التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
567 [ ص: 25 ] حديث خامس لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تبارك وتعالى : إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه ، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه .


وهذا الحديث معناه عند أهل العلم فيما يعانيه المرء عند حضور أجله ، فإذا رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا ، ولا لقاء الله لسوء ما عاين مما يصير إليه ، وإذا رأى ما يحب أحب لقاء الله والإسراع إلى رحمته لحسن ما عاين وبشر به ، وليس حب الموت ولا كراهيته ، والمرء في صحته من هذا المعنى في شيء ، والله أعلم .

وقال أبو عبيد في معنى قوله عليه السلام من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، قال : ليس وجهه عندي أن يكون يكره علز الموت وشدته ; لأن هذا لا يكاد يخلو منه أحد [ ص: 26 ] نبي ولا غيره ، ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها ، والكراهة أن يصير إلى الله والدار الآخرة ، ويؤثر المقام في الدنيا ، قال : ومما يبين ذلك أن الله قد عاب قوما في كتابه بحب الحياة ، فقال ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) ، وقال ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، وقال ( ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، قال : فهذا يدل على أن الكراهية للقاء الله ليست بكراهية الموت ، وإنما هو الكراهية للنقلة من الدنيا إلى الآخرة .

قال أبو عمر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن أن يتمنى أحدهم الموت لضر نزل به ، فالمتمني للموت ليس بمحب للقاء الله بل هو عاص لله عز وجل في تمنيه الموت إذا كان بالنهي عالما .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا عمرو [ ص: 27 ] بن مرزوق ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، وعبد العزيز بن صهيب ، وعلي بن زيد ، كلهم عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يتمنى أحدكم الموت لضر ينزل به ، فإن كان لا بد قائلا ، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي .

وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن تمني الموت جماعة من الصحابة ، منهم : خباب بن الأرت ، وأم الفضل بنت الحارث أم ابن عباس ، وعابس الغفاري ، وأبو هريرة ، وغيرهم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا بكر بن حماد ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : حدثني قيس ، قال : أتيت خبابا وقد اكتوى سبعا في بطنه ، فقال : لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا [ ص: 28 ] محمد بن جعفر الوركاني ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنى أحدكم الموت : إما محسن فلعله يزداد خيرا ، وإما مسيء فلعله يستعتب .

فهذه الآثار وما كان مثلها يدلك على أن حب لقاء الله ليس بتمني الموت ، والله أعلم .

وقد يجوز تمني الموت لغير البلاء النازل ، مثل أن يخاف على نفسه المرء فتنة في دينه ، قال مالك : كان عمر بن عبد العزيز لا يبلغه شيء عن عمر بن الخطاب إلا أحب أن يعمل به حتى لقد بلغه أن عمر بن الخطاب دعا على نفسه بالموت فدعا عمر بن عبد العزيز على نفسه بالموت ، فما أتت الجمعة حتى مات رحمه الله ، وقد أوضحنا هذا المعنى في هذا الكتاب عند قوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر أخيه ، فيقول : يا ليتني مكانه .

وأما معنى حديث هذا الباب فإنما هو والله أعلم عند [ ص: 29 ] حضور الموت ، ومعاينة بشرى الخير أو الشر ، فعلى هذا تنزل الآثار ، وعلى ذلك فسره العلماء .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، وخلف بن القاسم ، قالا : حدثنا أحمد بن محمد بن الحداد بكير ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، حدثنا إسحاق بن موسى الهروي ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمارة بن غزية ، عن موسى بن وردان المصري ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن المسلم إذا حضره الموت رأى بشره فلم يكن شيء أبغض إليه من المكث في الدنيا ، وإذا حضر الكافر الموت رأى بشره فلم يكن شيء أحب إليه من المكث في الدنيا .

قال أبو عمر : بشر جمع بشير مثل سرير وسرر ، وقد يخفف ذلك ويثقل مثل رسل ورسل ، وسبل وسبل ، وقد تكون البشرى بالخير والشر ، كما قال الله عز وجل : [ ص: 30 ] ( فبشرهم بعذاب أليم ) وقال أهل اللغة أيضا إنه قد يكون البشر جمع بشارة .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا شبابة ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح ، قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، قال : فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء فيفتح لها ، فيقال من هذا ؟ فيقولون : فلان ، فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فلا يزال يقال ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء - يعني السابعة - ، وإذا كان الرجل السوء ، وحضرته الملائكة [ ص: 31 ] عند موته ، قالت : اخرجي أيتها النفس الخبيثة ، كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة ، وأبشري بحميم ، وغساق ، وآخر من شكله أزواج ، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج وذكر الحديث .

وفيه ما يدل على أن ما ذكرنا من حب لقاء الله وكراهته إنما ذلك عند حضور الوفاة ، ومعاينة ما له عند الله ، والله أعلم .

وفيه ما يدل على أن البشارة قد تكون بالخير والشر ، وبما يسوء وبما يسر ، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال لبعض أصحابه في حديث ذكره : أينما مررت بقبر كافر فبشره بالنار وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : بشر قاتل ابن صفية بالنار ، وقد حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد [ ص: 32 ] بن هارون ، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قيل : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا وهو يكره الموت ، ويقطع به ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان ذلك كشف له .

حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا حمزة بن محمد ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا هناد بن السري ، عن أبي زبيد ، عن مطرف ، عن عامر الشعبي ، عن شريح بن هانئ ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قال شريح : فأتيت عائشة ، فقلت : يا أم المؤمنين [ ص: 33 ] سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا ، فقالت : وما ذلك ؟ قلت : قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، وليس منا أحد إلا ويكره الموت ، قالت : قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن ليس بالذي تذهب إليه ، ولكن إذا طمح البصر ، وحشرج الصدر ، واقشعر الجلد ، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فهذه الآثار كلها قد بان فيها أن ذلك عند حضور الموت ، ومعاينة ما هناك ، وذلك حين لا تقبل توبة التائب إن لم يتب قبل ذلك ، وقد ذكرنا هذا المعنى مجودا في باب نافع ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية