صفحة جزء
وحدثني عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة


[ ص: 672 ] 1881 1834 - ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وهو على المنبر ) جملة اسمية وقعت حالا ، ( وهو يذكر الصدقة ) ، أي يحض عليها الأغنياء جملة حالية اسمية أيضا ، وللقعنبي وذكر الصدقة بالجملة الفعلية الحالية ، ( و ) يذكر ( التعفف ) بفاءين ( عن المسألة ) ، أي يحض الفقير على التعفف عنها ، أو يحضه على التعفف ، ويذم المسألة ، ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) ، قال الباجي : أي أكثر ثوابا ، سميت يد المعطي العليا ; لأنه أرفع درجة ومحلا في الدنيا والآخرة .

( واليد العليا هي المنفقة ) ، اسم فاعل من أنفق ، هكذا رواه مالك ، قال أبو داود : وكذا قال الأكثر عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع ، وقال واحد عنه : المتعففة ، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب ، قال الحافظ الواحد القائل " المتعففة " بعين وفاءين هو مسدد في مسنده ، وأخرجه ابن عبد البر من طريقه ، وتابعه أبو الربيع الزهراني عند أبي يوسف القاضي في كتاب الزكاة ، وأما رواية عبد الوارث ، فلم أقف عليها موصولة ، وقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ : واليد العليا يد المعطي ، وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ : المتعففة فقد صحف ، انتهى .

ورجح الخطابي الثانية بأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها ، قال الطيبي : وتجويز ترجيحه أن قوله وهو يذكر الصدقة . . . إلخ ، كلام مجمل في معنى العفة عن السؤال ، وقوله : اليد العليا بيان له ، وهو أيضا مبهم ، فينبغي تفسيره بالعفة ليناسب المجمل ، وتفسيره بالمنفقة لا يناسب المجمل ، لكن إنما يتم هذا لو اقتصر على قوله : اليد العليا هي المنفقة ، ولم يعقبه بقوله : ( و ) اليد ( السفلى هي السائلة ) لدلالتها على علو المنفقة ، وسفالة السائلة ، ورذالتها ، وهي ما يستنكف منها ، فظهر بهذا أن رواية المنفقة أرجح نقلا ودراية ، انتهى .

قال ابن عبد البر : رواية مالك أولى وأشبه بالأصول ، ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي ، قال : قدمنا المدينة ، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب ، وهو يقول : يد المعطي العليا ، قال الحافظ : ولأبي داود ، وابن خزيمة عن عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا : " الأيدي ثلاثة : فيد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى " ، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا : " يد الله فوق يد المعطي ، ويد المعطي فوق يد المعطى ، ويد المعطى أسفل الأيدي " ، ولأحمد والبزار عن عطية السعدي : " اليد المعطية هي العليا ، والسائلة هي السفلى " ، فهذه [ ص: 673 ] الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية ، وأن السفلى هي السائلة ، وهذا هو المعتمد ، وقول الجمهور : قال القرطبي أي تبعا لابن عبد البر هذا التفسير نص من الشارع يدفع الخلاف في نوائله ، وادعى أبو العباس الداني في أطراف الموطأ أنه مدرج ، ولم يذكر له مستندا ، نعم في الصحابة للعسكري بإسناد فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان : إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اليد العليا خير من اليد السفلى ، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة ، ولا العليا إلا المعطية ، فهذا يشعر بأن التفسير من ابن عمر ، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : كنا نتحدث أن اليد العليا هي المنفقة ، لكن يؤيد لرفع الأحاديث السابقة ، وقيل : اليد السفلى الآخذة سواء كان بسؤال ، وبلا سؤال ، وقواه قوم بأن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه .

قال ابن العربي : التحقيق أن السفلى يد السائل ، وأما يد الآخذ فلا ; لأن يد الله هي المعطية ، وهي الآخذة ، وكلتاهما يمين وفيه نظر ; لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين ، أما يد الله فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء ، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها ، نسبت إلى الأخذ ، ويده العليا على كل حال ، وأما يد الآدمي فأربعة : يد المعطي وقد تظافرت الأخبار بأنها عليا ، ويد السائل وقد تظافرت الأحاديث بأنها السفلى ، سواء أخذت أم لا ، وهذا موافق بكيفية الإعطاء والأخذ غالبا .

ثالثها : يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد مد يد المعطي مثلا ، وهذه توصف بأنها عليا علوا اعتباريا ، رابعها : يد الآخذ بلا سؤال ، واختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى نظرا إلى المحسوس ، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور ، وعليه يحمل كلام من أطلق أنها عليا .

وعن الحسن البصري : العليا المعطية ، والسفلى المانعة ، ولم يوافق عليه ، وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا ، قال ابن قتيبة : وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال ، فهم يحتجون للدناءة ، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق ، والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتق ، وفي مطلع الفوائد للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث معنى آخر أن اليد هنا النعمة ، فكان المعنى : العطية الجزيلة خير من العطية القليلة ، فهذا حث على مكارم الأخلاق بأوجز لفظ ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله : ما أبقت غنى ، أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله ، كمن أراد أن يتصدق بألف ، فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى ، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد قال : وهو أولى من حمل اليد على الجارحة ; لأن ذلك لا يستمر ، إذ قد يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي .

قلت : التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على [ ص: 674 ] الإطلاق ، وقد روى إسحاق في مسنده عن حكيم بن حزام ، أنه قال : " يا رسول الله ما اليد العليا ؟ قال : التي تعطي ، ولا تأخذ " ، فهذا صريح في أن الآخذة ليست بعليا ، وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد ، فأولى ما فسر الحديث بالحديث ، ومحصل ما في الأحاديث المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة ، ثم المتعففة عن الأخذ ، ثم الآخذة بغير سؤال ، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة .

قال ابن عبد البر : في الحديث إباحة الكلام للخطيب بل كل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة ، والحث على الإنفاق في وجوه الطاعة ، وتفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر ; لأن العطاء إنما يكون من الغنى ، وفيه كراهة السؤال ، والتنفير عنه ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه .

وقد روى الطبراني بإسناد فيه مقال عن ابن عمر مرفوعا : " ما المعطي من سعة بالأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا " ، انتهى .

والحديث رواه البخاري عن القعنبي ، ومسلم عن قتيبة بن سعيد ، كلاهما عن مالك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية