الفتح ، وكان معه لواء خزاعة يوم فتح مكة نزل المدينة ، وله أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى أيضا عن ابن مسعود ، وروى عنه جماعة من التابعين ، مات بالمدينة سنة ثمان وستين ، ( أن رسول الله قال ) ، وفي رواية الليث عن سعيد عن أبي شريح : سمعت أذناي ، وأبصرت عيناي حين تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( من كان يؤمن بالله ) الذي خلقه إيمانا كاملا ، ( واليوم الآخر ) الذي إليه معاده ، وفيه جزاؤه ، فهو إشارة إلى المبدأ والمعاد ، وعبر بالمضارع هنا وفيما بعده قصدا إلى استمرار الإيمان ، وتجدده بتجدد أمثاله وقتا فوقتا ; لأنه عرض لا يبقى زمانين ، وذلك لأن المضارع لكونه فعلا يفيد التجدد والحدوث ، وهذا من خطاب التهييج من قبيل : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ( سورة المائدة : الآية 23 ) ، أي أن ذلك من صفة المؤمن ، وأن خلافه لا يليق بمن يؤمن بذلك ، ولو قيل : لا يحل لأحد لم يحصل هذا الغرض .

( فليقل خيرا ) يثاب عليه بعد التفكر ، فيما يريد التكلم به ، فإذا ظهر له أنه خير لا يترتب عليه مفسدة قاله .

( أو ليصمت ) [ ص: 477 ] - بضم الميم - أي يسكت عن الشر فيسلم ؛ لقوله في الحديث الآخر : " من صمت نجا " ، قاله عياض ، وقد ضبطه غير واحد - بضم الميم - وكأنه الرواية المشهورة ، وإلا فقد قال الطوفي : سمعناه - بكسرها - وهو القياس ; لأن قياس فعل - بفتح العين - ماضيا يفعل - بكسرها - مضارعا نحو ضرب يضرب ، ويفعل - بضم العين - فيه دخيل كما في الخصائص لابن جني ، انتهى .

أي يسكت عن ما لا خير فيه ، وفواتهما ينافي حال المؤمنين ، وشرف الإيمان لأنه من الأمن ، ولا أمان لمن فاته الغنيمة والسلامة .

وفي رواية : أو ليسكت ، ومعناهما واحد ، لكن الصمت أخص ; لأنه السكوت مع القدرة وهو المأمور به ، أما السكوت مع العجز لفساد آلة النطق ، فهو الخرس ، أو لتوقفها فهو العي ، قال القرطبي : معناه أن المصدق بالثواب والعقاب المترتبين على الكلام في الدار الآخرة لا يخلو ، إما أن يتكلم بما يحصل له ثوابا ، أو خيرا فيغنم ، أو يسكت عن شيء يجلب له عقابا ، أو شرا فيسلم ، فـ " أو " للتنويع والتقسيم فيسن له الصمت حتى عن المباح لأدائه إلى محرم أو مكروه ، وبفرض خلوه عن ذلك فهو ضياع الوقت فيما لا يعني ، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، قال : وأفاد الحديث أن قول الخير أفضل من الصمت لتقديمه عليه ، وإنما أمر به عند عدم قول الخير ، وقد أكثر الناس في تفصيل آفات الكلام ، وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر ، وحاصله أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان وأعظمها في الهلاك والخسران ، فالأصل ملازمة الصمت حتى تتحقق السلامة من الآفات والحصول على الخيرات ، فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة وبأزمة التقوى مزمومة ، وهذا من جوامع الكلم ; لأن الكلام كله خير أو شر أو آيل إلى أحدهما ، فدخل في الخير كل مطلوب من فرض ، ونفل فأذن فيه على اختلاف أنواعه ، ودخل فيه ما يؤول إليه ، وما عدا ذلك مما هو شر ، أو يؤول إليه ، فأمر بالصمت عنه ، فكل من آمن بالله حق الإيمان خاف وعيده ورجا ثوابه ، ومن آمن باليوم الآخر استعد واجتهد في فعل ما يدفع به أهواله ، فيأتمر بالأوامر وينتهي عن النواهي ، ويتقرب لمولاه بما يقربه إليه ، ويعلم أن من أهم ما عليه ضبط جوارحه ، ومن أكثر المعاصي عددا وأيسرها فعلا معاصي اللسان ، وقد استقرأ المحاسبون لأنفسهم آفات اللسان ، فزادت على العشرين ، وأرشد - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك جملة ، فقال : وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم إلى غير ذلك ، فمن آمن بذلك حق إيمانه اتقى الله في لسانه .

وقد قال ابن مسعود وسلمان : ما شيء أحق بطول السجن من اللسان .

( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، أي يوم القيامة ، وصف به لتأخره عن أيام الدنيا ، أو لأنه أخر الحساب إليه ، أو لأنه لا ليل بعده ، ولا يقال يوم إلا لما بعده ليل ، أي يصدق بوجوده مع ما اشتمل عليه من الأحوال والأهوال ، واكتفى بهما عن الإيمان بالرسل [ ص: 478 ] والكتب وغيرهما ; لأن الإيمان به على ما هو عليه يستلزم الإيمان بنبوءته - صلى الله عليه وسلم - وهو يستلزم الإيمان بجميع ما جاء به .

( فليكرم جاره ) بالبشر ، وطلاقة الوجه وبذل الندى وكف الأذى ، وتحمل ما فرط منه ونحو ذلك .

وفي رواية نافع عن جبير عن أبي شريح عند مسلم : " فليحسن إلى جاره " ، وفي رواية للشيخين من حديث أبي هريرة : " فلا يؤذي جاره " ، وقد أوصى الله بالإحسان إليه في القرآن ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ، قال القرطبي : فمن كان مع هذا التأكيد الشديد مضرا لجاره كاشفا لعوراته ، حريصا على إنزال البوائق به كان ذلك منه دليلا على فساد اعتقاد ونفاق ، فيكون كافرا ، ولا شك أنه لا يدخل الجنة ، وأما على امتهانه بما عظم الله من حرمة الجار ، ومن تأكيد عهد الجوار فيكون فاسقا فسقا عظيما ، ومرتكب كبيرة يخاف عليه من الإصرار عليها أن يختم له بالكفر ، فإن المعاصي بريد الكفر ، فيكون من الصنف الأول ، فإن سلم من ذلك ومات بلا توبة ، فأمره إلى الله ، وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في رعايته وحفظ حقه .

حكى ابن عبد البر عن أبي حازم بن دينار قال : كان أهل الجاهلية أبر منكم بالجار ، هذا قائلهم قال :

ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي ينزل القدر     ما ضر جاري إذ أجاوره
أن لا يكون لبابه ستر     أغض طرفي إذ ما جارتي برزت
حتى يواري جارتي الخدر

وقال آخر :

أغض طرفي ما بدت لي جارتي     حتى يواري جارتي مأواها

قال الحافظ : واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد ، وله مراتب أعلى من بعض ، فأعلى من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ، ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد ، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى ، فيعطى كل حقه بحسب حاله ، وقد تتعارض صفتان فترجح أو تساوي ، وقد حمله ابن عمر على العموم ، فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي ، كما رواه البخاري في الأدب المفرد ، والترمذي وحسنه ، ووردت الإشارة إلى ما ذكر في حديث مرفوع أخرجه الطبراني : " الجيران ثلاثة : جار له حق وهو المشرك له حق الجوار ، وجار له حقان ، وهو المسلم له حق الجوار ، وحق الإسلام ، وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم له رحم ؛ حق الإسلام ، والجوار ، والرحم ، والأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فقد يكون فرض عين ، وقد يكون فرض كفاية ، وقد يكون [ ص: 479 ] مندوبا ، ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق . وجاء تفسير الإحسان والإكرام للجار في أخبار أخر منها : ما رواه الطبراني ، والخرائطي ، وأبو الشيخ عن معاوية بن حيدة ، قلت : " يا رسول الله ما حق جاري علي ؟ قال : إن مرض عدته ، وإن مات شيعته ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن أعوز سترته ، وإن أصابه خير هنيته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح ، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها " ، وروى الخرائطي ، والطبراني عن معاذ : " قالوا : يا رسول الله ما حق الجار على جاره ؟ قال : إن استقرضك أقرضته ، وإن استعانك أعنته ، وإن مرض عدته ، وإن احتاج أعطيته ، وإن افتقر عدت عليه ، وإذا أصابه خير هنيته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، وإن مات اتبعت جنازته ، ولا تستطيل عليه البناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها " ، وإن اشتريت فاكهة ، فأهد له ، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده " ، ورواه الخرائطي أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وألفاظهم متقاربة ، وأسانيدهم واهية ، لكن تعدد مخارجها يشعر بأن للحديث أصلا .

قال ابن أبي جمرة : وإكرام الجار من كمال الإيمان ، والذي يشمل جميع وجوه ، الإكرام إرادة الخير له ، وموعظته بالحسنى ، والدعاء له بالهداية ، وترك الإضرار على اختلاف أنواعه حسيا كان أو معنويا ، إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار بالقول أو الفعل ، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم ، وغير الصالح كفه عما يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه ، وإظهار محاسنه ، والترغيب فيه برفق ، والفاسق بما يليق به برفق ، فإن أفاد ، وإلا هجره قاصدا تأديبه مع إعلامه بالسبب ، وهنا تنبيه وهو أنه إذا أمر بإكرام الجار مع الحائل بين الإنسان وبينه ، فينبغي أن يرعى حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ، ولا حائل ، فلا يؤذيهما بأنواع المخالفات في مرور الساعات ، فقد ورد أنهما يسران بالحسنات ويحزنان بالسيئات ، فينبغي إكرامهما ورعاية جانبهما بالإكثار من عمل الطاعات ، والمواظبة على تجنب المعاصي ، فهما أولى بالإكرام من كثير من الجيران اه .

وقال ابن العربي : حد الجوار في رواية بعضهم مرفوعا ، إلى أربعين دارا ، ولم يثبت ، وعنوا به من كل جهة ، وهذا دعوى لا برهان عليها ، والذي يتحصل عند النظر أن الجار له مراتب : الأول الملاصقة ، والثاني المخالطة بأن يجمعهما مسجد ، أو مجلس ، أو بيوت ، ويتأكد الحق مع المسلم ، ويبقى أصله مع الكافر والمسلم ، وقد يكون مع العاصي بالتستر عليه اه .

وقالت عائشة : " يا رسول الله إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال : إلى أقربهما منك بابا " ، قال الزواوي : هذا والله أعلم إذا كان المشي قليلا فالأقرب بابا أولى به ، فأما مع السعة وكثرة ما يهدى فليهد [ ص: 480 ] إلى غير واحد الأقرب فالأقرب .

( ومن كان يؤمن بالله ، واليوم الآخر ) إيمانا كاملا ، ( فليكرم ضيفه ) بطلاقة الوجه والإتحاف والزيادة ( جائزته ) - بجيم ، وزاي منقوطة - أي منحته ، وعطيته وإتحافه بأفضل ما يقدر عليه ، روي بالرفع مبتدأ خبره ( يوم وليلة ) ، وبالنصب مفعول ثاني ليكرم ; لأنه في معنى يعطي ، أو بنزع الخافض ، أي بجائزته ، وهي يوم وليلة ، وبدل اشتمال ، وفي رواية الليث : " فليكرم ضيفه جائزته ، قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يوم وليلة " ، ( وضيافته ثلاثة أيام ) باليوم الأول ، أو ثلاثة بعده ، والأول أشبه ، لكن في مسلم من رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح : " الضيافة ثلاثة أيام ، وجائزته يوم وليلة " ، وهذا يدل على المغايرة ، قال عيسى بن دينار : معنى جائزته يوم وليلة أن يتحفه ، ويكرمه بأفضل ما يستطيعه ، وضيافته ثلاثة كأنه يريد من غير تكلف كما يتكلف في أول ليلة .

قال الباجي : ويحتمل أن الضيافة لمن أراد الجواز يوم وليلة ولمن أراد المقام ثلاثة أيام .

وقال الخطابي : أي يتكلف له يوما وليلة ، فيتحفه ويزيد في البر على ما يحضره في سائر الأيام ، وفي اليومين الآخرين يقدم له ما حضر ، فإذا مضت الثلاث فقد مضى حقه .

( فما كان بعد ذلك ) مما يحضره له بعد ذلك ، ( فهو صدقة ) عليه ، وفي التعبير بصدقة تنفير عنه ; لأن كثيرا من الناس لا سيما الأغنياء يأنفون غالبا من أكل الصدقة ، وكان ابن عمر إذا قدم مكة نزل على أصهاره ، فيأتيه طعامه من عند دار خالد بن أسيد ، فيأكل من طعامهم ثلاثة أيام ، ثم يقول : احبسوا عنا صدقتكم ، ويقول لنافع : أنفق من عندك الآن ، أخرجه أبو عمر في التمهيد .

( ولا يحل له ) للضيف ( أن يثوي ) - بفتح التحتية ، وسكون المثلثة ، وكسر الواو ، أي يقيم ( عنده ) عند من أضافه ( حتى يحرجه ) - بضم التحتية ، وسكون الحاء المهملة ، وكسر الراء ، وجيم - من الحرج ، وهو الضيق قال أبو عمر : أي يضيق عليه .

وقال الباجي : يحتمل أن يريد حتى يؤثمه ، وهو أن يضر به مقامه ، فيقول أو يفعل ما يؤثمه ، انتهى .

ولمسلم : حتى يؤثمه ، أي يوقعه في الإثم ; لأنه قد يغتابه لطول إقامته ، أو يعرض له ما يؤذيه ، أو يظن به ظنا سيئا ، ويستفاد منه أنه إذا ارتفع الحرج جازت الإقامة بعد أن يختار المضيف إقامة الضيف ، أو يغلب على ظن الضيف أن المضيف لا يكره ذلك ، ثم الأمر بالإكرام للاستحباب عند الجمهور لأن الضيافة من مكارم الأخلاق ومحاسن الدين ، وخلق النبيين لا واجبة لقوله : جائزة ، والجائزة تفضل وإحسان لا تجب اتفاقا ، هكذا استدل به الطحاوي ، وابن بطال ، وابن عبد البر ، وقال الليث وأحمد : تجب الضيافة ليلة واحدة للحديث المرفوع : " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم " [ ص: 481 ] وحديث الصحيح مرفوعا : " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " ، وأجاب الجمهور عن هذين وما أشبههما بأن هذا كان في صدر الإسلام حتى كانت المواساة واجبة ، أو للمجاهدين في أول الإسلام لقلة الأزواد ، ثم نسخ ، وبأنه محمول على المضطرين ، فإن ضيافتهم واجبة من حيث الاضطرار ، أو مخصوص بالعمال الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة ، أو الكلام في أهل الذمة المشروط عليهم ضيافة المارة .

وعند الشافعي ، ومحمد بن عبد الحكم : أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية .

وعند مالك وسحنون : إنما هي على أهل البوادي ، لا على أهل الحضر لوجود الفنادق وغيرها للنزول فيها ، ووجود الطعام للبيع فيها .

قال بعضهم : ولا يحصل الامتثال إلا بالقيام بكفايته ، فلو أطعمه بعض كفايته لم يكرمه لانتفاء جزء الإكرام ، وإذا انتفى جزؤه انتفى كله .

وفي كتاب المنتخب من الفردوس ، عن أبي الدرداء مرفوعا : " إذا أكل أحدكم مع الضيف ، فليلقمه بيده ، فإذا فعل ذلك كتب له به عمل سنة صيام نهارها ، وقيام ليلها " ، ومن حديث قيس بن سعد : من إكرام الضيف أن يضع له ما يغسل به حين يدخل المنزل ، ومن إكرامه أن يركبه إذا انقلب إلى منزله إن كان بعيدا ، وأن يجلس تحته .

وروى ابن شاهين عن أبي هريرة برفعه : " من أطعم أخاه لقمة حلوة ، لم يذق مرارة يوم القيامة " ، هذا ومحل الاستحباب فيمن وجد فاضلا عن من يمونه وإلا فليس له ذلك .

وأما حديث الأنصاري الذي أثنى الله تعالى عليه ، وعلى زوجته بإيثارهما الضيف على أنفسهما وصبيانهما حيث نومتهم أمهم حتى أكل الضيف ، فأجيب عن ظاهره من تقديم الضيف على حاجة الصبيان بأنهم لم تشتد حاجتهم للأكل ، وإنما خاف أبواهما أن الطعام لو قدم للضيف وهم منتبهون لم يصبروا على الأكل ، وإن لم يكونوا جياعا .

وهذا الحديث من جوامع الكلم لاشتماله على ثلاثة أمور تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية ، وحاصله أن كامل الإيمان متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير ، أو سكوتا عن الشر ، أو فعلا لما ينفع ، أو تركا لما يضر ، فليس المراد ما اقتضاه ظاهره من توقف الإيمان على ما ذكر فيه ، بل المراد الإيمان الكامل كما علم ، أو على المبالغة في استجلاب هذه الأفعال كما تقول لولدك : إن كنت ابني فأطعمني تحريضا ، وتهييجا على الطاعة ; لأنه بانتفاء الطاعة تنتفي ولديته .

وأخرجه البخاري في الأدب عن عبد الله بن يوسف ، وإسماعيل كلاهما عن مالك به ، وتابعه الليث عند البخاري ، وعبد الحميد بن جعفر عند مسلم كلاهما عن سعيد نحوه ، وأخرجه مسلم أيضا من حديث نافع بن جبير عن أبي شريح نحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية