صفحة جزء
كتاب العين

باب الوضوء من العين

وحدثني يحيى عن مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر قال وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء قال فوعك سهل مكانه واشتد وعكه فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس
[ ص: 505 ] 5 - كتاب العين

1 - باب الوضوء من العين

1746 1697 - ( مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ) - بضم المهملة - مصغر الأنصاري الثقة ( أنه سمع أباه ) أبا أمامة ، واسمه أسعد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - باسم جده أبي أمه ، وكناه بكنيته لما ولد قبل الوفاة النبوية بسنتين ، ومات سنة مائة ( يقول : اغتسل أبي ) سهل بن حنيف البدري وظاهره الإرسال ، لكنه محمول على أن أبا أمامة سمع ذلك من أبيه ، ففي بعض طرقه عن أبي أمامة : حدثني أبي أنه اغتسل ( بالخرار ) - بفتح المعجمة ، والراء الأولى الشديدة - موضع قرب الجحفة ، قاله ابن الأثير وغيره ، وقال ابن عبد البر : موضع بالمدينة ، وقيل : من أوديتها ، انتهى .

ويؤيد الأول أن في بعض طرق الحديث حتى إذا كان بشعب الخرار من الجحفة ، ( فنزع جبة كانت عليه ، وعامر بن ربيعة ) بن كعب بن مالك العنزي - بسكون النون - حليف الخطاب أسلم قديما ، وهاجر ، وشهد بدرا ، مات ليالي قتل عثمان ( ينظر ) إليه ، ( قال ) أبو أمامة : ( وكان سهل رجلا أبيض حسن ) مليح ( الجلد قال : فقال له عامر بن ربيعة : ما رأيت كاليوم عذراء ) ، أي بكر ( قال : فوعك سهل مكانه واشتد ) قوي ( وعكه ) ، أي ألمه .

وفي الطريق الثاني : فلبط ، أي صرع فكأنه صرع من شدة الوعك .

( فأتي ) - بضم الهمزة - ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر ) بالبناء للمفعول ( أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله ) لعدم [ ص: 506 ] استطاعته بشدة الوعك .

( فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر بن ربيعة ) ، أي نظره إليه ، وقوله ما ذكر .

( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، وفي رواية : فدعا عامرا فتغيظ عليه ، فقال ( علام ) بمعنى لم ، وفيه معنى الإنكار ، ( يقتل أحدكم أخاه ) في الدين ، زاد في بعض طرقه : وهو غني عن قتله .

( ألا ) بالفتح والتشديد بمعنى هلا ، وبها جاء في بعض طرقه ( بركت ) ، أي قلت : بارك الله فيك فإن ذلك يبطل المعنى الذي يخاف من العين ، ويذهب تأثيره .

قال الباجي : وقال ابن عبد البر : يقول : تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه ، فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك ، فإذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ، انتهى .

وروى ابن السني عن سعيد بن حكيم قال : " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خاف أن يصيب شيئا بعينه ، قال : اللهم بارك فيه ولا تضره " ، وأخرج البزار ، وابن السني عن أنس رفعه : " من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره " ، ( إن العين حق ) ، أي الإصابة بها شيء ثابت في الوجود مقضى به في الوضع الإلهي لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال .

قال القرطبي : هذا قول عامة الأمة ، ومذهب أهل السنة ، وأنكره قوم مبتدعة وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود ، فكم من رجل أدخلته العين القبر ، وكم من جمل أدخلته القدر لكن بمشيئة الله سبحانه ، ولا يلتفت إلى معرض عن الشرع والعقل يتمسك باستبعاد لا أصل له ، فإنا نشاهد من خواص الأحجار ، وتأثير السحر ما يقضي منه العجب ، ويحقق أن ذلك فعل بسبب كل سبب ، انتهى .

( توضأ له ) الوضوء المذكور في الطريق التالية المعبر عنه باغتسل ، ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء ، وغيره ، كما يأتي بيانه ، والأمر للوجوب قال المازري : والصحيح عندي للوجوب ، ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك ، وكان وضوء العائن مما جرت العادة بالبرء به ، أو كان الشرع أخبر به خبرا عاما ، ولم يكن زوال الهلاك إلا بوضوء العائن ، فإنه يصير من باب من تعين عليه إحياء نفس مشرفة على الهلاك ، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر ، فهذا أولى ، وبهذا التقرير يرتفع الخلاف .

( فتوضأ له عامر ) على الصفة الآتية في الطريق بعده ، ثم صب على سهل ، ( فراح سهل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس به بأس ) ، أي شدة لزوال وعكه الذي صرعه ، وفيه إباحة النظر إلى المغتسل ما لم تكن عورة ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لعامر : لم نظرت إليه ، إنما لامه على ترك التبريك .

قال ابن عبد البر : وقد يستحب العلماء أن لا ينظر الإنسان إلى المغتسل خوف أن [ ص: 507 ] يرى عورته ، وإن من الطبع البشري الإعجاب بالشيء الحسن ، والحسد عليه ، وهذا لا يملكه المرء من نفسه ، فلذا لم يعاتب عامر عليه ، بل على ترك التبريك الذي في وسعه ، وأن العين قد تقتل ، وتوبيخ من كان منه أو بسببه سوء ، وإن كان الناس كلهم تحت القدر السابق بذلك كالقاتل يقتل ، وإن كان المقتول يموت بأجله ، وأن العين إنما تعدو إذا لم يبرك ، فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك ، انتهى ، ملخصا .

وقال القرطبي : لو أتلف العائن شيئا ضمنه ، ولو قتل فعليه القصاص ، أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة ، وهو في ذلك كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرا ، وأما عندنا فيقتل ، قتل بسحره أم لا ; لأنه كالزنديق ، وقال النووي : لا يقتل العائن ، ولا دية ، ولا كفارة ; لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس ، وبعض الأحوال مما لا انضباط له ، كيف ولم يقع منه فعل أصلا ، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة ، وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص ، ولا يتعين ذلك المكروه في إزالة الحياة ، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين ، قال الحافظ : ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر ، فإنه في معناه والفرق بينهما عسر .

ونقل ابن بطال عن بعض العلماء أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس ، ويأمره بلزوم بيته ، وإن كان فقيرا رزقه ما يكفيه ويكف أذاه عن الناس ، فإن ضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من دخول المسجد لئلا يؤذي المسلمين ، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر والعلماء بعده الاختلاط بالناس ، ومن ضرر المؤذيات من المواشي الذي يؤمر بإبعادها إلى حيث لا يتأذى بها أحد .

قال عياض : وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين ، ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية