صفحة جزء
وحدثني عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب وخرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له فقالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا فقال في كل ذي كبد رطبة أجر
[ ص: 482 ] 1729 1679 - ( مالك عن سمي ) - بضم السين المهملة ، وفتح الميم ، وشد التحتية - ( مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : بينما ) - بميم ، وفي رواية بدونها - ( رجل ) قال الحافظ : لم يسم ( يمشي بطريق ) ، وللدارقطني في الموطآت من طريق روح بن عبادة عن مالك : " يمشي بفلاة " ، وله من طريق ابن وهب عن مالك : " يمشي بطريق مكة " ، ( إذ اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ) منها ، ( وخرج ) من البئر ، وفي رواية : " ثم خرج " ، ( فإذا كلب ) ، وفي رواية : " فإذا هو بكلب " ، ( يلهث ) - بفتح الهاء ، ومثلثة - أي يرتفع نفسه بين أضلاعه ، أو يخرج لسانه من العطش حال كونه ( يأكل الثرى ) - بفتح المثلثة ، والقصر - التراب الندي ( من العطش ) ، ويجوز أن " يأكل " خبر ثان ، ( فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب ) - بالرفع والنصب - ( من العطش ) الشديد الذي أصابه ( مثل الذي بلغ مني ) ، وفي رواية " بي " ، وزاد ابن حبان من وجه آخر عن أبي صالح : " فرحمه " ، و " مثل " ضبطه الحافظ وغيره بالنصب نعتا لمصدر محذوف ، أي بلغ مبلغا مثل الذي بلغ مني ، قال في المصابيح : ولا يتعين لجواز أن المحذوف مفعول به ، أي عطشا ، وضبطه الحافظ الدمياطي وغيره بالرفع على أنه فاعل يبلغ ، فهما روايتان ، ( فنزل البئر فملأ خفه ) ماء ، ( ثم أمسكه بفيه ) ليصعد من البئر لعسر الرقي منها ، ( حتى رقي ) - بفتح الراء ، وكسر القاف - كصعد وزنا ومعنى ، ومقتضى كلام ابن التين أن الرواية رقى بفتح القاف ، فإنه قال : كذا وقع ، وصوابه : رقي على وزن علم ، ومعناه : صعد ، قال تعالى : ( أو ترقى في السماء ) ( سورة الإسراء : الآية 93 ) ، وأما رقى بفتح القاف ، فمن الرقية ، وليس هذا موضعه ، وخرجه على لغة طي في مثل : بقى يبقى ورضى يرضى يأتون بالفتحة مكان الكسرة ، فتقلب الياء ألفا ، وهذا دأبهم في كل ما هو من هذا الباب ، انتهى .

قال في المصابيح : ولعل المقتضي لإيثار الفتح هنا - إن صح - قصد المزاوجة بين رقى وسقى ، وهي من مقاصدهم التي يعتمدون فيها تغيير الكلمة عن وضعها الأصلي .

( فسقى الكلب ) ، زاد عبد الله بن دينار عن أبي صالح : " حتى أرواه " ، كما [ ص: 483 ] في الصحيحين ، أي جعله ريان ، ( فشكر الله له ) ، أثنى عليه ، أو قبل عمله ذلك ، أو أظهر ما جازاه به عند ملائكته .

( فغفر له ) ، الفاء للسببية ، أي بسبب قبوله غفر له ، وفي رواية ابن دينار بدله : " فأدخله الجنة " ، ( فقالوا ) : أي الصحابة ، وسمي منهم سراقة بن مالك بن جعشم عند أحمد ، وابن ماجه ، وابن حبان ( يا رسول الله ) الأمر كما قلت ، ( وإن لنا في ) سقي ( البهائم ) ، أو في الإحسان إليها ( لأجرا ) ثوابا ؟ ( فقال ) - صلى الله عليه وسلم - : ( في كل كبد ) - بفتح الكاف ، وكسر الموحدة - ويجوز سكونها ، وكسر الكاف ، وسكون الموحدة - : رطبة برطوبة الحياة من جميع الحيوان ، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فيكون كناية عنها ، أو هو من باب وصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه فيكون معناه : في كل كبد حرى لمن سقاها حتى تصير رطبة ( أجر ) بالرفع ، مبتدأ قدم خبره ، أي حاصل وكائن في إرواء كل ذي كبد حية ، ويحتمل أن " في " سببية كقولك : في النفس الدية ، قال الداودي : المعنى : في كل كبد حي ، وهو عام في جميع الحيوان ، قال الأبي : حتى الكافر ، ويدل عليه قوله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) ( سورة الإنسان : الآية 8 ) ; لأن الأسير إنما يكون في الأغلب كافرا ، انتهى .

وقال أبو عبد الملك : هذا الحديث كان في بني إسرائيل ، وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب ، وقوله : في كل كبد ، مخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه ; لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره ، وكذا قال النووي : عمومه مخصوص بالحيوان المحترم ، وهو مما لم يؤمر بقتله فيحصل الثواب بسقيه ، ويلتحق به إطعامه ، وغير ذلك من وجوه الإحسان .

وقال ابن التين : لا يمنع إجراؤه على عمومه ، يعني : فيسقي ، ثم يقتل لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة ، ونهينا عن المثلة ، وفيه جواز حفر الآبار في الصحراء لانتفاع عطشان وغيره بها .

فإن قيل : كيف ساغ مع مظنة الاستضرار بها من ساقط بليل ، أو وقوع بهيمة ، ونحوها فيها ؟ أجيب بأنه لما كانت المنفعة أكثر ومتحققة ، والاستضرار نادرا ، أو مظنونا غلب الانتفاع ، وسقط الضمان ، فكانت جبارا ، فلو تحققت الضرورة لم يجز ، وضمن الحافر ، وفيه الحث على الإحسان وأن سقي الماء من أعظم القربات .

وأخرجه البخاري في الشرب عن عبد الله بن يوسف ، وفي المظالم عن القعنبي ، وفي الأدب عن إسماعيل ، ومسلم في الحيوان عن قتيبة بن سعيد ، وأبو داود في الجهاد عن القعنبي ، كلهم عن مالك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية