التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1458 [ ص: 407 ] حديث خامس عشرين لعبد الله بن أبي بكر

مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ، ومذينيب : يمسك حتى الكعبين ، ثم يرسل الأعلى على الأسفل .


قال أبو عمر : لا أعلم هذا الحديث في سيل مهزور ، ومذينيب هكذا يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه ، وأرفع أسانيده ما حدثناه خلف بن القاسم ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن بن محمد أبو العطار بمصر ، حدثنا يحيى بن سليمان بن صالح بن صفوان ، حدثنا أبو صالح الحراني عبد الغفار بن [ ص: 408 ] داود ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبي مالك بن ثعلبة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ إلى الكعبين لم يحبس الأعلى .

وذكر عبد الرزاق ، عن أبي حازم القرظي ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس في كل حائط حتى يبلغ الكعبين ، ثم يرسل ، وغيره من السيول كذلك .

قال : وأخبرنا معمر ، قال : سمعت الزهري ، يقول : نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر فكان ذلك إلى الكعبين .

قال أبو عمر : سئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب ، فقال : لست أحفظ فيه بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت .

قال أبو عمر : في هذا المعنى ، وإن لم يكن بهذا اللفظ - حديث ثابت مجتمع على صحته رواه ابن وهب ، عن الليث بن سعد ، ويونس بن يزيد جميعا ، عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله في شراج الحرة ، كانا يسقيان به كلاهما [ ص: 409 ] النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء ، فأبى عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك . فغضب الأنصاري ، فقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : يا زبير اسق ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، قال الزبير : لا أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية ، ومعنى هذا الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أشار على الزبير بما فيه السعة للأنصاري ، فلما كان منه ما كان من الجفاء استوعب للزبير حقه في صريح الحكم ، والله أعلم .

وقد حدثنا محمد ، حدثنا علي بن عمر الحافظ ، عن أبي محمد بن صاعد ، وعلي بن محمد الإسكافي ، قالا : حدثنا أبو الأحوص محمد بن الهيثم القاضي ، حدثنا أحمد بن صالح المصري ، حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مالك ، عن أبي الرجال ، عن عمرة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور ، ومذينيب أن يمسك الأعلى إلى الكعبين ، [ ص: 410 ] ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل ، وهذا إسناد غريب جدا عن مالك ، لا أعلمه يروى عن مالك بهذا الإسناد من غير هذا الوجه .

قال أبو عمر : حديث سيل مهزور ، ومذينيب حديث مدني مشهور عند أهل المدينة مستعمل عندهم معروف معمول به ، ومهزوز واد بالمدينة ، وكذلك مذينيب واد أيضا عندهم ، وهما جميعا يسقيان بالسيل ، فكان هذا الحديث متوارثا عندهم العمل به .

وذكر عبد الملك بن حبيب أن مهزورا ومذينيبا واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر ، ويتنافس أهل الحوائط في سيلهما ، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعلى فالأعلى ، والأقرب فالأقرب إلى ذلك السيل ، يدخل صاحب الحائط الأعلى اللاصق به السيل جميع الماء في حائطه ويصرف مجراه إلى بيبته ، فيسيل فيها ويسقي به حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم - أغلق البيبة وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه لحائطه ، فيصنع فيه مثل ذلك ، ثم يصرفه إلى من يليه أيضا ، هكذا أبدا يكون الأعلى فالأعلى أولى به على هذا الفعل حتى يبلغ ماء السيل إلى أقصى الحوائط ، قال : وهكذا فسره لي مطرف ، وابن الماجشون عند سؤالهما عن ذلك ، وقاله ابن وهب ، قال : وقد كان ابن القاسم [ ص: 411 ] يقول : إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين من القائم أرسله كله إلى من تحته ، وليس يحبس منه شيئا في حائطه ، وقول مطرف ، وابن الماجشون أحب إلي في ذلك ، وهما أعلم بذلك ; لأن المدينة دارهما ، وبها كانت القصة وفيها جرى العمل بالحديث .

وروى زياد ، عن مالك ، قال : تفسير قسمة ذلك أن يجري الأول الذي حائطه أقرب إلى الماء مجرى الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد كعبيه فيجري كذلك في حائطه حتى يرويه ، ثم يفعل الذي يليه كذلك ، ثم الذي يليه كذلك ، ما بقي من الماء شيء ، قال : وهذه السنة فيهما وفيما يشبههما مما ليس لأحد فيه حق معين ، الأول أحق بالتبدية ، ثم الذي يليه إلى آخرهم رجلا .

قال أبو عمر : ظاهر الحديث يشهد لما قاله ابن القاسم ; لأن فيه : ثم يرسل الأعلى على الأسفل ، ولم يقل : ثم يرسل بعض الأعلى ، وفي الحديث الآخر : ثم يحبس الأعلى ، وهذا كله يشهد لابن القاسم ، ومن جهة النظر أيضا أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لانقطع ذلك الماء في أقل مدة ، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع ، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء ، فقول ابن القاسم أولى على كل حال ، وفي المسألة كلام ومعارضات لا معنى للإتيان بها ، والصحيح ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

[ ص: 412 ] قال أبو عمر : حكم الأرحى وسائر المنافع من النبات ، والشجرات فيما كان أصل قوامه وحياته من الماء الذي لا صنع فيه لآدمي كماء السيول وما أشبههما كحكم ما ذكرنا لا فرق بين شيء من ذلك في أثر ولا نظر .

وأما ما استحق بعمل أو ملك صحيح واستحقاق قديم وثبوت ملك ، فكل على حقه , على حسب ما من ذلك بيده ، وعلى أصل مسألته ، والله الموفق للسداد لا شريك له .

التالي السابق


الخدمات العلمية