صفحة جزء
كتاب صلاة الكسوف

باب العمل في صلاة الكسوف

حدثني يحيى عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فقام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا ثم قال يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا
[ ص: 629 ] 12 - كتاب صلاة الكسوف .

1 - باب العمل في صلاة كسوف الشمس .

مصدر كسفت الشمس ؛ بفتح الكاف وحكي ضمها وهو نادر .

وفي مسلم ، عن عروة : " لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت " لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة ، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر ، واختاره ثعلب ، وذكر الجوهري أنه أفصح وقيل : متعين ، وعن بعضهم عكسه ، وغلطه عياض لقوله تعالى : وخسف القمر ( سورة القيامة : الآية 8 ) وقيل : يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث ، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف ؛ لأن الكسوف التغير إلى سواد ، والخسوف النقصان أو الذل ، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت ؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ وكذلك القمر ، ولا يلزم من ذلك ترادفهما ، وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء ، وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه ، وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغيره ، وزعم أهل الهيئة أن كسوف الشمس لا حقيقة له ، فإنها لا تتغير في نفسها وإنما القمر يحول بيننا وبينها ونورها باق ، وأما كسوف القمر فحقيقة فإن ضوءه من ضوء الشمس ، وكسوفه بحيلولة ظل الأرض بين الشمس وبينه بنقطة التقاطع فلا يبقى فيه ضوء البتة ، فخسوفه ذهاب ضوئه حقيقة ، وأبطله ابن العربي بأنهم زعموا أن الشمس أضعاف القمر فكيف يحجب الأصغر الأكبر إذا قابله ؟

وفي الكسوف فوائد : ظهور التصرف في هذين الخلقين العظيمين ، وإزعاج القلوب الغافلة وإيقاظها ، وليرى الناس أنموذج القيامة ، وكونهما يفعل بهما ذلك ثم يعادان فيه تنبيه على خوف المكر ورجاء العفو ، والإعلام بأنه قد يؤخذ من لا ذنب له فكيف من له ذنب ؟

444 445 - ( مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : خسفت ) بفتح الخاء والسين لازم ( الشمس ) ، ويجوز الضم وكسر السين على أنه متعد ، وحكى ابن [ ص: 630 ] الصلاح منعه ولم يبين دليله ( في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : زمنه ( فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس ) فيه أنه كان يحافظ على الوضوء فلم يحتج له حينئذ ، وفيه نظر ؛ لأن في السياق حذفا ، ففي رواية ابن شهاب ، عن عروة في الصحيح : " خسفت فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه " وفي رواية عمرة : " فخسفت فرجع ضحى فمر بين الحجر ثم قام يصلي " وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون أيضا حذف فتوضأ ثم قام فصلى ، فلا دلالة فيه على أنه على وضوء .

( فقام فأطال القيام ) لطول القراءة ، وفي التالي نحوا من سورة البقرة ، وفي رواية الزهري : فاقترأ قراءة طويلة ( ثم ركع فأطال الركوع ) لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه ، وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما ( ثم قام فأطال القيام ) وفي رواية ابن شهاب : ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ففيه ندب الذكر المشروع في الاعتدال ، واستشكل بأنه قيام قراءة لا اعتدال لاتفاق من قال بزيادة ركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه ، وإن خالف محمد بن مسلمة ، والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا دخل للقياس فيها ، بل كل ما فعله - صلى الله عليه وسلم - فيها فهو مشروع ؛ لأنها أصل برأسه قاله كله الحافظ .

( وهو دون القيام الأول ) الذي ركع منه ( ثم ركع فأطال الركوع ) بالتسبيح ونحوه ( وهو دون الركوع الأول ثم رفع ) رأسه من الركوع الثاني ( فسجد ) ولم يذكر في هذه الرواية ولا اللتين بعدها تطويل السجود ، فاحتج به من ذهب إلى أنه لا طول فيه قائلا : لأن الذي شرع فيه التطويل شرع تكراره كالقيام والركوع ولم تشرع الزيادة في السجود فلا يشرع تطويل ، وحكمة ذلك أن القائم والراكع يمكنه رؤية الانجلاء ، بخلاف الساجد فإن الآية علوية فناسب طول القيام لا السجود ، ولأن في تطويله استرخاء الأعضاء فقد يفضي إلى النوم .

وكل هذا مردود بثبوت الأحاديث الصحيحة بتطويله ، ففي الصحيحين ، عن عائشة : " ما سجدت سجودا قط كان أطول منه ولا ركعت ركوعا قط كان أطول منه " ، وفي رواية : " ثم سجد فأطال السجود " ونحوه في حديث أختها أسماء في الصحيحين .

وفي النسائي ، عن ابن عمرو وأبي هريرة : " وسجد فأطال السجود " وللشيخين ، عن أبي موسى : " بأطول قيام وركوع وسجود " ولأبي داود والنسائي ، عن سمرة : " كأطول ما سجدنا في صلاة قط " ومن ثم قال مالك في المشهور : إنه يطيل السجود كالركوع ، نعم ؛ لا إطالة بين السجدتين إجماعا .

( ثم فعل في الركعة الآخرة ) بكسر الخاء ؛ أي : الثانية ( مثل ذلك ) وفسر ذلك في رواية عمرة الآتية ، وذكر الفاكهاني أن في بعض الروايات [ ص: 631 ] تقدير القيام الأول بنحو البقرة ، والثاني بنحو آل عمران ، والثالث بنحو النساء ، والرابع بنحو المائدة ، ولا يشكل بأن المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني ، والنساء أطول من آل عمران ؛ لأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول ، لكن تعقب بأن الحديث الذي ذكره لا يعرف ، إنما هو قول الفقهاء وإن كان أوله حديث ابن عباس الآتي ، نعم ؛ للدارقطني ، عن عائشة أنه قرأ في الأولى بالعنكبوت والروم وفي الثاني بـ يس .

( ثم انصرف ) من الصلاة ( وقد تجلت ) بفوقية وشد اللام ( الشمس ) أي : صفت وعاد نورها ؛ أي : والحال أنها قد تجلت قبل انصرافه .

ففي رواية ابن شهاب : وانجلت الشمس قبل أن ينصرف .

وللنسائي : ثم تشهد وسلم .

( فخطب الناس ) وعظهم وذكرهم وأعلمهم بسبب الكسوف ، وأخبرهم بإبطال ما كانت الجاهلية تعتقده .

( فحمد الله وأثنى عليه ) زاد النسائي ، عن سمرة : وشهد أنه عبد الله ورسوله .

واحتج بظاهره الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث على استحباب الخطبة كالجمعة ، والمشهور عند المالكية والحنفية لا خطبة لها ، نعم ؛ يستحب الوعظ بعد الصلاة وهو المراد كما مر ؛ إذ ليس في الأحاديث ما يقتضي أنهما خطبتان كالجمعة وإن اشتملت على الحمد والثناء والوعظ وغير ذلك ، وفيه أن الانجلاء لا يسقط الوعظ بخلاف ما لو انجلت قبل الصلاة فيسقطها الوعظ ، فلو تجلت في أثنائها ففي إتمامها على صفتها أو كالنوافل المعتادة قولان .

( ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان ) أي : علامتان ( من آيات الله ) الدالة على وحدانيته تعالى وعظيم قدرته ، أو على تخويف العباد من بأسه وسطوته ، ويؤيده قوله تعالى : وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( سورة الإسراء : الآية 59 ) قال العلماء : الحكمة في هذا الكلام أن بعض الجاهلية الضلال كانوا يعظمون الشمس والقمر ، فبين أنهما آيتان مخلوقتان لله لا صنع لهما بل هما كسائر المخلوقات يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما ، زاد في رواية : يخوف الله بهما عباده .

( لا يخسفان ) بفتح فسكون ويجوز ضم أوله ، وحكى ابن الصلاح منعه ( لموت أحد ) وذلك أن ابنه - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم مات ، فقال الناس ذلك كما في رواية للبخاري .

وعند ابن حبان فقال الناس : إنها كسفت لموت إبراهيم .

ولأحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابنا خزيمة وحبان ، عن النعمان بن بشير : فلما انكسفت الشمس لموت إبراهيم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فصلى حتى انجلت ، فلما انجلت قال : إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك .

وفائدة قوله : ( ولا لحياته ) مع أن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة ؛ دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للإيجاد فعمم لدفع هذا التوهم ، وفيه ما [ ص: 632 ] كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على أمته ، وشدة الخوف من ربه ، وإبطال ما كانت الجاهلية تعتقد أن الكسوف يوجب حدوث تغير بالأرض من موت أو ضرر ، فاعلم أنه اعتقاد باطل ، وأنهما خلقان مسخران لا سلطان لهما في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما .

( فإذا رأيتم ذلك ) الكسوف في أحدهما لاستحالة كسوفهما معا في وقت واحد عادة ، وإن كان ذلك جائزا في قدرة الله ( فادعوا الله وكبروا وتصدقوا ) وقع الأمر بالصدقة في رواية هشام هذه دون غيرها .

قال الحافظ : ( ثم قال : يا أمة محمد ) فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الواحد ولده إذا أشفق عليه بقوله : يا بني ، وكان قضية ذلك أن يقول : يا أمتي لكن لعدوله عن المضمر إلى المظهر حكمة ، ولعلها أن المقام مقام تحذير وتخويف لما في الإضافة إلى المضمر من الإشعار بالتكريم ، ومثله : يا فاطمة بنت محمد إلى أن قال : لا أغني عنكم من الله شيئا .

( والله ) أتى باليمين لإرادة تأكيد الخبر وإن كان لا يرتاب فيه ( ما من أحد أغير ) بالنصب خبر و " من " زائدة ، ويجوز الرفع على لغة تميم أو هو بالخفض بالفتحة صفة لـ " أحد " ، والخبر محذوف ؛ أي : موجود أغير ( من الله ) أفعل تفضيل من الغيرة - بفتح المعجمة - وهي لغة تحصل من الحمية والأنفة ، وأصله في الزوجين والأهلين ، وذلك محال على الله تعالى ؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص ، فتعين حمله على المجاز ، فقيل : لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك ؛ لأنه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده ، فهو من تسمية الشيء بما يترتب عليه .

وقال ابن فورك : المعنى ما أحد أكثر زجرا ، عن الفواحش من الله .

وقال غيره : غيرة الله ما يغير حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما ، ومنه قوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( سورة الرعد : الآية 11 ) وقال ابن دقيق العيد : أهل التنزيه في مثل هذا على قولين : إما ساكت ، وإما مئول بأن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية ، فهو من مجاز الملازمة .

وقال الطيبي وغيره : وجه اتصال هذا بقوله : فاذكروا الله . . . . إلخ ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي جلب البلاء ، وخص منه الزنى ؛ لأنه أعظمها في ذلك .

وقيل : لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب العزة ( أن يزني عبده أو تزني أمته ) متعلق بأغير ، وحذف من قبل أن قياسه مستمر وتخصيصهما بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالبا ، ثم كرر النداء فقال : ( يا أمة محمد ) ويؤخذ منه أن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم نفسه ، بل يبالغ في التواضع ؛ لأنه أقرب إلى انتفاع [ ص: 633 ] السامع ( والله لو تعلمون ما أعلم ) من عظيم قدرة الله وانتقامه من أهل الجرائم وشدة عقابه ، وأهوال القيامة وما بعدها ، وقيل : معناه لو دام علمكم كما دام علمي ؛ لأن علمه متواصل ، بخلاف علم غيره ( لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) لتفكركم فيما عملتموه ، وقيل : معناه لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك مما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك . قيل : معنى القلة هنا العدم ؛ أي : لتركتم الضحك ، أو لم يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن .

وقول المهلب : المخاطب بذلك الأنصار لما كانوا عليه من محبة اللهو والغناء لا دليل عليه ، ومن أين له أنهم المخاطبون دون غيرهم ، والقصة كانت في آخر زمنه - صلى الله عليه وسلم - حيث امتلأت المدينة بأهل مكة ووفود العرب ؟

وقد بالغ الزين بن المنير في الرد عليه والتشنيع .

وفي الحديث ترجيح التخويف في الوعظ على التوسع بالترخيص لما في الترخيص من ملائمة النفوس لما جبلت عليه من الشهوة ، والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدها لا بما يزيدها ، وأن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من زيادة التطويل على العادة في القيام وغيره وزيادة ركوع في كل ركعة ، ووافق عائشة على ذلك رواية ابن عباس وابن عمر . وفي الصحيحين وأسماء بنت أبي بكر وجابر في مسلم ، وعلي عند أحمد ، وأبو هريرة في النسائي ، وابن عمر في البزار وأم سفيان في الطبراني ، وفي رواياتهم زيادة رواها الحفاظ الثقات فالأخذ بها أحق من إلغائها ، وبذلك قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة ، وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة : إنها ركعتان نحو الصبح ثم الدعاء حتى تنجلي ، وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا ، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوع ففعل ذلك مرة أو مرارا ، فظنه بعض من رواه يفعل ذلك ركوعا زائدا ، وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين ، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يجتمع إلى تطويل ، ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه قال ذكر الاعتدال ، ثم شرع في القراءة ، فكل ذلك يرد هذا المحل ، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج فعله - صلى الله عليه وسلم - عن العبادة المشروعة ، أو لزمه منه إثبات هيئة في الصلاة لأعهد بها وهو ما فر منه ، والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة القعنبي ، ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية