التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
222 [ ص: 389 ] حديث ثاني عشرين لعبد الله بن أبي بكر , مقطوع

مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له فطار دبسي فطفق يتردد يلتمس مخرجا فأعجبه ذلك فجعل يتبعه بصره ساعة ، ثم رجع إلى صلاته ، فإذا هو لا يدري كم صلى ، فقال : لقد أصابني في مالي هذا فتنة ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة ، وقال : يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت .


هذا الحديث لا أعلمه يروى من غير هذا الوجه ، وهو منقطع ، والأصل في هذا الباب أن من سها في صلاته فلم يدر كم صلى لشغل باله بما ينظر إليه ، أو يفكر فيه فليبن على يقينه على ما أحكمته السنة في حديث أبي سعيد الخدري ، وغيره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما ذكرناه في موضعه من كتابنا هذا .

[ ص: 390 ] وفي هذا الحديث دليل على أن النظر إلى ما يشغل المصلي لا يفسد الصلاة إذا بنى فيها على ما يجب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة ، والأصل في هذا الباب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى خميصة لها علم في الصلاة فشغله النظر إلى أعلامها فرماها عن نفسه ، وردها إلى أبي جهم ، ولم يذكر إعادة ، وهذا حديث ثابت عن عائشة من حديث ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، وهو عند مالك ، عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه ، عن عائشة ، وسيأتي في بابه إن شاء الله .

ومن الدليل على ما ذكرنا وذهبنا إليه في هذا الباب ، ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا بكر بن حماد ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الوارث ، عن عبد العزيز ، عن أنس ، قال : كان قرام لعائشة قد سترت به جانب بيتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أميطي عنا قرامك هذا ، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي .

قال أبو عمر : ولم يذكر إعادة ، وقد روي من حديث عبد الله بن سلام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا صلاة [ ص: 391 ] لملتفت ، وهو حديث ليس بالقوي ، ومن حديث عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الالتفات في الصلاة خلسة يختلسها الشيطان من صلاة العبد .

ومن حديث أنس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني ، إياك والالتفات في الصلاة ، فإنها هلكة ، فإن كان ولا بد ، ففي النافلة وهذا يدل على أن الصلاة لا تفسد به ; لأن ما فسدت به النافلة فسدت به الفريضة إذا كان اجتنابه من فرائض الصلاة . على أن هذه الأحاديث كلها من أحاديث الشيوخ لا يحتج بمثلها .

وأصح ما في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام ، فقال : شغلتني أعلام هذه اذهبوا إلى أبي جهم بن حذيفة وأتوني بأنبجانية ففي هذا [ ص: 392 ] الحديث أن أعلام الخميصة شغله النظر إليها صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر إعادة ، ولا استئنافا لصلاته ، ولا سجود سهو ، ولو كان شيء من ذلك واجبا لقاله صلى الله عليه وسلم ، ولما سكت عنه ، ولو قاله لنقل ، وكذلك لو فعله لنقل عنه كنقل سائر السنن .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة ، حدثنا معاوية ، يعني ابن سلام ، عن زيد أنه سمع أبا سلام ، قال : حدثني السلولي ، وهو أبو كبشة ، عن سهل بن الحنظلية ، قال : ثوب بالصلاة ، يعني صلاة الصبح ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، وهو يلتفت إلى الشعب ، يعني وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا الفضل بن موسى ، أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره .

[ ص: 393 ] قال أبو عمر : في أحاديث هذا الباب كلها ، مسندها ومقطوعها - دليل على أن نظر المصلي من السنة فيه أن يكون أمامه ، وهو المعروف الذي لا تكلف فيه ، ولذلك قال مالك : يكون نظر المصلي أمام قبلته . وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والحسن بن حي : يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده ، وقال شريك القاضي : ينظر في القيام إلى موضع السجود ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى أنفه ، وفي قعوده إلى حجره .

قال أبو عمر : هذا كله تحديد لم يثبت به أثر ، وليس بواجب في النظر ، ومن نظر إلى موضع سجوده كان أسلم له ، وأبعد من الاشتغال بغير صلاته إن شاء الله . وبالله التوفيق .

وأما قوله : لقد أصابتني في مالي فتنة ، فالفتن على وجوه ، فأما فتنة الرجل في أهله وماله فتكفيرها الصلاة والصدقة . كذلك قال حذيفة لعمر في الحديث الصحيح ، وصدقه عمر ، وقال : لست عن هذه أسألك ، وقال جماعة من فقهاء الحجاز والعراق : إن المعاصي كلها فتنة تكفرها الصلاة ، والصوم ما لم يواقع الكبائر . دليل ذلك قول الله عز وجل : إن الحسنات يذهبن السيئات نزلت في رجل أصاب من امرأة ما ليس [ ص: 394 ] بكبيرة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : يا معشر التجار ، إن هذا البيع يشوبه الحلف ، والكذب ، فشوبوه بالصدقة وكل من فتن بشيء من المعاصي ، والشهوات المحظورة ، فهو مفتون إلا أنه إن ترك وأناب واستغفر وتاب غفر له مع أدائه لصلاته وزكاته وصومه ، وهذه صفات المذنبين ، وقد فتن الصالحون وابتلوا بالذنوب ، قال الله تعالى : إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ، وقال تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم الآية ، وقد يكون من هذا الباب من الفتنة ما هو أشد مما وصفنا ، وهو الإصرار على الذنب ، والإقامة عليه منه ، وإن لم يأته فنيته على تلك الحال ويحب أن تسمح نفسه بترك ما هو عليه من قبيح أفعاله ، وهو مع ذلك لا يقلع عنها ، فهذا وإن كان مصرا لم تأت منه توبة ، فهو مقر بالذنوب والتقصير ، يحب أن يختم الله له بخير فيغفر له هذا برجائه ، ولا يقطع عليه ، وليست فتنته بذلك تخرجه عن الإسلام ، وقال بعضهم : ولا هو ممن تنكت في قلبه نكتة سوداء غلبت عليه ، فلا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا كما قال حذيفة في ذلك [ ص: 395 ] الحديث ; لأنه ينكر ما هو عليه ويود أنه تاب منه ، قالوا : وإنما ذلك في الأهواء المردية ، والبدع المحدثة التي تتخذ دينا وإيمانا ، ويشهد بها على الله تعديا وافتراء ، ولا يحب من فتن بها أن يقصر فيها ، ولا ينتقل عنها ، ويود أن لا يأتيه الموت إلا عليها ، فهذا أيضا مفتون مغرور متدرج ، قد أصابته فتنة زين له فيها سوء عمله ، يود أن يكون الناس كلهم مثله ، قالوا : فهذه الفتنة أشد من الفتنتين اللتين ذكرنا من فتن الذنوب ، ومن الفتن أيضا الكفر ، وقد سماه الله فتنة بقوله : والفتنة أشد من القتل وشرح هذه المعاني يطول . وبالله العصمة لا شريك له .

وأما النهس فطائر صغير مثل العصفور ، والدبسي طائر يشبه اليمامة ، وقيل : هو اليمامة نفسها ، وقوله : طفق يتردد كقوله : جعل يتردد . وفيه لغتان : طفق طفق يطفق ويطفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية