صفحة جزء
باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله

حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر أنه قال قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا أو قال إن بعض البيان لسحر


3 - باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله

1850 1803 - ( مالك عن زيد بن أسلم ) الفقيه العمري ( عن عبد الله بن عمر ) ، وأسقطه يحيى ، قال أبو عمر : ما أظنه أرسله غيره ، وقد وصله القعنبي ، وابن وهب ، وابن القاسم ، وابن بكير ، وابن نافع ، والتنيسي ، وغيرهم وهو الصواب ( أنه قال : قدم رجلان من ) جهة ( المشرق ) ، وكان سكنى بني تميم في جهة العراق ، وهي في شرق المدينة ، قال ابن عبد البر : هما الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم باتفاق العلماء كذا في التمهيد ، ونقله السيوطي عنه بلفظ يقال إنهما الزبرقان وعمرو ، وفي فتح الباري : لم أقف على تسمية الرجلين صريحا ، وزعم جماعة أنهما الزبرقان بكسر الزاي ، والراء بينهما موحدة ساكنة ، وعمرو بن الأهتم ، لما رواه البيهقي وغيره عن ابن عباس ، قال : " جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم [ ص: 641 ] ففخر الزبرقان ، فقال : يا رسول الله أنا سيد بني تميم ، والمطاع فيهم ، والمجاب لديهم ، أمنعهم من الظلم ، وآخذ لهم حقوقهم ، وهذا ، أي عمرو ، يعلم ذلك ، فقال عمرو : إنه لشديد العارضة ، مانع لجانبه ، مطاع في أدنيه ، فقال الزبرقان : والله لقد علم مني أكثر مما قال ، وما منعه إلا الحسد ، فقال عمرو : أنا أحسدك ! والله إنك لئيم الخال ، حديث المال ، أحمق الوالد ، مضيع في العشيرة ، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى ، وما كذبت في الأخرى ، لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت ، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت ، ولقد صدقت في الأولى ، والأخرى جميعا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا " ، وأخرجه الطبراني عن أبي بكرة ، قال : كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدم عليه وفد تميم ، فذكر نحوه ، وهذا لا يلزم منه أن يكونا هما المراد بحديث ابن عمر ، فإن المتكلم إنما هو عمرو وحده ، وكان كلامه في مراجعة الزبرقان ، فلا يصح نسبة الخطبة إليهما ، إلا على طريق التجوز .

( فخطبا فعجب الناس ) منهما لبيانهما ، ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن من البيان لسحرا ) ; يعني أن منه لنوعا يحل من العقول والقلوب في التمويه محل السحر ، فإن الساحر بسحره يزين الباطل في عين المسحور ، حتى يراه حقا ، فكذا المتكلم بمهارته في البيان ، وتقلبه في البلاغة ، وترصيف النظم يسلب عقل السامع ، ويشغله عن التفكر فيه والتدبر حتى يخيل إليه الباطل حقا ، والحق باطلا ، فتستمال به القلوب كما تستمال بالسحر ، فشبه به تشبها بليغا بحذف الأداة .

قال التوربشتي : أصله : إن بعض البيان كالسحر ، لكنه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا .

( أو قال : إن بعض البيان لسحر ) ، شك الراوي في اللفظ المروي ، وإن اتحد المعنى فإن " من " للتبعيض ، قال الباجي ، وابن عبد البر : قال قوم هذا خرج مخرج الذم ; لأنه أطلق عليه سحر ، أو هو مذموم ، وإلى هذا ذهبت طائفة من أصحاب مالك محتجين بأنه أدخله فيما يكره من الكلام ، وقال قوم : خرج مخرج المدح ; لأن الله امتن به على عباده ؛ " خلق الإنسان علمه البيان " ، وكان - صلى الله عليه وسلم - أبلغ الناس ، وأفضلهم بيانا ، قال هؤلاء : وإنما جعله سحرا لتعلقه بالنفس ، وميلها إليه .

وقال ابن العربي وغيره : حمله على الأول صحيح ، لكن لا يمنع حمله على المعنى الثاني ، إذا كان في تزيين الحق .

وقال ابن بطال : أكثر ما يقال ليس ذما للبيان كله ، ولا مدحا ; لأنه أتى بـ " من " التي للتبعيض قال : وكيف نذمه ، وقد امتن الله به ، فقال : ( خلق الإنسان علمه البيان ) ( سورة الرحمن : الآية 3 ، 4 ) ، قال الحافظ : والذي يظهر أن المراد به في الآية ما يقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان ، لا خصوص ما نحن فيه ، وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان [ ص: 642 ] بالمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة ، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطاب بحسب المقام ، وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني ، نعم ، الإفراط في كل شيء مذموم ، وخير الأمور أوساطها .

قال الخطابي وابن التين : البيان نوعان : أحدهما ما يقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان ، والآخر ما دخلته صنعة تحسين اللفظ بحيث يروق للسامعين ، ويستميل قلوبهم ، وهذا الذي يشبه بالسحر ; لأنه صرف الشيء عن حقيقته ، روي أن رجلا طلب إلى عمر بن عبد العزيز حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها ، فاستمال قلبه بالكلام ، فأنجزها له ، ثم قال : هذا هو السحر الحلال .

قال ابن عبد البر : وقد سار هذا الحديث سير المثل في الناس ، إذا سمعوا كلاما يعجبهم قالوا : إن من البيان لسحرا ، وربما قالوا : السحر الحلال ، ومنهم أخذ القائل :

وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجر قتل المسلم المتحرز     إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز     شرك العقول ونزهة ما مثلها
السامعين وغفلة المستوفز

رواه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف عن مالك به موصولا ، وتابعه سفيان بن عيينة عن زيد عن ابن عمر عنده في النكاح ، ورواه أبو داود في الأدب ، والترمذي في البر .

التالي السابق


الخدمات العلمية