التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1715 [ ص: 53 ] حديث تاسع لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء .


قال أبو عمر : معى مقصور مثل غنى ، وسوى ، ومنى ، وهذا الحديث خرج على غير مقصوده بالحديث ، والإشارة فيه إلى كافر بعينه لا إلى جنس الكافر ، ولا سبيل إلى حمله على العموم ; لأن المشاهدة تدفعه وتكذبه ، وقد جل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، ألا ترى أنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن ، ويسلم الكافر فلا ينتقص أكله ولا يزيد ، وفي حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن هذا الحديث كان في رجل بعينه ، ولذلك جعله مالك في موطئه بعده مفسرا [ ص: 54 ] له ، وقد قيل فيه غير هذا مما قد ذكرته في حديث سهيل ، وسيأتي حديث سهيل في بابه من كتابنا هذا إن شاء الله .

ويروى أن الرجل الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة هو جهجاه بن سعيد الغفاري ، وقد ذكرناه وذكرنا خبره في كتاب الصحابة ، حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثني قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن الحباب ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، قال : حدثنا عبيد الله بن سلمان الأغر ، عن عطاء بن يسار ، عن جهجاه الغفاري أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام ، فحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب ، فلما سلم قال : ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه ، قال : فلم يبق في المسجد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيري ، وكنت رجلا عظيما طوالا لا يقدم علي أحد ، فذهب بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله ، فحلب لي عنزا ، فأتيت عليها حتى حلب لي سبعة أعنز فأتيت عليها ، وذكر الحديث ، وفيه : فلما أسلمت دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله ، فحلب لي عنزا [ ص: 55 ] فرويت وشبعت ، فقالت أم أيمن : يا رسول الله أليس هذا ضيفنا ؟ فقال : بلى ولكنه أكل في معي مؤمن الليلة ، وأكل قبل ذلك في معي كافر ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معي واحدة .

قال أبو عمر : وهذا أيضا لفظ عموم والمراد به الخصوص ، فكأنه قال هذا إذ كان كافرا كان يأكل في سبعة أمعاء ، فلما آمن عوفي وبورك له في نفسه ، فكفاه جزء من سبعة أجزاء مما كان يكفيه إذ كان كافرا خصوصا له ، والله أعلم ، فكان قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، إشارة إليه كأنه قال : هذا الكافر وكذلك المؤمن يأكل في معي واحد - يعني هذا المؤمن - والله أعلم .

وقد قال الله عز وجل : ( الذين قال لهم الناس ) وهو يريد رجلا فيما قال أهل العلم بتأويل القرآن : وقيل رجلان ( إن الناس قد جمعوا لكم ) يعني قريشا ، فجاء بلفظ عموم ، ومعناه الخصوص ، ومثله ( تدمر كل شيء ) ، و ما تذر من شيء [ ص: 56 ] كل هذا عموم يراد به الخصوص ، ومثل هذا كثير في القرآن ولسان العرب ، وفي هذا الحديث دليل على ذم الأكول الذي لا يشبع ، وأنها خلة مذمومة ، وصفة غير محمودة ، وأن القلة من الأكل أحمد وأفضل ، وصاحبها عليها ممدوح ، وإن كان الأمر كله لله ، وبيده ، وخلقه ، وصنعه لا شريك له ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية