صفحة جزء
باب ما جاء في صلاة الكسوف

حدثني يحيى عن مالك عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت أتيت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت ما للناس فأشارت بيدها نحو السماء وقالت سبحان الله فقلت آية فأشارت برأسها أن نعم قالت فقمت حتى تجلاني الغشي وجعلت أصب فوق رأسي الماء فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال لا أدري أيتهما قالت أسماء يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن لا أدري أي ذلك قالت أسماء فيقول هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له نم صالحا قد علمنا إن كنت لمؤمنا وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أيتهما قالت أسماء فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
2 - باب ما جاء في صلاة الكسوف .

447 448 - ( مالك ، عن هشام بن عروة ، عن ) زوجته ( فاطمة بنت ) عمه ( المنذر ) بن الزبير بن العوام ( عن ) جدتهما لأبويهما ( أسماء بنت أبي بكر الصديق ) ذات النطاقين ، زوج الزبير ، ماتت بمكة سنة ثلاث وسبعين وقد بلغت المائة ، ولم يسقط لها سن ولم يتغير لها عقل ( أنها قالت : أتيت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خسفت الشمس ) بفتح الخاء والسين ذهب ضوءها كله أو بعضه ، ( فإذا الناس قيام يصلون ) للكسوف ( وإذا هي ) أي : عائشة ( قائمة تصلي ، فقلت : ما للناس ؟ ) قائمين مضطربين فزعين ، وفي رواية وهيب : ما شأن الناس ؟ ( فأشارت ) عائشة ( بيدها نحو السماء ) تعني انكسفت الشمس ( وقالت : سبحان الله ، فقلت : آية ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف ؛ أي : هذه علامة للعذاب كأنها مقدمة له ، قال تعالى : ( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) ( سورة الإسراء : الآية 59 ) أو علامة لقرب زمان قيام الساعة ، ويجوز حذف همزة الاستفهام وإثباتها .

( فأشارت برأسها أن ) بالنون ويروى بالياء ، وهما حرف تفسير ( نعم قالت : ) أسماء ( فقمت ) في الصلاة ( حتى تجلاني ) بفوقية وجيم ولام ثقيلة ؛ أي : غطاني ( الغشي ) بفتح الغين وإسكان الشين المعجمتين وخفة الياء ، وبكسر الشين وشد الياء ؛ طرف من الإغماء من طول تعب الوقوف ، والمراد به هنا الحالة القريبة منه فأطلقته مجازا ، ولذا قالت : ( وجعلت أصب فوق رأسي الماء ) أي : في تلك الحالة ليذهب ، فإن توليها الصب يدل [ ص: 642 ] على أن حواسها كانت مدركة ، وذلك لا ينقض الوضوء ، ووهم من قال : إن صبها كان بعد الإفاقة ، قال ابن بطال : الغشي مرض يعرض من طول التعب والوقوف ، وهو ضرب من الإغماء إلا أنه دونه ، ولو كان شديدا لكان كالإغماء وهو ينقض الوضوء بالإجماع ، ( فحمد الله ) ولابن أبي أويس ولابن يوسف : فلما انصرف ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) حمد الله ( وأثنى عليه ) عطف عام على خاص ( ثم قال : ما من شيء ) من الأشياء ( كنت لم أره إلا قد رأيته ) رؤية عين حقيقة ( في مقامي ) بفتح الميم ( هذا ) صفة لمقامي ، وتعسف من جعله خبر محذوف ؛ أي : هو هذا المشار إليه ( حتى الجنة والنار ) ضبط بالحركات الثلاث فيهما كما قال الحافظ وغيره ، فالرفع على أن " حتى " ابتدائية ، و " الجنة " مبتدأ محذوف الخبر ؛ أي : مرئية ، و " النار " عطف عليه ، والنصب على أنها عاطفة على الضمير المنصوب في " رأيته " ، والجر على أنها جارة أو عاطفة على المجرور السابق وهو شيء ، وإن لزم عليه زيادة " من " مع المعرفة ، والصحيح منعه ؛ لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، ولأن المقدر ليس كالملفوظ به ، ومفاد الإغياء أنه لم يرهما قبل مع أنه رآهما ليلة المعراج ، وهو قبل الكسوف بزمان .

وأجيب بأن المراد هنا في الأرض ؛ بدليل قوله : في مقامي ، أو باختلاف الرؤية .

( ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون ) تمتحنون وتختبرون ( في القبور ) قال الباجي : يقال إنه أعلم بذلك في ذلك الوقت ، قال : وليس الاختبار في القبر بمنزلة التكليف والعبادة ، وإنما معناه إظهار العمل ، وإعلام بالمآل والعاقبة كاختبار الحساب ، لأن العمل والتكليف قد انقطع بالموت ( مثل ) بلا تنوين ( أو قريبا ) بالتنوين ( من فتنة الدجال ) الكذاب ، قال الكرماني : ووجه الشبه بين الفتنتين الشدة والهول والهموم .

وقال الباجي : شبهها بها لشدتها ، وعظم المحنة بها ، وقلة الثبات معها .

قالت فاطمة : ( لا أدري أيتهما ) بتحتية وفوقية ؛ أي : لفظ مثل أو قريبا ( قالت أسماء ) هكذا الرواية المشهورة بترك تنوين " مثل " وتنوين " قريبا " .

ووجهه أن أصله مثل فتنة الدجال ، فحذف ما أضيف إلى مثل ، وترك على هيئته قبل الحذف ، وجاز الحذف لدلالة ما بعده عليه كقوله : بين ذراعي وجبهة الأسد ، تقديره : بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد .

وفي رواية : بترك التنوين في قريبا أيضا ، ووجهه أنه مضاف إلى فتنة أيضا ، وإظهار حرف الجر والمضاف إليه جائز عند قوم ، نقله الحافظ عن ابن مالك .

وعند النسائي والإسماعيلي ، عن أسماء : قام - صلى الله عليه وسلم - خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء ، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما سكت ضجيجهم قلت لرجل قريب مني : بارك الله فيك ماذا قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر كلامه ؟ قال : قال : قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور [ ص: 643 ] قريبا من فتنة الدجال .

وللبخاري من طريق فاطمة ، عن أسماء أيضا أنه لغط نسوة من الأنصار ، وإنها ذهبت لتسكتهن ، فاستفهمت عائشة عما قال - صلى الله عليه وسلم - .

قال الحافظ : فيجمع بين هذه الروايات بأنها احتاجت إلى الاستفهام مرتين ، وأنها لما حدثت فاطمة لم تبين لها الاستفهام الثاني ، ولم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه على ذلك إلى الآن ( يؤتى أحدكم ) قي قبره ، والآتي ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما : المنكر ، والآخر : النكير ، رواه الترمذي وكذا ابن حبان ، لكن قال : يقال لهما منكر ونكير ، زاد الطبراني : أعينهما مثل قدور النحاس ، وأنيابهما مثل صياصي البقر ، وأصواتهما مثل الرعد ، زاد عبد الرزاق : يحفران بأنيابهما ويطآن في أشعارهما معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها .

وأورد في الموضوعات حديثا فيه أن فيهم رومان وهو كبيرهم ، وذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذين يسألان المذنب منكر ونكير ، واسم اللذين يسألان المطيع بشر وبشير ( فيقال له : ما علمك ) مبتدأ خبره ( بهذا الرجل ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل : برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لئلا يصير تلقينا لحجته ، قال عياض : قيل يحتمل أنه مثل للميت في قبره ، والأظهر أنه سمي له ، انتهى . أي : لأنه الظاهر المتبادر من قوله في الصحيحين ، عن أنس : فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ وكذا في رواية ابن المنكدر ، عن أسماء عند أحمد ، وعدل عن الجمع في إنكم تفتنون إلى المفرد في ما علمك ؛ لأنه تفصيل ؛ أي : كل واحد يقال له ذلك ؛ لأن السؤال ، عن العلم يكون لكل واحد ، وكذا الجواب بخلاف الفتنة .

( فأما المؤمن أو الموقن ) أي : المصدق بنبوته ( لا أدري أي ذلك ) المؤمن أو الموقن ( قالت أسماء ) جملة معترضة ، بينت فاطمة أنها شكت هل قالت : المؤمن أو الموقن ؟ قال الباجي : والأظهر أنه المؤمن لقوله : " فآمنا " دون أيقنا ، ولقوله : " لمؤمنا " ( فيقول : هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جاءنا بالبينات ) المعجزات الدالة على نبوته ( والهدى ) الدلالة الموصلة إلى البغية ، ( فأجبنا وآمنا واتبعنا ) بحذف ضمير المفعول للعلم به في الثلاثة ؛ أي : قبلنا نبوته مصدقين متبعين ( فيقال له : نم ) حال كونك ( صالحا ) منتفعا بأعمالك ، إذ الصلاح كون الشيء في حد الانتفاع ( قد علمنا إن ) بالكسر ؛ أي : للشأن ( كنت لمؤمنا ) وفي رواية الأويسي : " لموقنا " بالقاف واللام عند البصريين للفرق بين إن المخففة وبين النافية ، وعند الكوفيين " إن " بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ؛ أي : ما كنت إلا مؤمنا ، كقوله تعالى : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) ( سورة الطارق : الآية 4 ) أي : ما كل نفس إلا عليها ، [ ص: 644 ] وحكى ابن التين فتح همزة " أن " على جعلها مصدرية ؛ أي : علمنا كونك مؤمنا به ورده بدخول اللام ، وتعقبه في المصابيح بأن اللام إنما تمنع إذا جعلت لام ابتداء على رأي سيبويه ومن تابعه ، أما على رأي الفارسي وابن جني وجماعة أنها ليست للابتداء اجتلبت للفرق ، فيسوغ الفتح بل يتعين لوجود المقتضى وانتفاء المانع .

قال الباجي : أراد بالنوم العود لما كان عليه من الموت ، سماه نوما لما صحبه من الراحة وصلاح الحال ، انتهى .

وفي حديث أبي سعيد عند سعيد بن منصور : " فيقال له : نم نومة عروس ، فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى يبعث " وللترمذي من حديث أبي هريرة : " ويقال له : نم ، فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " ، وفي حديث أنس في الصحيحين : " فيقال : انظر إلى مقعدك من النار ، أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا " ولابن حبان وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، وأحمد من حديث عائشة : " ويقال له : على اليقين كنت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله " وفي البخاري ومسلم ، عن قتادة : " ذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ، ويملأ خضرا إلى يوم يبعثون " وفي الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة : " فيفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا ، وينور له كالقمر ليلة البدر " وفي حديث البراء : " فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ، أفرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا في الجنة ، وألبسوه من الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له مد بصره " زاد ابن حبان من وجه آخر ، عن أبي هريرة : " فيزداد غبطة وسرورا ، ويعاد الجلد إلى ما بدا منه ، وتجعل روحه في نسمة طائر يعلق في شجر الجنة " ( وأما المنافق ) من لم يصدق بقلبه بنبوته ( أو المرتاب ) الشاك قالت فاطمة : ( لا أدري أيتهما قالت أسماء ) قال ابن عبد البر فيه : إنهم كانوا يراعون الألفاظ في الحديث المسند ، واختلف العلماء في ذلك ، ولم يجز مالك الإخبار بالمعاني في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قدر على الألفاظ ، وأجاز ذلك في المسائل إذا كان المعنى واحدا ، رواه ابن وهب عنه ( فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ) زاد الشيخان من حديث أنس : " فيقولان : لا دريت ولا تليت " ولعبد الرزاق : " لا دريت ولا أفلحت ، ويضربانه بمطرقة من حديد ضربة " وفي حديث البراء : " لو ضرب بها جبل لصار ترابا " وفي حديث أسماء : " ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط تمرته جمرة مثل عرف البعير تضربه ما شاء الله لا تسمع صوته فترحمه " وزاد في أحاديث أبي هريرة وأبي سعيد وعائشة : " ثم يفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : هذا منزلك لو آمنت بربك ، وأما إذ كفرت فإن الله أبدلك هذا ويفتح له باب إلى النار " زاد في حديث أبي هريرة : " فيزداد حسرة [ ص: 645 ] وثبورا ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه " وفي حديث البراء : " فينادي مناد من السماء : أفرشوه من النار وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها " قال ابن بطال : في الحديث ذم التقليد ، وأنه لا يستحق اسم العلم التام على الحقيقة ، ورده ابن المنير بأن ما حكي عن حال المجيب لا يدل على أنه كان عنده تقليد معتبر ، وهو الذي لا وهن عند صاحبه ولا شك ، وشرطه أن يعتقد كونه عالما ولو شعر بأن مستنده كون الناس قالوا : شيئا فقاله لم يحل اعتقاده ورجع شكا ، فعلى هذا لا يقول المعتقد المصمم يومئذ : سمعت الناس يقولون ؛ لأنه يموت على ما عاش عليه ، وهو في حال الحياة قد قررنا أنه لا يشعر بذلك ، بل عبارته هناك إن شاء الله مثلها هنا من التصميم ، وبالحقيقة فلا بد أن يكون للمصمم أسباب حملته على مجرد القول ، وربما لا يمكن التعبير عن تلك الأسباب كما نقول في العلوم العادية أسبابها لا تنضبط ، انتهى .

وأخرجه البخاري ، عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف كلاهما ، عن مالك به ، وتابعه عليه جماعة ، عن هشام في الصحيحين وغيرهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية