التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1269 [ ص: 310 ] حديث ثامن عشر لعبد الله بن أبي بكر

مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن حميد بن نافع ، عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة ، قالت زينب : دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق ، أو غيره فدهنت به جارية ، ثم مسحت بعارضيها ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب : ثم دخلت على زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 311 ] يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله ، واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب : وسمعت أمي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينيها ، أفتكحلهما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، مرتين ، أو ثلاثا كل ذلك يقول : لا ، ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ، قال حميد بن نافع : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبا ، ولا شيئا حتى تمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار ، أو شاة ، أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب ، أو غيره . قال مالك : الحفش البيت الرديء ، وتفتض تمسح به جلدها كالنشرة .


[ ص: 312 ] قال أبو عمر : حميد بن نافع هذا هو أبو أفلح بن حميد ، وهو مولى صفوان بن خالد ، ويقال : مولى أبي أيوب الأنصاري ، يقال : إنه حميد صغير ، روى عن أبي أيوب ، وحج معه ، وروى عن ابن عمر ، وعن زينب بنت أبي سلمة ، وهو ثقة مأمون ، وهذه الجملة من خبره ، عن أحمد بن حنبل ، ومصعب الزبيري ، ولم يسمع مالك منه شيئا ، ولا الثوري ، وهما يرويان عن عبد الله بن أبي بكر عنه ، وقد سمع منه شعبة هذا الحديث ، وغيره .

أخبرنا أحمد بن قاسم بن عيسى قراءة مني عليه أن عبيد الله بن محمد بن حبابة حدثهم ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا حجاج بن محمد قال : قال شعبة : سألت عاصما عن المرأة تحد ، فقال : قالت حفصة بنت سيرين : كتب حميد بن نافع إلى حميد الحميري ، فذكر حديث زينب بنت أبي سلمة ، قال شعبة : فقلت لعاصم : أنا قد سمعته من حميد بن نافع ، قال : أنت ؟ قلت : نعم ، وهو ذاك حي ، قال شعبة : وكان عاصم يرى أنه قد مات منذ مائة سنة .

[ ص: 313 ] أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال شعبة : سألت عاصما الأحول ، عن المرأة تحد ، فقال : قالت حفصة بنت سيرين : كتب حميد بن نافع إلى حميد الحميري ، فذكر حديث زينب بنت سلمة ، قال شعبة : قلت لعاصم : قد سمعته أنا من حميد بن نافع قال : أنت ، قلت : نعم ، وهو ذاك حي ، قال شعبة : وكان عاصم يرى أنه قد مات منذ مائة سنة .

أخبرنا أحمد بن قاسم ، حدثنا عبيد الله بن حبابة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، عن حميد بن نافع ، قال : سمعت زينب بنت أبي سلمة ، تحدث عن أمها أن امرأة توفي عنها زوجها فرمدت عينها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل ، فقال : لا ، وقال : أربعة أشهر وعشرا قال البغوي : روى هذا الحديث عن شعبة - النضر بن شميل ، ويحيى بن أبي بكير ، وأبو النضر ، فزادوا فيه كلاما ليس في حديث علي بن الجعد ، حدثناه جدي ، قال : حدثنا أبو النضر . وحدثنا خلاد ، أخبرنا النضر بن شميل . وحدثنا يعقوب ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، وهذا لفظ حديث يعقوب ، أخبرنا شعبة ، قال : حميد بن نافع أخبرني ، قال : سمعت زينب بنت أم سلمة ، تحدث عن أمها أن امرأة توفي عنها زوجها فاشتكت عينها وخشوا [ ص: 314 ] على عينها فسئل عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها في بيتها إلى الحول ، فإذا كان الحول فمر كلب رمته ببعرة ، ثم خرجت ، فلا ، أربعة أشهر وعشرا قال البغوي : ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن حميد بن نافع . وزاد فيه : أم حبيبة ، حدثناه جدي ويعقوب ، قالا : حدثنا يزيد بن هارون . وحدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، جميعا عن يحيى بن سعيد ، عن حميد بن نافع أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة ، وأم حبيبة تذكران أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن ابنة لها توفي عنها زوجها فاشتكت عينها . . . . . . . وذكر الحديث .

قال : وحدثني جدي ، حدثنا أبو قطن ، حدثنا شعبة ، عن حميد بن نافع ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم حبيبة أن نسيبا لها ، أو حميما توفي ، وأنها دعت بصفرة فمسحت يديها وقالت : إنما أصنع هذا ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج .

قال : وحدثنيه يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا شعبة بإسناده مثله . وزاد فيه : أربعة أشهر وعشرا .

قال البغوي : وأخبرنا مصعب بن عبد الله ، حدثني مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن حميد بن نافع ، فذكر الأحاديث الثلاثة ، عن زينب ، عن أم حبيبة ، وزينب بنت جحش ، وأم سلمة سواء .

[ ص: 315 ] قال أبو عمر : أما صفرة الخلوق فمعروفة .

وأما الإحداد فترك المرأة للزينة كلها عند زوجها ما دامت في عدتها ، يقال لها حينئذ امرأة حاد ، ومحد ; لأنه يقال : أحدت المرأة تحد وحدت تحد فهي محاد وحاد ; إذا تركت الزينة لموت زوجها هذا كله قول الخليل ، وغيره .

وأما الإحداد عند العلماء فالامتناع من الطيب ، والزينة بالثياب ، والحلي ، وما كان من الزينة كلها الداعية إلى الأزواج . وجملة مذهب مالك في ذلك أن المرأة المحد لا تلبس ثوبا مصبوغا إلا أن يصبغ بسواد ، وتلبس البياض كله رقيقه وغليظه ، ولا تلبس رقيق ثياب اليمن ، وتلبس غليظها إن شاءت ، وتلبس الكتان كله رقيقه وغليظه ما لم يكن مصبوغا ، وكذلك القطن ، ولا تلبس خزا ، ولا حريرا ، ولا تلبس خاتما من ذهب ، ولا من فضة ، ولا من حديد أيضا ، ولا حليا ، ولا قرطا ، ولا خلخالا ، ولا سوارا ، ولا تمس طيبا بوجه من الوجوه ، ولا تحنط ميتا ، ولا تدهن بزئبق ، ولا خيري ، ولا بنفسج ، ولا بأس أن تدهن بالشيرق ، والزيت ، ولا تختضب بحناء ، ولا كتم ، ولا بأس أن تمتشط بالسدر ، وما لا يختمر في رأسها ، ولا تكتحل إلا من ضرورة ، فإن كانت ضرورة ، فقد أرخص لها مالك ، وأصحابه في الكحل تجعله بالليل وتمسحه بالنهار ، ومن قول مالك ، والشافعي [ ص: 316 ] إن الإحداد على كل زوجة ، صغيرة كانت أو كبيرة ، أمة كانت أو حرة ، مسلمة كانت أو ذمية ، وكذلك المكاتبة ، والمدبرة إذا كانت زوجة ، وكذلك امرأة المفقود ، الإحداد عليها عنده ، وقال ابن الماجشون : لا إحداد عليها .

وذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك ، قال : الإحداد على الكتابية في زوجها المسلم ، وقال أشهب : لا إحداد عليها . ورواه عن مالك أيضا ، وقال ابن نافع : لا إحداد على الذمية ، وهو قول أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله ، واليوم الآخر أن تحد على ميت .

قال أبو عمر : هذا لا حجة فيه ; لأن العلة حرمة المسلم الذي تعتد من مائه ، وجاء الحديث بذكر من يؤمن بالله ، واليوم الآخر ; لأن الخطاب إلى من هذه حاله كان يتوجه ، فدخل المؤمنات في ذلك بالذكر ، ودخل غير المؤمنات بالمعنى الذي ذكرنا كما يقال : هذا طريق المسلمين ، ويدخل في معناه أهل الذمة ، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يبع أحدكم على بيع أخيه يعني المسلم ، فدخل في ذلك الذمي بالمعنى ، وقد أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة للمسلم ، وهي واجبة لأهل الذمة كما تجب للمسلم إلى أشياء يطول ذكرها من هذا الباب ، ولا خلاف أن الزوجة الذمية في النفقة والعدة وجميع أحكام الزوجات كالمسلمة ، وكذلك الإحداد .

[ ص: 317 ] ألا ترى أنه حق للزوج الميت من أجل ما يلحقه من النسب ، فأشبه الحكم بين المسلم ، والذمي بحكم الإسلام ، ولا خلاف عن مالك ، وأصحابه أن المطلقة المبتوتة ، وغيرها لا إحداد عليها ، وكذلك أم الولد لا إحداد عليها عند وفاة سيدها ، وإنما الإحداد عندهم على المتوفى عنها زوجها على حسب ما ذكرنا .

وقال الشافعي : الإحداد في البدن ، وهو ترك زينة البدن ، وذلك أن يدخل على البدن شيء من غيره بزينة من ثياب يتزين بها وطيب يظهر على المرأة فيدعوها إلى شهوتها فمن ذلك الدهن كله في الرأس ، وذلك لأن الأدهان كلها سواء في ترجيل الشعر ، وإذهاب الشعث . ألا ترى أن المحرم يفتدي إن دهن رأسه ، ولحيته بزيت لما وصفت ، قال : وكل كحل كان زينة فلا خير فيه ، فأما الفارسي وما أشبهه إذا احتاجت إليه فلا بأس ; لأنه ليس بزينة ، بل يزيد العين مرها وقبحا ، وما اضطرت إليه مما فيه زينة من الكحل اكتحلت به ليلا وتمسحه نهارا . دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة ، وهي حاد على أبي سلمة ، فقال : ما هذا ؟ ، فقالت : إنما هو صبر ، فقال صلى الله عليه وسلم : اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار .

[ ص: 318 ] قال أبو عمر : حديث أم سلمة هذا في الموطأ من بلاغات مالك وسنذكر ذلك في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

ونذكر من طرقه ما يصح عندنا متصلا مسندا بعون الله ، وحديث أم سلمة هذا المرسل ظاهره مخالف لحديث أم سلمة المسند المذكور في هذا الباب ; لأن حديث أم سلمة في هذا الباب على ما رواه مالك ، وغيره ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن حميد بن نافع ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة يدل على أن المتوفى عنها زوجها لا تكتحل أصلا ; لأنه اشتكت إليه امرأة عينها ، فلم يأذن لها من الكحل لا ليلا ، ولا نهارا لا من ضرورة ، ولا من غيرها ، وقال : لا ، مرتين ، أو ثلاثة ، ولم يقل إلا أن تضطر . وأصل المسألة كان على أنها اشتكت عينيها ، وهذه ضرورة .

وقد حكى مالك ، عن نافع ، عن صفية ابنة أبي عبيد أنها اشتكت عينها ، وهي حاد على زوجها عبد الله بن عمر ، فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان ، وقد قال بهذا طائفة من أهل العلم أن المرأة الحاد لا تكتحل بحال من الأحوال على هذا الحديث كما صنعت صفية .

وأما حديث أم سلمة المرسل ، فإن فيه أن امرأة سألتها ، وهي حاد ، عن الكحل ، وقد اشتكت عينها فبلغ ذلك منها ، فقالت لها أم سلمة : اكتحلي بكحل الجلاء بالليل [ ص: 319 ] وامسحيه بالنهار . وهذا عندي ، وإن كان ظاهره مخالفا لحديث هذا الباب لما فيه من إباحته بالليل ، وقوله في هذا الحديث " لا " مرتين ، أو ثلاثا على الإطلاق ، فإن ترتيب الحديث - والله أعلم - على أن الشكاة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، لم تبلغ - والله أعلم - منها مبلغا لا بد لها فيه من الكحل ، بقوله هاهنا : ولو كانت محتاجة إلى ذلك مضطرة تخاف ذهاب بصرها لأباح لها ذلك - والله أعلم - كما صنع بالتي قال لها : اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار ، والنظر يشهد لهذا التأويل ; لأن الضرورات تنقل المحظور إلى حال المباح في الأصول ، وكذلك جعل مالك فتوى أم سلمة هذه تفسيرا للحديث المسند في الكحل ; لأن أم سلمة روته ، وما كانت لتخالفه إذا صح عندها ، وهي أعلم بتأويله ، ومخرجه ، والنظر يشهد لذلك ; لأن المضطر إلى شيء لا يحكم له بحكم المترفه المتزين ، وليس الدواء والتداوي من الزينة في شيء ، وإنما نهيت الحاد عن الزينة لا عن التداوي ، وأم سلمة أعلم بما روت مع صحته في النظر ، وعليه أهل الفقه ، وبه قال مالك ، والشافعي وأكثر الفقهاء ، وقد ذكر مالك في موطئه أنه بلغه عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها زوجها أنها إذا خشيت على بصرها من رمد بعينها ، أو شكوى أصابتها أنها تكتحل وتتداوى بالكحل ، وإن كان [ ص: 320 ] فيه طيب .

قال أبو عمر : لأن المقصد إلى التداوي لا إلى التطيب ، والأعمال بالنيات .

وقال الشافعي : الصبر يصفر فيكون زينة ، وليس بطيب ، وهو كحل الجلاء فأذنت فيه أم سلمة للمرأة بالليل حيث لا يرى ، وتمسحه بالنهار حيث يرى ، فكذلك ما أشبهه ، وقال : في الثياب زينتان : إحداهما جمال الثياب على اللابسين ، والستر للعورة ، فالثياب زينة لمن لبسها ، وإنما نهيت الحاد عن زينة بدنها ، ولم تنه عن ستر عورتها ، فلا بأس أن تلبس الحاد كل ثوب من البياض لأن البياض ليس بمزين ، وكذلك الصوف ، والوبر وكل ما نسج على وجهه ، ولم يدخل عليه صنع من خز أو غيره ، وكذلك كل صبغ لم يرد به التزين ، وما صبغ ليقبح ، أو لنفي الوسخ عنه ، فأما ما كان من زينة ، أو وشي في ثوب ، أو غيره ، فلا تلبسه الحاد ، وذلك لكل حرة وأمة وكبيرة وصغيرة مسلمة أو ذمية .

وقال أبو حنيفة : لا تلبس ثوب عصب ، ولا خز ، وإن لم يكن مصبوغا إذا أرادت به الزينة ، وإن لم ترد فليس الثوب المصبوغ من الزينة ، فلا بأس أن تلبسه ، وإذا اشتكت عينها اكتحلت بالأسود ، وغيره ، وإذا لم تشتك عينها لم تكتحل .

وقال أحمد ، وإسحاق : المتوفى [ ص: 321 ] عنها لا تختضب ، ولا تكتحل ، ولا تبيت عن بيتها ، ولا تلبس ثوبا مصبوغا . قالا : والمتوفى عنها ، والمطلقة في الزينة سواء للاحتياط .

قال أبو عمر : قول الشافعي في هذا الباب نحو قول مالك إلا أنه اختلف قوله في وجوب الإحداد على المطلقة التي لا تملك رجعتها ، فمرة قال : عليها الإحداد ، وهو قول الكوفيين ; لأنها كالمتوفى عنها في أنهما غير ذواتي زوج ، وليست ممن تملك رجعتها ، ومرة قال : لا يبين عندي أن أوجب عليهما الإحداد ، لأنهما قد تختلفان في حال ، وإن اجتمعا في غيره .

قال أبو عمر : في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله ، واليوم الآخر تحد على ميت إلا على زوج " دليل على أن الإحداد إنما يجب على الموتى ، ومن أجلهم لا على المطلقات ، والله أعلم .

وأجمعوا أن لا إحداد على المطلقة الرجعية . والمبتوتة أشبه بها منها بالمتوفى عنها ، والله أعلم .

وأجمعوا أن الإحداد واجب على ما ذكرنا إلا الحسن البصري ، فإنه قال : ليس الإحداد بواجب .

قال أبو عمر : أما قوله : دخلت حفشا ، ولبست شر ثيابها ، فالحفش البيت الصغير . ذكره ابن وهب ، عن مالك ، وكذلك قال الخليل .

[ ص: 322 ] قال : الحفش البيت الصغير ، قال : والحفش أيضا الشيء البالي الخلق ، والحفش أيضا الفرج ، والحفش الدرج الذي يكون فيه البخور كالقارورة للطيب .

وقال ابن وهب : قوله : تفتض به قال : تؤتى بدابة فتمسح على ظهرها بيدها وتؤتى ببعرة من بعر الغنم فترمي بها من وراء ظهرها ، ثم يكون إحلالا لها بعد السنة .

وقال ابن بكير : تفتض به تتمسح به ، وقد قيل في معنى تمسح به : تمر به ، وقال الأخفش : أصل الافتضاض التفرق ، يقال : قد افتض القوم عن فلان إذا تفرقوا عنه ، وانفضوا عنه أيضا ، وكذلك انفض السيل عن الجبل وافتض إذا انصدع فصار فرقتين ، ويقال : افتض الجارية واقتضها بالفاء وبالقاف أيضا ، ومنه : فضضت الخاتم إذا كسرته ، قال : فلعل قوله : تفتض بالدابة ، أي تنفرج بها من الغم الذي كانت فيه إذا تمسحت بها ، قال : وأجود من ذلك عندي أن " تفتض " ترجع إلى الفضة ، فكأنه يريد تتمسح بتلك الدابة حتى تنتقي من درنها ذلك فتصير كأنها فضة ، ليس أن تلك الدابة تغسلها ، ولكنها إذا تمسحت بذلك الطائر ، أو الدابة خرجت فاغتسلت وتنظفت وتطيبت ، ولبست ثيابها النظيفة ، وتعرضت للأزواج ، فتصير نقية كأنها الفضة ، قال : هذا عندنا حتى يأتيك غيره .

قال أبو عمر : أما الخليل فذكر في الافتضاض ما ذكر الأخفش ، وغيره ، قال : والفضض ماء عذب تفتضه ، والفضاض ما كسر من عظم ، ودرع فضفاضة ، والفضض ، والفضيض المتفرق ، وقال أبو عبيد : الحفش الدرج ، وجمعه أحفاش يشبه به البيت الصغير .

[ ص: 323 ] قال أبو عمر : وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث شعبة ويحيى بن سعيد المذكور في هذا الباب ، عن حميد بن نافع ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة : قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها في بيتها إلى الحول ، فإذا كان الحول فمر كلب رمته ببعرة ، ثم خرجت ، فلا ، أربعة أشهر وعشرا فإن الخليل - رحمه الله - قال : الحلس واحد أحلاس البيت ، وهو كالمسح وحلست الشعر أحلسه حلسا إذا غشيته بحلس ، وهو ما ولي ظهر البعير ، ورجل متحلس إذا لزم المكان ، ومحلس أيضا ، وأرض محلسة إذا صار النبات على الأرض كالحلس لها .

وذكر في الاستحلاس ، والإحلاس وجوها كثيرة ، وقال أبو عبيد : قوله : فمر كلب رمته ببعرة ، بمعنى أنها كانت في الجاهلية تعتد على زوجها إذا مات عنها عاما لا تخرج من بيتها ، ثم تفعل ذلك في رأس الحول لتري الناس أن إقامتها حولا بعد زوجها أهون عليها من بعرة يرمى بها كلب ، قال : وقد ذكروا هذه الإقامة عاما في أشعارهم ، قال لبيد يمدح قومه :


وهم ربيع للمجاور فيهم والمرملات إذا تطاول عامها

[ ص: 324 ] ونزل بذلك القرآن , قوله عز وجل : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ ذلك بقوله : يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف لا تصبر إحداكن هذا القدر ، وقد كانت تصبر حولا . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية