التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1684 [ ص: 19 ] حديث رابع لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا .


قال أبو عمر : احتج قوم من الشافعية بهذا الحديث ومثله في إبطال الذرائع في البيوع ، فقالوا : قال الله عز وجل ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث وقال : إن الله حرم من المؤمن دمه ، وعرضه ، وماله ، وأن لا يظن به إلا الخير وقال صلى الله عليه وسلم إذا ظننتم فلا تحققوا قالوا : وأحكام الله عز وجل على [ ص: 20 ] الحقائق لا على الظنون ، فأبطلوا القول بالذرائع في الأحكام من البيوع وغيرها ، فقالوا : غير جائز أن يقال إنما أردت بهذا البيع كذا بخلاف ظاهره ، وصار هذا كأنه كذا ، ويدخله كذا ، لما ينكر فاعله أنه أراده ، وللقول عليهم موضع غير هذا من جهة النظر ، روى أشهب ، عن نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب قال : لا يحل لامرئ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءا وهو يجد لها في شيء من الخير مصدرا .

حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا أحمد بن صالح بن عمر ، حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد المنادي ، أخبرنا ابن سيف ، عن السري بن يحيى ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، قال : سمعت سفيان يقول : الظن ظنان : ظن فيه إثم ، وظن ليس فيه إثم ، فأما الظن الذي فيه إثم ، فالذي يتكلم به ، وأما الذي ليس فيه إثم فالذي لا يتكلم به ، ومن حجة من ذهب إلى القول بالذرائع - وهم أصحاب الرأي من الكوفيين ، ومالك وأصحابه من المدنيين - من جهة الأثر حديث عائشة في قصة زيد بن أرقم ، وهو حديث يدور على امرأة مجهولة ، وليس عند أهل الحديث [ ص: 21 ] بحجة ، وأما قوله في هذا الحديث " ولا تجسسوا ولا تحسسوا " فهما لفظتان معناهما واحد وهو البحث والتطلب لمعايب الناس ومساويهم ، إذا غابت واستترت لم يحل لأحد أن يسأل عنها ، ولا يكشف عن خبرها ، قال ابن وهب : ومنه لا يلي أحدكم استماع ما يقول فيه أخوه ، وأصل هذه اللفظة في اللغة من قولك : حس الثوب أي أدركه بحسه وجسه ، من المحسة والمجسة ، وذلك حرام كالغيبة أو أشد من الغيبة ، قال الله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ) فالقرآن والسنة وردا جميعا بأحكام هذا المعنى ، وهو قد استسهل في زماننا فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بنا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا محمد بن المثنى ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش [ ص: 22 ] عن زيد - يعني ابن وهب - قال : أتي ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا ، فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .

وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : ( ولا تجسسوا ) قال : خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله .

وأما قوله : ولا تنافسوا ، فالمراد به التنافس في الدنيا ، ومعناه طلب الظهور فيها على أصحابها ، والتكبر عليهم ، ومنافستهم في رياستهم ، والبغي عليهم ، وحسدهم على ما آتاهم الله منها ، وأما التنافس والحسد على الخير وطرق البر فليس من هذا في شيء ، وكذلك من سأل عما غاب عنه من علم وخير فليس بمتجسس ، فقف على ما فسرت لك ، وقد مضى في باب ابن شهاب عن أنس من هذا الكتاب في معنى التحاسد ، والتدابر ، والتباغض ما فيه كفاية ، فلا معنى لإعادة ذلك ههنا ، ومعنى قوله " لا تدابروا ، ولا تباغضوا ، ولا تقاطعوا " معنى متداخل كله متقارب ، والقصد فيه إلى الندب على [ ص: 23 ] التحاب ، ودفع ما نفى ذلك ; لأنك إذا أحببت أحدا وأصفيته الود لم تعرض عنه بوجهك ، ولم توله دبرك ; بل تقبل عليه ، وتواجهه ، وتلقاه بالبشر ، ومن أبغضته وليته دبرك ، وأعرضت عنه ، وقد فسرنا هذه المعاني في مواضع سلفت من كتابنا هذا ، والحمد لله .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عيسى بن محمد ، وابن عوف ، وهذا لفظه ، قالا : حدثنا الفريابي ، عن سفيان ، عن ثور ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم .

قال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها .

قال أبو عمر : وروى هذا الحديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن معاوية ، عن النبي عليه السلام مثله بمعناه .

[ ص: 24 ] حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء ، حدثنا عمرو بن الحارث ، حدثني عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي ، قال : حدثني يحيى بن جابر ، أن عبد الرحمن بن جبير حدثه ، أن أباه حدثه أنه سمع معاوية بن أبي سفيان ، قال : إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما نفعني الله به سمعته يقول : أعرضوا عن الناس ، ألم تر أنك إذا اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن جبير بن نفير ، وكثير بن مرة ، وعمرو بن الأسود ، عن المقدام بن معدي كرب ، وأبي أمامة ، عن النبي عليه السلام ، قال : إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية