التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1660 [ ص: 11 ] حديث ثالث لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تحاج آدم وموسى ، قال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس ، وأخرجتهم من الجنة ، قال آدم : أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته وبكلامه ؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق .


إلى ههنا انتهى حديث مالك عند جميع رواته لهذا الحديث ، وزاد فيه ابن عيينة ، عن أبي الزناد بإسناده " قبل أن أخلق بأربعين سنة " وكذلك قال طاوس ، عن أبي هريرة .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن عمر ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس سمع [ ص: 12 ] أبا هريرة يقول ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج آدم موسى ، فقال موسى : يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة ، قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك التوراة بيده ، أتلومني على أمر قدره علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ وهذا حديث صحيح ثابت من جهة الإسناد لا يختلفون في ثبوته ، رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين ، وروي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية الثقات الأئمة الأثبات .

حدثنا أحمد بن فتح بن عبد الله ، حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن سلم المقدسي ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي آدم موسى ، فقال له موسى : أنت أبو الناس الذي أغويتهم ، وأخرجتهم من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي كلمك الله واصطفاك برسالته ، فكيف تلومني على عمل كتب الله علي أن أعمله قبل أن أخلق ، قال : فحج آدم موسى .

[ ص: 13 ] ورواه الزهري فاختلف أصحابه عليه في إسناده ، فرواه إبراهيم بن سعد ، وشعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، ورواه عمر بن سعيد ، عن الزهري ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، ورواه معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة وسعيد ، عن أبي هريرة ، ومنهم من يجعله عن معمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، ومنهم من يرويه ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، وكلهم يرفعه ، وهي كلها صحاح ; للقاء الزهري جماعة من أصحاب أبي هريرة ، وقد روي هذا الحديث عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا بأتم ألفاظ ، وأحسن سياقة .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا سحنون ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى عليه السلام قال : يا رب أبونا آدم أخرجنا ونفسه من الجنة ، فأراه الله آدم ، فقال له : أنت آدم ؟ قال آدم : نعم ، قال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وعلمك [ ص: 14 ] الأسماء كلها ، وأمر ملائكته فسجدوا لك ؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ قال له آدم : ومن أنت ؟ قال : أنا موسى ، قال : أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب ، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه ؟ قال : نعم ، قال : أما وجدت في كتاب الله الذي أنزل عليك أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق ؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني في شيء سبق من الله فيه القضاء قبل ؟ قال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى .

في هذا الحديث من الفقه : إثبات الحجاج والمناظرة ، وإباحة ذلك إذا كان طلبا للحق وظهوره ، وقد أفردنا لهذا المعنى بابا كاملا أوضحناه فيه بالحجج والبرهان ، والبسط والبيان ، في كتابنا كتاب العلم ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .

وفيه : إباحة التقرير ، والتعريض في معنى التوبيخ في درج الحجاج حتى تقر الحجة مقرها .

وفيه : دليل على أن من علم وطالع العلوم ، فالحجة له ألزم ، وتوبيخه على الغفلة أعظم .

[ ص: 15 ] وفيه : إباحة مناظرة الصغير للكبير ، والأصغر للأسن إذا كان ذلك طلبا للازدياد من العلم ، وتقريرا للحق ، وابتغاء له .

وفيه : الأصل الجسيم الذي أجمع عليه أهل الحق ، وهو أن الله عز وجل قد فرغ من أعمال العباد ، فكل يجري فيما قدر له وسبق في علم الله تبارك اسمه .

وأما قوله : أفتلومني على أمر قد قدر علي ؟ فهذا عندي مخصوص به آدم ; لأن ذلك إنما كان منه ومن موسى عليهما السلام بعد أن تيب على آدم ، وبعد أن تلقى من ربه كلمات تاب بها عليه ، فحسن منه أن يقول ذلك لموسى ; لأنه قد كان تيب عليه من ذلك الذنب ، وهذا غير جائز أن يقوله اليوم أحد إذا أتى ما نهاه الله عنه ، ويحتج بمثل هذا فيقول : أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت ، وذلك قد سبق في علم الله وقدره علي قبل أن أخلق ؟ هذا ما لا يسوغ لأحد أن يقوله ، وقد اجتمعت الأمة أن من أتى ما يستحق الذم عليه فلا بأس بذمه ، ولا حرج في لومه ، ومن أتى ما يحمد له فلا بأس بمدحه عليه وحمده ، وقد حكى مالك ، عن يحيى بن سعيد [ ص: 16 ] معنى ما ذكرنا أن ذلك إنما كان من آدم عليه السلام بعد أن تيب عليه ، ذكره ابن وهب ، عن مالك ، وهذا صحيح ; لأن روحه لم يجتمع بروح موسى ولم يلتقيا والله أعلم إلا بعد الوفاة ، وبعد رفع أرواحهما في عليين ، فكان التقاؤهما كنحو التقاء نبينا صلى الله عليه وسلم بمن لقيه في المعراج من الأنبياء على ما جاء في الأثر الصحيح ، وإن كان ذلك عندي لا يحتمل تكييفا ، وإنما فيه التسليم ; لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، قال : سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال حماد : وأخبرنا حميد ، عن الحسن ، عن جندب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقي آدم موسى ، فحج آدم موسى .

قال أبو عمر : معنى حجه : غلبه وظهر عليه في الحجة ، وفي ذلك دليل على فضل من أدلى عند التنازع بحجته .

[ ص: 17 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقي آدم موسى ، فقال له موسى : يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، ونفخ فيك من روحه ، فعلت ما فعلت ، فأخرجت ذريتك من الجنة ، قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وقربك نجيا ، وآتاك التوراة ، فبكم تجد الذنب الذي عملته مكتوبا علي قبل أن أخلق ؟ قال : بأربعين سنة ، قال : فلم تلومني ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى يقولها ثلاثا .

قال أبو عمر : هذا الحديث من أوضح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر ودفع قول القدرية ، وبالله التوفيق والعصمة .

[ ص: 18 ] وروي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري : إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم وقدر ، ولكن يطالبهم بما نهاهم عنه وأمر ، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك والسلام ، وروينا أن الناس لما خاضوا في القدر بالبصرة اجتمع مسلم بن يسار ورفيع أبو العالية ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى ننظر فيما خاض الناس فيه هذا الأمر ، قال : فقعدا ففكرا ، فاتفق رأيهما أنه يكفي المؤمن من هذا الأمر أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأنه مجزي بعمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية