صفحة جزء
حدثني يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد يقول قولوا التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
204 202 - ( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد ) بغير إضافة ( القاري ) بتشديد الياء نسبة إلى قارة بطن من خزيمة بن مدركة المدني ، عامل عمر على بيت المال ، يقال إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكره العجلي في ثقات التابعين ، واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة ، وتارة تابعي ، مات سنة ثمان وثمانين .

( أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد ) قال في الاستذكار : ما أورده مالك عن عمر وابنه وعائشة حكمه الرفع ؛ لأن من المعلوم أنه لا يقال بالرأي ، ولو كان رأيا لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الأذكار ، فلم يبق إلا أن يكون توقيفا ، وقد رفعه غير مالك عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

( يقول : قولوا التحيات ) جمع تحية ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك ( لله ) وقال أبو سعيد الضرير : ليست التحية الملك نفسه ، لكنها الكلام الذي يحيى به الملك ، وقال ابن قتيبة : لم يكن يحيى إلا الملك خاصة ، وكان لكل ملك تحية تخصه فلهذا جمعت ، وكان المعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كقولهم : أنعم صباحا ، وأبيت اللعن ، وعش كذا سنة ، كلها مستحقة لله تعالى ، وقال الخطابي : ثم البغوي : ولم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله ، فلهذا أبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم ، فقال : قولوا التحيات لله ، أي أنواع الثناء والتعظيم له .

وقال المحب الطبري : يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المتقدمة وكونها بمعنى السلام أنسب هنا ( الزاكيات لله ) قال ابن حبيب : هي صالح الأعمال التي يزكو لصاحبها الثواب في الآخرة ( الطيبات ) أي ما طاب من القول وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته ، مما كان الملوك يحيون به ، وقيل : الطيبات ذكر الله ، وقيل : الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء ، وقيل : الأعمال الصالحة وهو أعم ( الصلوات ) الخمس أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة أو العبادات كلها أو الدعوات أو الرحمة ( لله ) [ ص: 338 ] على عباده وقيل : التحيات العبادات القولية ، والطيبات الصدقات المالية ، والصلوات العبادات الفعلية ، ( السلام ) قال النووي : يجوز فيه وفيما بعده حذف اللام وإثباتها ، والإثبات أفضل وهو الموجود في روايات الصحيحين ، وقال الحافظ : لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم ، قال الطيبي : والتعريف للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل .

( عليك أيها النبي ورحمة الله ) أي إحسانه ، ( وبركاته ) وأما للجنس بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر ، وعلى من ينزل عليك ، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى : وسلام على عباده الذين اصطفى ( سورة النمل : الآية 59 ) قال ولا شك أن هذه التقديرات أولى من تقدير النكرة لأن أصل سلام عليك سلمت سلاما عليك ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء ؛ للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره اهـ .

وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم ، وهو وجه من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة ، ( السلام ) الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء ، ( علينا ) يريد به المصلي نفسه ، والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة ، وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء ، وفي الترمذي مصححا من حديث أبي بن كعب : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه " وأصله في مسلم ، ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل ( وعلى عباد الله الصالحين ) جمع صالح والأشهر في تفسيره أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده ، وتتفاوت درجاته .

قال الترمذي : الحكيم من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم ، فليكن عبدا صالحا وإلا حرم هذا الفضل العظيم ، وقال الفاكهاني : ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين ليتوافق لفظه مع قصده .

وقال البيضاوي : علمهم أن يفردوه - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم ، ثم علمهم أن يخصصوا أنفسهم أولا لأن الاهتمام بها أهم ، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلاما منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم ، ( أشهد أن لا إله إلا الله ) زاد في حديث عائشة الآتي : وحده لا شريك له .

( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) وقد اختار مالك وأصحابه تشهد عمر هذا ؛ لكونه كان يعلمه الناس على المنبر والصحابة متوافرون ، فلم ينكره عليه أحد ، فدل ذلك على أنه أفضل من غيره ، وتعقب بأنه موقوف فلا يلحق بالمرفوع ، ورد بأن ابن [ ص: 339 ] مردويه رواه في كتاب التشهد مرفوعا ، واختار الشافعي تشهد ابن عباس ، وهو ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وكان يقول : " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله " وهذا قريب من حديث عمر إلا أنه أبدل الزاكيات بالمباركات ، قال الحافظ : وكأنها بالمعنى واختار أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث وأكثر العلماء تشهد ابن مسعود وهو ما أخرجه الأئمة الستة عنه قال : " كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان ، فالتفت إلينا رسول الله فقال : إن الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله ، والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " .

قال الترمذي : هذا أصح حديث في التشهد .

وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد : هو عندي حديث ابن مسعود روي من نيف وعشرين طريقا ، ثم سرد أكثرها ، وقال : لا أعلم في التشهد أثبت منه ، ولا أصح أسانيد ، ولا أشهر رجالا ، قال الحافظ : ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك ، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة ، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره ، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره ، وأنه تلقاه تلقينا ، فروى الطحاوي عنه قال : أخذت التشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقنيه كلمة كلمة .

وفي البخاري عن ابن مسعود : " علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن " ورجح أيضا ثبوت الواو في الصلوات والطيبات وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فيكون كل جملة ثناء مستقلا بخلاف حذفها ، فيكون صفة لما قبلها وتعدد الثناء في الأول صريح ، فيكون أولى ، ولو قيل إن الواو مقدرة في الثاني ، وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فمجرد حكاية ، ولأحمد عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس ، فدل ذلك على مزيته اهـ .

وقد ورد حديث عمر بالأمر أيضا كما رأيت ، فدل ذلك مع عدم الإنكار على المزية ، وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل ؛ ولذا قال ابن عبد البر : كل حسن متقارب المعنى إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة ، وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل على الإباحة والتوسعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية