صفحة جزء
جامع السلام

حدثني عن مالك عن إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل نفر ثلاثة فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فلما وقفا على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه
3 - باب : جامع السلام

1791 1745 - ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد الأنصاري النجاري ( عن أبي مرة ) - بضم الميم ، وشد الراء - اسمه يزيد ، وقيل : عبد الرحمن ، مشهور بكنيته ( مولى عقيل ) - بفتح العين - ( ابن أبي طالب ) الهاشمي قيل له : ذلك للزومه إياه ، وإنما هو مولى أخته أم هانىء بنت أبي طالب ، وفي رواية إسماعيل : أن أبا مرة مولى عقيل أخبره ( عن أبي واقد ) - بقاف مكسورة ، ودال مهملة - اسمه الحارث بن مالك ، وقيل : ابن عوف ، وقيل : اسمه عوف بن الحارث الليثي بمثلثة " البدري " في قول بعضهم ، مات سنة ثمان وستين ، وهو ابن خمس وثمانين على الصحيح ، ولم يرو هذا الحديث عنه إلا أبو مرة .

وللنسائي من طريق يحيى بن بكير عن إسحاق عن أبي مرة : أن أبا واقد حدثه : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما ) - بزيادة ما - ( هو جالس في المسجد ) النبوي ، ( والناس معه ) جملة حالية ، ( إذ أقبل نفر ) - بفتح النون ، والفاء - ( ثلاثة ) ، قال الحافظ : لم أقف في شيء من طرق الحديث على تسمية واحد منهم ، والمعنى : نفر هم ثلاثة ، إذ النفر : الرجال من ثلاثة إلى عشرة .

( فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد ) ، هما أقبلا كأنهم أقبلوا أولا من الطريق ، فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس عند البزار ، والحاكم ، فإذا ثلاثة نفر ، فلما رأوا مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل اثنان منهم ، واستمر الثالث ذاهبا .

( فلما وقفا على مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلما ) ، أي على مجلسه ، أو " على " ، بمعنى " عند " [ ص: 571 ] قاله الحافظ ، وتعقب بأنها لم تجئ بمعناها ، وجوابه أن حروف الجر تنوب عن الأسماء ، وتأتي بمعناها ، وفي القرآن من ذلك كثير كقوله : ( لتركبن طبقا عن طبق ) ( سورة الانشقاق : الآية : 19 ) ، أي بعد طبق فعن نائب عن الاسم ، وفيه أن الداخل يبدأ بالسلام وأن القائم يسلم على القاعد ، ولم يذكر رد السلام عليهما اكتفاء بشهرته ، وأن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد ، ولم يذكر أنهما صليا تحية المسجد ، إما لأن ذلك كان قبل أن تشرع ، أو كانا على غير وضوء ، أو كان في غير وقت تنفل ، قاله عياض بناء على مذهبه : أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة .

( فأما ) - بفتح الهمزة ، وشد الميم - ( أحدهما ) مبتدأ خبره ( فرأى ) دخلته الفاء لتضمن أما معنى الشرط ، ( فرجة ) - بضم الفاء ، وفتحها - معا ، هي الخلل بين الشيئين ، ( في الحلقة ) بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط ، وحكي فتحها ، وهو نادر ، والجمع حلق بفتحتين .

( فجلس فيها ) فيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم ، وأن من سبق إلى موضع كان أحق به .

( وأما الآخر ) - بفتح الخاء المعجمة - أي الثاني ، ففيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لإطلاقه هنا على الثاني .

( فجلس خلفهم ) بالنصب على الظرفية .

( وأما الثالث فأدبر ) حال كونه ( ذاهبا ) أي أدبر مستمرا في ذهابه ، ولم يرجع ، وإلا فأدبر بمعنى : مر ذاهبا .

( فلما فرغ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ) مما كان مشتغلا به من تعليم العلم ، أو الذكر ، أو الخطبة ، أو نحو ذلك ، ( قال : ألا ) - بفتح الهمزة ، والتخفيف - حرف تنبيه لا تركيب فيه عند الأكثرين ، فمعناها التنبيه والاستفتاح محلها ، فهي حرف يستفتح به الكلام لتنبيه المخاطب على ذلك لتأكد مضمونه عند التكلم ، ( أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فأوى ) - بالقصر - لجأ ( إلى الله ) تعالى ، ( فآواه ) - بالمد - ( الله ) إليه ، قال القرطبي : الرواية الصحيحة بقصر الأول ، ومد الثاني ، وهو المشهور في اللغة ، وفي القرآن : ( إذ أوى الفتية ) ( سورة الكهف : الآية : 10 ) ، بالقصر : ( وآويناهما إلى ربوة ) ( سورة المؤمنون : الآية : 50 ) بالمد ، وحكي القصر والمد معا ، فيهما لغة ، ومعنى أوى إلى الله : لجأ ، أو على الحذف ، أي إلى مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنى آواه : جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ، ورضوانه ، أو يؤويه يوم القيامة إلى ظل عرشه ، فنسبة الإيواء إلى الله مجاز لاستحالته في حقه ; لأنه الإنزال معه في مكان حسي ، فالمراد لازمه وهو إرادة إيصال الخير ، ويسمى هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة .

وفي التمهيد : أوى إلى الله يعني فعل ما يرضي الله فحصل له من الثواب ، [ ص: 572 ] ومثله خبر : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أوى إلى الله " ، يعني ما كان لله ورضيه .

( وأما الآخر ) - بالفتح - أي الثاني ، ( فاستحيا ) أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياءا منه - صلى الله عليه وسلم - ومن أصحابه ، قاله عياض .

وقال الحافظ : أي استحيا من الذهاب عن المجلس ، كما فعل الثالث ، فقد بين أنس سبب استحياء هذا الثاني ، فلفظه عند الحاكم : ومضى الثاني قليلا ، ثم جاء فجلس ، ( فاستحيا الله منه ) ، أي رحمه ، ولم يعاقبه فجازاه بمثل فعله ، وهذا أيضا مشاكلة ; لأن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يذم به ، وهذا محال على الله ، فهو مجاز عن ترك العقاب من ذكر الملزوم ، وإرادة اللازم .

( وأما الآخر ) - بالفتح - أي الثالث ، ( فأعرض ) عن مجلسه - صلى الله عليه وسلم - ولم يلتفت إليه ، بل ولى مدبرا ، ( فأعرض الله عنه ) ، أي جازاه بأن سخط عليه ، وهذا أيضا مشاكلة ; لأن الإعراض هو الالتفات إلى جهة أخرى ، وذلك لا يليق بالله تعالى ، فهو مجاز عن السخط والغضب .

قال الحافظ : وهو محمول على من أعرض لا لعذر ، هذا إن كان مسلما ، ويحتمل أنه منافق وأطلع - صلى الله عليه وسلم - على أمره ، كما يحتمل أن قوله : " فأعرض الله عنه " إخبار ودعاء .

وفي حديث أنس : " فاستغنى فاستغنى الله عنه " ، وهذا يرشح أنه خبر .

وقال أبو عمر : يحتمل أنه منافق ، إذ لا يعرض غالبا عن مجلسه - صلى الله عليه وسلم - إلا منافق ، بل بان لنا بقوله : " فأعرض الله عنه " ، أنه منافق لأنه لو أعرض لحاجة ، ما قال فيه ذلك ، وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها - وأن ذلك لا يعد غيبة - ، ملازمة حلق العلم والذكر ، وجلوس العالم والذاكر في المسجد ، والثناء على المستحي والمزاحم في طلب الخير ، واستحباب الأدب في المجلس ، وفضل سد الحلقة ، كما ورد في الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة ، وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي به المجلس كما فعل الثاني ، وأخرجه البخاري في العلم عن إسماعيل ، وفي الصلاة عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم في الاستئذان عن قتيبة بن سعيد كلهم عن مالك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية