التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
943 [ ص: 264 ] [ ص: 265 ] حديث ثاني عشر لعبد الله بن أبي بكر

مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله إن صفية بنت حيي قد حاضت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلها تحبسنا ألم تكن طافت معكن بالبيت قلن : بلى ، قال : فاخرجن .


هذا حديث صحيح لم يختلف في إسناده ، ولا في معناه . وروي عن عائشة من وجوه كثيرة صحاح .

وفيه من الفقه أن الحائض لا تطوف بالبيت ، وهو أمر مجتمع عليه لا أعلم خلافا فيه إلا أن طائفة منهم أبو [ ص: 266 ] حنيفة ، قالوا : لا ينبغي أن يطوف أحد إلا طاهرا ، فإن طاف غير طاهر من جنب ، أو حائض فيجزيه ، وعليه دم ، وقال مالك ، والشافعي وأكثر أهل العلم : لا يجزيه ، وعليه أن يعود إليه طاهرا ، ولو من بلده إن كان طوافا واجبا ، وقد بينا الحجة في ذلك في باب ابن شهاب ، عن عروة . وقد قيل : إن منع الحائض من الطواف إنما كان من أجل أنه في المسجد ، والحائض لا تدخل في المسجد ; لأنه موضع الصلاة ، والطواف الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله : ألم تكن طافت هو طواف الإفاضة .

وذلك ظاهر في حديث مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن أبي سلمة ، عن أم سليم أنها حاضت أو ولدت بعد ما أفاضت ، وفي حديث ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وعروة ، عن عائشة ، قالت : حاضت صفية بعد ما أفاضت ، وفي حديث الأعرج ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : خرجنا حجاجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر وحاضت صفية .

وفي حديث مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أن صفية بنت حيي حاضت فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 267 ] فقال : أحابستنا هي فقيل : إنها قد أفاضت . فهذه الآثار كلها قد أوضحت أن الطواف الحابس للحائض الذي لا بد منه هو طواف الإفاضة ، وكذلك يسميه أهل الحجاز طواف الإفاضة ، ويسميه أهل العراق طواف الزيارة ، وكره مالك أن يقال : طواف الزيارة ، وهو واجب فرضا عند الجميع لا ينوب عنه دم ، ولا بد من الإتيان به ، وإياه عنى الله عز وجل بقوله : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق إلا أن مذهب مالك في هذا الطواف أنه ينوب عنه غيره مع وجوبه عنده على حسب ما بيناه من مذهبه في ذلك في الكتاب الكافي .

وفي هذا الحديث دليل واضح أيضا على وجوبه ، وإن كان الإجماع يغني عن ذلك ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : لعلها تحبسنا ، ثم قال : ألم تكن طافت معكن ؟ فلما قيل له : بلى ، قال : فاخرجن ، فلو قيل له : لم تطف ؛ لاحتبس عليها حتى تطهر من حيضتها وتطوف ; لأن من أدرك عرفة قبل انفجار الصبح من يوم النحر ، فقد أدرك الحج فكل فرض فيه سواه يجيء به متى ما أمكنه وقدر عليه وكل سنة فيه جبرها بالدم [ ص: 268 ] فالمرأة الحائض قبل طواف الإفاضة تبقى ويحبس عليها كريها حتى تطهر فتفيض ، فإذا كانت قد أفاضت ، ثم حاضت وخرج الناس لم يكن عليها البقاء لوداع البيت ورخص لها في أن تنفر وتدع السنة في طواف الوداع رخصة لها ، وعذاره وسعته .

ذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك ، قال : إذا حاضت المرأة ، أو نفست قبل الإفاضة ، فلا تبرح حتى تطهر وتطوف بالبيت ويحبس عليها الكري ما يحبس على الحائض خمسة عشر يوما ويحبس على النفساء حتى تطهر بأقصى ما يحبس النساء الدم ، ولا حجة للكري أن يقول : لم أعلم أنها حامل ، وليس عليها أن تعينه في العلف ، قال : وإن حاضت بعد الإفاضة فلتنفر ، قال : وإن اشترطت عليه عمرة المحرم ، فحاضت قبل أن تعتمر ، فلا يحبس عليها كريها ، ولا يرجع عليها شيء ، قال : وإن كان بين الحائض وبين طهرها اليوم ، واليومان أقام معها أبدا ، وإن كان بين ذلك أيام لم يحبس إلا كريها وحده ، وقال محمد بن المواز : لست أعرف حبس الكري وحده ، كيف يحبسه وحده ، يعرضه ليقطع عليه الطريق الموحدة .

وفي الحديث المذكور في هذا الباب دليل واضح على ما ذكرنا إلا أن الفقهاء اختلفوا فيمن ترك طواف الوداع غير الحائض .

[ ص: 269 ] فقال مالك : من ترك وداع البيت أساء ، ولا دم عليه ; لأن الوداع عنها من مستحبات الحج بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : فاخرجن وفي غير هذا الحديث : فلا إذا ، وهذا تنبيه على أنه لم يبق عليها من النسك شيء ، ومما يدل على ذلك أن أهل مكة والمقيمين بها لا وداع عليهم فعلم أنه استحباب ، والمستحب إذا ترك ليس فيه دم ، ولما كان طواف الوداع بعد استباحة وطء النساء أشبه طواف المكي ، والمعتمر ، فلا شيء فيه .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي ، وأصحابهم : عليه دم . ومن حجتهم أن ابن عباس كان يقول : من ترك شيئا من نسكه فعليه دم ، ومن أصحاب الشافعي من يقول : إن هذا الدم استحباب ، وقد أجمعوا أن طواف الوداع من النسك ، ومن سنن الحج المسنونة .

قال أبو عمر : قد روي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم ، ولا مخالف لهم من الصحابة .

وروى معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس ، فقال : إذا نفرتم من منى فلا يصدر أحد حتى يطوف بالبيت ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت .

ونافع ، عن ابن عمر ، عن عمر مثله ، ومعمر ، عن أيوب ، عن نافع ، وعن الزهري ، عن سالم أن صفية بنت أبي عبيد حاضت يوم النحر بعد ما طافت بالبيت فأقام ابن عمر عليها سبعا حتى طهرت فطافت ، فكان آخر [ ص: 270 ] عهدها بالبيت ، قال الزهري : وأخبرني طاوس أنه سمع ابن عمر قبل أن يموت بعام ، أو بعامين ، يقول : أما النساء فقد رخص لهن ، قال الزهري : ولو رأيت طاوسا علمت أنه لا يكذب ، قال معمر : وأخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه أنه سمع ابن عمر ، يقول : لا ينفرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت ، فقلت : ما له لم يسمع ما سمع أصحابه ، ثم جلست إليه من العام القابل فسمعته يقول : أما النساء فقد رخص لهن . قال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أن زيد بن ثابت ، وابن عباس تماريا في صدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها الطواف بالبيت ، فقال ابن عباس : تنفر ، وقال زيد : لا تنفر . فدخل زيد على عائشة فسألها ، فقالت : تنفر . فخرج زيد ، وهو يتبسم ، ويقول : ما الكلام إلا ما قلت .

قال أبو عمر : هكذا يكون الإنصاف وزيد معلم ابن عباس فما لنا لا نقتدي بهم ، والله المستعان .

قال أبو عمر : كل من لم يطف طواف الوداع وأمكنه الرجوع إليه بغير ضرر يدخل عليه رجع فطاف ، ثم نفر ، وقد كان عمر بن الخطاب يرد من لم يودع البيت بالطواف من مر الظهران ، وقال : مالك : هذا عندي بعيد . وفيه ضرر داخل على الناس ، وإنما يرجع إلى طواف الوداع من كان قريبا ، ولم يكن عليه في انصرافه ضرر ، يقال : إن بين مر الظهران ومكة خمسة عشر ميلا ، وأهل العلم كلهم يستحب أن لا يدع أحد وداع [ ص: 271 ] البيت إذا كان عليه قادرا ، فإن نفر ، ولم يودع ، فقد ذكرنا ما للعلماء في ذلك من إيجاب الدم ، وقال مالك : إذا حاضت المرأة بمنى قبل أن تطوف للإفاضة ، فإنها تقيم حتى تطهر ، ثم تطوف بالبيت للإفاضة ، ثم تخرج إلى بلدها ، قال مالك : وليس عليها أن تعينه في العلف .

قال أبو عمر : فهذان الطرفان قد مضى حكمهما ، أو الإجماع ، والاختلاف فيهما ، وبقي الطواف الثالث ، وهو طواف الدخول الذي يصله الحاج بالسعي بين الصفا والمروة إذا لم يخش فوت عرفة ، ولا خلاف بين العلماء أن هذا الطواف من سنن الحج وشعائره ونسكه ، واختلفوا فيمن قدم مكة ، وهو قادر على الطواف غير خائف فوت عرفة ، فلم يطف ، فقال مالك بن أنس فيمن قدم يوم عرفة : إن شاء أخر الطواف إلى يوم النحر ، وإن شاء طاف وسعى ، ذلك واسع كله ، قال : وإن قدم يوم التروية فلا يترك الطواف .

قال أبو عمر : فإن تركه فتحصيل مذهب مالك ، والشافعي أن عليه لتركه دما ، والدم عندهم خفيف في ذلك ; لأنه نسك [ ص: 272 ] ساقط عن المكي ، وعن المراهق الذي يخاف فوت عرفة . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إذا ترك الحاج طواف الدخول فطاف طواف الزيارة رمل في ثلاثة أشواط منه ، وسعى بين الصفا والمروة ، ولم يكن عليه شيء . وقال أبو ثور : إن ترك الحاج إذا قدم مكة الطواف للدخول ، وهو بمكة حتى أتى منى كان عليه دم ، وذلك أن هذا شيء من نسكه تركه .

قال أبو عمر : حجة من أوجب فيه الدم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله في حجته ، وقال : خذوا عني مناسككم وهو المبين عن الله مراده فصار من مناسك الحج وسننه فوجب على تاركه الدم . وحجة من لم ير فيه شيئا أن الله لم يأمر بذلك الطواف ، ولا رسوله ، ولا اتفق الجمع على وجوبه سنة ، والقول الأول أصح وأقيس ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية