التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
568 [ ص: 37 ] حديث سابع لأبي الزناد

مالك ، عن الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله : إذا مات فحرقوه ، ثم اذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به ، فأمر الله البر فجمع ما فيه ، وأمر البحر فجمع ما فيه ، ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ، فغفر له .


قال أبو عمر : تابع يحيى على رفع هذا الحديث ، عن مالك بهذا الإسناد أكثر رواة الموطأ ، ووقفه مصعب بن عبد الله الزبيري ، وعبد الله بن مسلمة القعنبي فجعلاه من قول أبي هريرة ولم يرفعاه ، وقد روي عن القعنبي مرفوعا كرواية [ ص: 38 ] سائر الرواة عن مالك ، وممن رواه مرفوعا عن مالك عبد الله بن وهب ، وابن القاسم ، وابن بكير ، وأبو المصعب ، ومطرف ، وروح بن عبادة ، وجماعة .

أخبرنا أبو القاسم خلف بن القاسم بن سهل ، قال : حدثنا أبو الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين بن السندي العسكري ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، والربيع بن سليمان ، قالا : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي الزناد ، ومالك بن أنس ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رجل لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه ، واذروا نصفه في البر ، ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، فلما مات فعلوا به ، فأمر الله البحر فجمع ما فيه ، وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم ، فغفر له .

[ ص: 39 ] قال أبو عمر : روي من حديث الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أسرف رجل على نفسه حتى إذا حضرته الوفاة قال لأهله : إذا أنا مت فأحرقوني ، الحديث كحديث مالك عن أبي الزناد سواء ، وروي من حديث أبي سعيد الخدري هذا المعنى أيضا ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان فيمن كان قبلكم رجل من الأمم السالفة أفاده الله مالا وولدا ، فلما ذهب - يعني أكثر عمره - قال لولده : لا أدع لكم مالا أو تفعلون ما أقول ، قالوا : يا أبانا لا تأمر بشيء إلا فعلناه ، قال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في يوم ريح عاصف لعلي أضل الله ، ففعلوا ذلك به ، فقال الله له : كن ، فإذا هو رجل قائم ، قال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : مخافتك ، فما تلافاه غيرها ، فغفر له ، قال أحمد بن زهير : كذا قال أبو هلال ، أوقف الحديث على أبي سعيد ، ورفعه سليمان التيمي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا قتادة [ ص: 40 ] عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رجلا فيمن كان سلف ، ثم ذكر نحوه .

قال أبو عمر : روي من حديث أبي رافع ، عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال : قال رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد ، وهذه اللفظة إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل ، وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى ، والأصول كلها تعضدها ، والنظر يوجبها ; لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار ; لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافرا ، وهذا ما لا مدفع له ، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة ، وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث " لم يعمل حسنة قط " أو " لم يعمل خيرا قط " لم يعذبه إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير ، وهذا سائغ في لسان العرب جائز في لغتها أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض ، والدليل على أن الرجل كان مؤمنا قوله حين قيل له : لم فعلت هذا ؟ فقال : من خشيتك يا رب ، والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق ، بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم كما قال الله عز وجل : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ ص: 41 ] قالوا : كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه ، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به ، وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده .

ومثل هذا الحديث في المعنى ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، عن ابن العجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن رجلا لم يعمل خيرا قط ، وكان يداين الناس فيقول لرسوله : خذ ما يسر ، واترك ما عسر ، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا ، فلما هلك ، قال الله : هل عملت خيرا قط ؟ قال : لا ، إلا أنه كان لي غلام ، فكنت أداين الناس ، فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما يسر ، واترك ما عسر ، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا ، قال الله : قد تجاوزت عنك .

قال أبو عمر : فقول هذا الرجل - الذي لم يعمل خيرا قط غير تجاوزه عن غرمائه - : لعل الله يتجاوز عنا - إيمان ، وإقرار بالرب ومجازاته ، وكذلك قوله الآخر : خشيتك يا رب ، إيمان [ ص: 42 ] بالله ، واعتراف له بالربوبية ، والله أعلم .

وأما قوله : لئن قدر الله علي ، فقد اختلف العلماء في معناه ، فقال منهم قائلون : هذا رجل جهل بعض صفات الله عز وجل وهي القدرة ، فلم يعلم أن الله على كل ما يشاء قدير ، قالوا : ومن جهل صفة من صفات الله عز وجل وآمن بسائر صفاته وعرفها لم يكن بجهله بعض صفات الله كافرا ، قالوا : وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله ، وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين ، وقال آخرون : أراد بقوله : لئن قدر الله عليه ، من القدر الذي هو القضاء ، وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء ، قالوا : وهو مثل قول الله عز وجل في ذي النون ( إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه ) .

وللعلماء في تأويل هذه اللفظة قولان ، أحدهما : أنها من التقدير والقضاء ، والآخر : أنها من التقتير والتضييق ، وكل ما قاله العلماء في تأويل هذه الآية فهو جائز في تأويل هذا [ ص: 43 ] الحديث في قوله : لئن قدر الله علي ، فأحد الوجهين تقديره كأن الرجل قال : لئن كان قد سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ، ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري ، والوجه الآخر تقديره والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك ثم أمر بأن يحرق بعد موته من إفراط خوفه ، قال ابن قتيبة : بلغني عن الكسائي أنه قال : يقال هذا قدر الله وقدره ، قال : ولو قرئت " أودية بقدرها " مخففا أو قرئت " وما قدروا الله حق قدره " مثقلا جاز ، وأنشد :


وما صب رجلي في حديد مجاشع مع القدر إلا حاجة لي أريدها

أراد القدر ، قال : ويقال هذا على قدر هذا وقدره ، قال الأصمعي : أنشدني عيسى بن عمر لبدوي :


كل شيء حتى أراك متاع     وبقدر تفرق واجتماع

ومن هذا حديث ابن عمر ، عن النبي عليه السلام في الهلال " فإن غم عليكم فاقدروا له " وقد ذكرته في بابه وموضعه من هذا الكتاب .

[ ص: 44 ] وقد روينا عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب أنه قال في قول الله عز وجل ( فظن أن لن نقدر عليه ) قال : هو من التقتير ليس من القدرة ، يقال منه : قدر الله لك الخير يقدره قدرا بمعنى قدر الله لك الخير ، وأنشد ثعلب :


ولا عائدا ذاك الزمان الذي مضى     تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

يعني ما تقدره وتقضي به يقع ، يعني ينزل وينفذ ويمضي .

قال أبو عمر : هذا البيت لأبي صخر الهذلي في قصيدة له أولها :


لليلى بذات الجيش دار عرفتها     وأخرى بذات البين آياتها سطر

وفيها يقول :


وليس عشيات الحمى برواجع     لنا أبدا ما أبرم السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى     تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

[ ص: 45 ] السلم شجر من العضاه يدبغ به ، والنضر النضارة والتنعم ، وأبرم السلم أخرج برمته ، وأبرمت الأمر أحكمته ، وقال غيره :


فما الناس أردوه ولكن أقاده     يد الله والمستنصر الله غالب
فإنك ما يقدر لك الله تلقه     كفاحا وتجلبه إليك الجوالب

وقال ابن قتيبة في قول الله عز وجل ( فظن أن لن نقدر عليه ) أي لن نضيق عليه ، قال : فلان مقدر عليه ، ومقتر عليه ، ومنه قوله عز وجل ( فقدر عليه رزقه ) أي ضيق عليه في رزقه ، وقوله ( ومن قدر عليه رزقه ) أي ضيق عليه في رزقه ، وقال ثعلب في قول الله عز وجل ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا ) قال : مغاضبا للملك .

قال أبو عمر : قد قيل ما قال ثعلب ، وقيل إنه خرج مغاضبا لنبي كان في زمانه ، وهذان القولان للمتأخرين ، وأما المتقدمون فإنهم قالوا : خرج مغاضبا لربه ، روي ذلك عن ابن مسعود ، والشعبي ، والحسن البصري ، وغيرهم ، ولولا خروجنا عما له قصدنا لذكرنا خبره وقصته ههنا .

[ ص: 46 ] وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدره ، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ، ألا ترى أن عمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين ، وجماعة من الصحابة ، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القدر ، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به ، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين ، أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مضر بن محمد ، قال : حدثنا شيبان بن فروخ ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن يزيد الرشك ، قال : حدثنا مطرف ، عن عمران بن حصين ، قال : قلت يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ وذكر الحديث .

وروى الليث ، عن أبي قبيل ، عن شفي الأصبحي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، فذكر حديثا في القدر [ ص: 47 ] وفيه : فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلأي شيء نعمل إن كان الأمر قد فرغ منه ؟ فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهم العلماء الفضلاء - سألوا عن القدر سؤال متعلم جاهل ، لا سؤال متعنت معاند ، فعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جهلوا من ذلك ، ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه ، ولو كان لا يسعهم جهله وقتا من الأوقات لعلمهم ذلك مع الشهادة بالإيمان ، وأخذ ذلك عليهم في حين إسلامهم ، ولجعله عمودا سادسا للإسلام ، فتدبر ، واستعن بالله ، فهذا الذي حضرني على ما فهمته من الأصول ووعيته ، وقد أديت اجتهادي في تأويل حديث هذا الباب كله ولم آل ، وما أبرئ نفسي ، وفوق كل ذي علم عليم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية