صفحة جزء
وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون
413 413 - ( مالك ، عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يتعاقبون فيكم ) أي : تأتي طائفة عقب طائفة ثم تعود الأولى عقب الثانية ، قال ابن عبد البر : وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين يأتي هذا مرة ويعقبه هذا ومنه تعقيب الجيوش ، وتوارد جماعة من الشراح ، ووافقهم ابن مالك على أن الواو علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بني الحارث القائلين : أكلوني البراغيث وهي فاشية حمل عليها الأخفش : وأسروا النجوى الذين ظلموا ( سورة الأنبياء : الآية 3 ) قال القرطبي : وتعسف بعض النحاة وردها للبدل وهو تكلف مستغنى عنه لاشتهار تلك اللغة ولها وجه من القياس واضح ، وقال غيره في تأويل الآية : ( وأسروا ) عائد إلى الناس أولا ، و ( الذين ظلموا ) بدل من الضمير ، وقيل : تقديره لما قيل : وأسروا النجوى قيل : من هم ؟ قال : الذين ظلموا .

وحكاه النووي والأول أقرب ، ولم يختلف على مالك في لفظ يتعاقبون فيكم ملائكة ، وتابعه عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه أخرجه سعيد بن منصور عنه ، وللبخاري في بدء الخلق من طريق شعيب بن أبي جمرة ، عن أبي الزناد بلفظ : الملائكة يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار .

والنسائي من طريق موسى بن عقبة ، عن أبي الزناد بلفظ : إن الملائكة يتعاقبون فيكم ، فاختلف فيه على أبي الزناد ، فالظاهر أنه كان تارة هكذا وتارة هكذا ، فيقوي قول أبي حيان هذه الطريقة اختصرها الراوي ، ويؤيده أن غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة رواه تاما ، فأخرجه أحمد ومسلم من طريق همام بن منبه ، عن أبي هريرة مثل رواية موسى بن عقبة لكن بحذف " إن " من أوله ، ولابن خزيمة والسراج والبزار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة بلفظ : " إن لله ملائكة يتعاقبون " ولذا شرح أبو حيان في العزو للبزار بأن العزو للطريق المتحدة مع الطريق التي وقع القول فيها أولى من طريق مغايرة لها فليعز إلى البخاري والنسائي ، قاله الحافظ ملخصا .

( ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) بتنكيرهما لإفادة أن الثانية [ ص: 588 ] غير الأولى كما قيل في قوله تعالى : فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ( سورة الشرح : الآية 5 ، 6 ) إنه استئناف وعده تعالى بأن العسر مشفوع بيسر آخر ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " لن يغلب عسر يسرين " فالعسر معرف لا يتعدد ، سواء كان للعهد أو للجنس ، واليسر منكر ، فيراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأول .

ونقل عياض وغيره عن الجمهور أنهم الحفظة وتردد فيه ابن بزيزة .

وقال القرطبي : الأظهر عندي أنهم غيرهم ، وقواه الحافظ بأنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار ، وبأنه لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم ، عن حالة الترك دون غيرها في قوله : كيف تركتم عبادي ، وتعقبه السيوطي بقوله : بل نقل ذلك أخرج ابن أبي زمنين في كتاب السنة بسنده عن الحسن قال : الحفظة أربعة يعتقبونه ملكان بالليل وملكان بالنهار تجتمع هذه الأملاك الأربعة عند صلاة الفجر وهو قوله : إن قرآن الفجر كان مشهودا ( سورة الإسراء : الآية 78 ) ، وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة ، عن ابن المبارك قال : وكل به خمسة أملاك .

ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا .

وأخرج أبو نعيم في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد النخعي قال : يلتقي الحارسان عند صلاة الصبح فيسلم بعضهم على بعض فتصعد ملائكة الليل وتلبث ملائكة النهار وفيه نظر ، فالحافظ ذكر أثر الأسود بعد ذلك وحمله على أن المراد بالحارسين ملائكة الليل والنهار ويأتي كلامه ، ومثله يحمل أثر الحسن لقوله : يعتقبونه فهما بمعنى حديث الباب المختلف في المراد بالملائكة فيه ، وكذا هو الظاهر من أثر ابن المبارك لقوله : " يجيئان ويذهبان " ، على أن الظاهر أن مراد الحافظ لم ينقل في المرفوع بل نقل فيه خلافه ، وأن الحفظة إنما تفارق الإنسان حين قضاء الحاجة وإفضائه إلى أهله .

( ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ) أي : الصبح ، قال الزين بن المنير : التعاقب مغاير للاجتماع لكن على حالين ، قال الحافظ : وهو ظاهر .

وقال ابن عبد البر : الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة واللفظ محتمل للجماعة وغيرها كما يحتمل أن التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم وأن يقع التعاقب بينهم في النوع لا في الشخص .

قال عياض : وحكمة اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم بأن جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون [ ص: 589 ] شهادتهم لهم بأحسن الشهادة وفيه شيء لأنه رجح أنهم الحفظة ، ولا شك أن الصاعدين كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات ، فالأولى أن يقال : حكمة كونه تعالى لا يسألهم إلا عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذكر .

ويحتمل أن يقال : الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين لكنه بناء على الحفظة ، وفيه إشارة إلى الحديث الآخر : " الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما " فلذا وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه .

( ثم يعرج الذين باتوا فيكم ) أي : المصلون ( فيسألهم ) ربهم ( وهو أعلم بهم ) أي : بالمصلين من الملائكة فحذف صلة أفعل التفضيل ، قال الحافظ : اختلف في سؤال الذين باتوا دون الذين ظلموا ، فقيل : من الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر كقوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى ( سورة الأعلى : الآية 9 ) أي : وإن لم تنفع ، و سرابيل تقيكم الحر ( سورة النحل : الآية 81 ) أي : والبرد أشار إليه ابن التين وغيره .

ثم قيل : حكمة الاقتصار على ذلك أن حكم طرفي النهار يعلم من حكم طرفي الليل ، فلو ذكره كان تكرارا ، وحكمة الاقتصار على هذا الشق دون الآخر أن الليل مظنة المعصية ، فلما لم يقع فيه مع إمكان دواعي الفعل من الإخفاء ونحوه واشتغلوا بالطاعة كان النهار أولى بذلك ، فالسؤال عن الليل أبلغ من النهار ؛ لأنه محل الاشتهار ، وقيل : لأن ملائكة الليل إذا صلوا الفجر عرجوا في الحال ، وملائكة النهار إذا صلوا العصر لبثوا إلى آخر النهار لضبط بقية عمل النهار ، وهذا ضعيف ؛ لأنه يقتضي أن ملائكة النهار لا يسألون عن وقت العصر وهو خلاف ظاهر الحديث ، ثم هو مبني على أنهم الحفظة وفيه نظر ، وقيل : بناء أيضا على أنهم الحفظة أنهم ملائكة النهار فقط وهم لا يبرحون ، عن ملازمة بني آدم ، وملائكة الليل هم الذين يعرجون ويتعاقبون ، ويؤيده ما رواه أبو نعيم في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد النخعي قال : يلتقي الحارسان ؛ أي : ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة الصبح فيسلم بعضهم على بعض ، فتصعد ملائكة الليل وتلبث ملائكة النهار .

وقيل : يحتمل أن العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة ، وأما النزول فيقع في الصلاتين معا وفيه التعاقب وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت ثم تنزل طائفة عند الفجر فتجتمع الطائفتان في صلاة الفجر ، ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر فتنزل الطائفة الأخرى فيحصل اجتماعهم ثم العصر أيضا ولا يصعد منهم أحد ، بل تبيت الطائفتان أيضا ، ثم يعرج إحدى الطائفتين ويستمر ذلك فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر فلذا خص السؤال بالذين باتوا .

وقيل قوله : ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر وهم ؛ لأنه ثبت في طرق كثيرة أن الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر كما في الصحيحين ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة في أثناء حديث قال [ ص: 590 ] فيه : " يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " قال أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهودا ( سورة الإسراء : الآية 78 ) وللترمذي والنسائي من وجه آخر بإسناد صحيح ، عن أبي هريرة في قوله تعالى : إن قرآن الفجر كان مشهودا قال : تشهده ملائكة الليل والنهار .

وروى ابن مردويه ، عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه .

قال ابن عبد البر : ليس في هذا دفع للرواية التي فيها ذكر العصر فلا يلزم من عدم ذكر العصر في الآية ، والحديث الآخر عدم اجتماعهم في العصر ؛ لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر .

قال : ويحتمل أن الاقتصار وقع في الفجر لأنها جهرية ، وبحثه الأول متجه ؛ لأنه لا سبيل إلى دعوى توهيم الراوي الثقة مع إمكان التوفيق بين الروايات ، ولا سيما والزيادة من العدل الضابط مقبولة ، ولم لا يقال رواية من لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النهار تقصير من بعض الرواة ، أو يحمل قوله : " ثم يعرج " الذين باتوا على أعم من المبيت بالليل والإقامة بالنهار ، فلا يخلص ذلك بليل دون نهار ولا عكسه ، بل كل طائفة منهم إذا صعدت سئلت ، غايته أنه استعمل لفظ بات في أقام مجازا ، ويكون قوله : " فيسألهم " أي : كلا من الطائفتين في الوقت الذي تصعد فيه ، ويدل على هذا العمل رواية موسى بن عقبة ، عن أبي الزناد عند النسائي ولفظه : ثم يعرج الذين كانوا ، فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار ولا اقتصار وهذا أقرب الأجوبة ، وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحا ، وفيه التصريح بسؤال كل من الطائفتين ، وذلك فيما رواه ابن خزيمة والسراج عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : " قال - صلى الله عليه وسلم - : " تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل ، فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي " الحديث .

وهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات المتقدمة فهي المعتمدة ، ويحمل ما نقص منها على تقصير من بعض الرواة ، انتهى ، فما أكثر فوائده .

( كيف تركتم عبادي ) المذكورين في قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( سورة الحجر : الآية 42 ) ووقع السؤال عن آخر الأعمال ؛ لأن الأعمال بخواتيمها قاله ابن أبي جمرة .

قال عياض : هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم ، وهو سبحانه أعلم بالجميع من الجميع .

وقال غيره : الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير واستعطافهم بما يقتضي التعطف عليهم ، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة من قال من الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ( سورة البقرة : الآية 30 ) أي : قد وجدتم فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بشهادتكم ( فيقولون : تركناهم وهم يصلون ) الواو للحال ولا يلزم منه أنهم [ ص: 591 ] فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم ، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها ؛ لأنه محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها أول وقتها وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك ومن شرع ذلك قاله ابن التين .

وقال غيره : ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في الصلاة سواء تمت أو منع مانع من تمامها ، وسواء شرع الجميع فيها أم لا ؛ لأن المنتظر في حكم المصلي ، ويحتمل أن المراد بقوله : وهم يصلون ؛ أي : ينتظرون صلاة المغرب وبدءوا بالترك قبل الإتيان مطابقة للسؤال فلم يراعوا الترتيب الوجودي ، لأن المخبر به صلاة العباد ، والأعمال بخواتيمها فناسب إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله ، ثم زادوا في الجواب لإظهار فضيلة المصلين والحرص على ذكر ما يوجب مغفرة ذنوبهم ، فقالوا : ( وأتيناهم وهم يصلون ) زاد ابن خزيمة : فاغفر لهم يوم الدين .

قال ابن أبي جمرة : أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه لعلمهم أنه سؤال يستدعي التعطف فزادوا في موجب ذلك ، قال : وفيه أن الصلاة أعلى العبادات ؛ لأن عليها وقع السؤال والجواب ، وإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين ؛ لاجتماع الطائفتين فيهما وفي غيرهما طائفة واحدة ، وإلى شرف الوقتين المذكورين ، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح وأن الأعمال ترفع آخر النهار ، فمن كان في طاعة بورك في رزقه وفي عمله ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما ، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها ، ويستلزم تشريف نبيها على غيره ، والإخبار بالغيوب ، ويترتب عليه زيادة الإيمان والإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا عنا ، وفيه إعلامنا بحب الملائكة لنا لنزداد فيهم حبا ونتقرب إلى الله بذلك ، وكلام الله مع ملائكته وفيه غير ذلك .

وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، وفي التوحيد عن إسماعيل ومسلم ، عن يحيى بن يحيى الثلاثة عن مالك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية