التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
569 [ ص: 57 ] حديث عاشر لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ، كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء ؟ قالوا : يا رسول الله أرأيت الذي يموت وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين .


قال أبو عمر : روي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحاح كلها ثابتة من حديث أبي هريرة وغيره ، فممن رواه عن أبي هريرة : عبد الرحمن الأعرج ، وسعيد بن المسيب ، وأبو سلمة ، وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف ، وأبو صالح السمان ، وسعيد بن أبي سعيد ، ومحمد [ ص: 58 ] بن سيرين ، ورواه ابن شهاب ، فاختلف أصحابه عليه في إسناده ، فرواه معمر ، والزبيدي ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، ورواه يونس ، وابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، ورواه الأوزاعي عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، وزعم محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري أن هذه الطرق كلها صحاح ، عن ابن شهاب محفوظة .

قال أبو عمر : ليس هذا الحديث عند مالك عن ابن شهاب في الموطأ ، وهو عنده عن أبي الزناد ، عن أبي هريرة ، وقد روى هذا الحديث عبد الله بن الفضل الهاشمي شيخ مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه كالبهيمة تنتج البهيمة ، هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها إلى ههنا انتهى حديثه ، ولم يذكر ما في حديث مالك قوله " أرأيت من [ ص: 59 ] يموت وهو صغير " إلى آخر الحديث ، وزاد فيه " ويمجسانه " وهكذا رواية ابن شهاب لهذا الحديث ليس فيها قوله " أرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين " عند ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام أنه سئل عن أولاد المشركين ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، وسنذكر حديث ابن شهاب هذا ، عن عطاء بن يزيد في باب مفرد من هذا الكتاب إن شاء الله .

أما قوله في حديث مالك وغيره " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه " الحديث ، فإن أهل العلم من أصحابنا وغيرهم اختلفوا في معنى قوله " كل مولود " فقالت طائفة : ليس في قوله " كل مولود " ما يقتضي العموم .

قالوا : والمعنى في ذلك : أن كل من ولد على الفطرة وكان له أبوان على غير الإسلام هوداه أو نصراه أو مجساه ، قالوا : وليس المعنى أن جميع المولودين من بني آدم أجمعين يولدون على الفطرة ، بل المعنى أن المولود على الفطرة من الأبوين الكافرين يكفرانه ، وكذلك من لم يولد على الفطرة [ ص: 60 ] وكان أبواه مؤمنين حكم له بحكمهما في صغره ، إن كانا يهوديين فهو يهودي يرثهما ويرثانه ، وكذلك لو كانا نصرانيين أو مجوسيين حتى يعبر عنه لسانه ويبلغ الحنث ، فيكون له حكم نفسه حينئذ لا حكم أبويه ، واحتج قائلو هذه المقالة بحديث أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا وبقوله عليه السلام ألا إن بني آدم خلقوا طبقات ، فمنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت مؤمنا .

وهذا الحديث حدثناه خلف بن القاسم قراءة مني عليه ، أن أحمد بن محمد بن أبي الموت المكي حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا علي بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بنهار ثم قام وخطبنا إلى مغرب [ ص: 61 ] الشمس ، فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبر به ، حفظه من حفظه ، ونسيه من نسيه ، وكان فيما حفظنا أن قال : ألا إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، ألا فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء وكان فيما حفظنا أن قال : ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه ، فبكى أبو سعيد وقال : قد والله رأينا فهبنا ، وكان فيما حفظنا أن قال : ألا إن لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ، ولا غدر أعظم من غدر إمام عامة ، وكان فيما حفظنا أن قال : ألا إن بني آدم خلقوا طبقات شتى منهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ، ويحيى كافرا ، ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ، ويحيى كافرا ، ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت كافرا ، ومنهم حسن القضاء حسن الطلب ، وذكر تمام الحديث .

قالوا : ففي هذا الحديث ومع الحديث في غلام الخضر ما يدل على أن قوله " كل مولود " ليس على العموم ، وأن المعنى فيه أن كل مولود يولد على الفطرة ، وأبواه يهوديان أو نصرانيان ، فإنهما يهودانه أو ينصرانه ، أي يحكم له بحكمهما ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه ، قالوا : وألفاظ الحفاظ على نحو حديث مالك [ ص: 62 ] هذا ، ودفعوا رواية من روى " كل بني آدم يولد على الفطرة " قالوا : ولو صح هذا اللفظ ما كان فيه أيضا حجة لما ذكرنا ; لأن الخصوص جائز دخوله على هذا اللفظ في لسان العرب ، ألا ترى إلى قول الله عز وجل ( تدمر كل شيء ) ولم تدمر السماوات والأرض ، وقوله ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) ولم يفتح عليهم أبواب الرحمة ، ومثل هذا كثير .

وذكروا من ألفاظ الأحاديث في ذلك رواية الأوزاعي ، عن الزهري ، عن حميد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه قال الأوزاعي : وذلك بقضاء وقدر ، وهكذا لفظ حديث معمر ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون من جدعاء ثم يقول أبو هريرة [ ص: 63 ] : اقرءوا إن شئتم ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ذكره عبد الرزاق هكذا ، ولم يختلف في هذا اللفظ عن معمر فيما علمت ، أعني قوله " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه " الحديث .

وكذلك رواه ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه " الحديث كلفظ حديث معمر سواء إلا قول أبي هريرة ، وكذلك حديث سمرة بن جندب حديث الرؤيا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه " هذا لفظه ، وروى أبو رجاء العطاردي ، عن سمرة بن جندب الحديث الطويل حديث الرؤيا ، وفيه عن النبي عليه السلام " وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة " .

وقال آخرون : المعنى في ذلك كل مولود من بني آدم فهو يولد على الفطرة أبدا ، وأبواه يحكم له بحكمهما ، وإن كان قد ولد على الفطرة حتى يكون ممن يعبر عنه لسانه [ ص: 64 ] والدليل على أن المعنى كما وصفنا رواية من روى " كل بني آدم يولد على الفطرة " و " ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة " وحق الكلام أن يحمل على عمومه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مطلب ، قال : حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل بني آدم يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ، كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء ؟ قال : أفرأيت من يموت صغيرا يا رسول الله ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين وكذلك رواه خالد الواسطي ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل بنى آدم يولد على الفطرة ، ثم ذكره سواء ، روى ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : [ ص: 65 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من مولود إلا يولد على فطرة ، ثم قرأ ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم قال أبو هريرة : اقرءوا ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) وكذلك حديث سمرة بن جندب ، عن النبي عليه السلام حديث الرؤيا ، فيه : والشيخ الذي في أصل الشجرة إبراهيم ، والولدان حوله أولاد الناس ، قالوا : فهذه الأحاديث تدل ألفاظها على أن المعنى في حديث مالك وما كان مثله ليس كما تأوله المخالف أنه يقتضي أن الأبوين [ ص: 66 ] لا يهودان ولا ينصران إلا من ولد على الفطرة من أولادهما ، بل الجميع يولدون على الفطرة .

قال أبو عمر : الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلف العلماء فيها ، واضطربوا في معناها ، وذهبوا في ذلك مذاهب متباينة ، ونزعت كل فرقة منهم في ذلك بظاهر آية ونص سنة ، وسنبين ذلك كله ونوضحه ، ونذكر ما جاء فيه من الآثار ، واختلاف الأقوال والاعتلال عن السلف والخلف بعون الله إن شاء الله .

وقد سأل أبو عبيد محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة ، عن معنى هذا الحديث ، فما أجابه فيه بأكثر من أن قال : كان هذا القول من النبي عليه السلام قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ، قال : وقال ابن المبارك : يفسره آخر الحديث " الله أعلم بما كانوا عاملين " هذا ما ذكره أبو عبيد في تفسير قوله " كل مولود يولد على الفطرة " عن محمد بن الحسن وابن المبارك لم يزد على تلك عنهما ولا عن غيرهما .

[ ص: 67 ] فأما ما ذكره عن ابن المبارك ، فقد روي عن مالك نحو ذلك ، وليس فيه مقنح من التأويل ، ولا شرح موعب في أمر الأطفال ، ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا .

وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه إما لإشكاله عليه ، أو لجهله به ، أو لكراهية الخوض في ذلك ، وأما قوله فيه إن ذلك القول كان من النبي عليه السلام قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فليس كما قال ; لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سليمان ، عن إسماعيل بن مسلم [ ص: 68 ] ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بال قوم بالغوا في القتل حتى قتلوا الولدان ؟ فقال رجل : أوليس إنما هم أولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوليس خياركم أولاد المشركين ؟ إنه ليس من مولود إلا وهو يولد على الفطرة ، فيعبر عنه لسانه ، ويهوده أبواه أو ينصرانه وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم : بكر المزني ، والعلاء بن زياد ، والسري بن يحيى ، وقد روي عن الأحنف ، عن الأسود بن سريع ، وهو حديث بصري صحيح ، وروى عوف الأعرابي ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن سمرة بن جندب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل مولود يولد على الفطرة ، فناداه الناس : يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : وأولاد المشركين .

قال أبو عمر : أما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث ، فقالت جماعة من أهل الفقه والنظر : أريد بالفطرة المذكورة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه ، فكأنه قال : كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ، يريد خلقة مخالفة [ ص: 69 ] لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك ، واحتجوا على أن الفطرة الخلقة والفاطر الخالق بقول الله عز وجل ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) يعني : خالقهن ، وبقوله ( وما لي لا أعبد الذي فطرني ) يعني : خلقني ، وبقوله ( الذي فطرهن ) يعني : خلقهن ، قالوا : فالفطرة الخلقة ، والفاطر الخالق .

وأنكروا أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار ، قالوا : وإنما يولد المولود على السلامة في الأغلب خلقة ، وطبعا ، وبنية ليس معها إيمان ولا كفر ، ولا إنكار ولا معرفة ، ثم يعتقدون الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا ، واحتجوا بقوله في الحديث " كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء " يعني سالمة ، هل تحسون فيها من جدعاء ، يعني مقطوعة الأذن ، فمثل قلوب بني آدم بالبهائم ; لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها ، فيقال : هذه بحائر ، وهذه [ ص: 70 ] سوائب ، يقول : فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان ، ولا معرفة ولا إنكار ، كالبهائم السالمة ، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين ، فكفر أكثرهم ، وعصم الله أقلهم ، قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء على الكفر أو الإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا ، وقد نجدهم يؤمنون ثم يكفرون ، قالوا : ويستحيل في المعقول أن يكون الطفل في حين ولادته يعقل كفرا أو إيمانا ; لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون معها شيئا ، قال الله عز وجل : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) فمن لا يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار .

قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها والله أعلم ، وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة بدليل حديث عياض بن حمار ، عن النبي عليه السلام حاكيا عن ربه عز وجل " إني خلقت عبادي حنفاء " [ ص: 71 ] - يعني على استقامة وسلامة - والحنيف في كلام العرب المستقيم السالم ، وإنما قيل للأعرج : أحنف على جهة الفأل ، كما قيل للقفر مفازة ، فكأنه والله أعلم أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والزيادات ، ومن المعاصي والطاعات ، فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما ، ألا ترى إلى قول موسى في الغلام الذي قتله الخضر ( أقتلت نفسا زكية ) لما كان عنده ممن لم يبلغ العمل فيكسب الذنوب ، ومن الحجة أيضا في هذا قول الله عز وجل ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) ، ( كل نفس بما كسبت رهينة ) ، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء ، وقال الله عز وجل ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، ولما أجمعوا على دفع القود ، والقصاص ، والحدود ، والآثام عنهم في دار الدنيا كانت الآخرة أولى بذلك ، والله أعلم .

[ ص: 72 ] وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - " كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء ؟ " فالبهيمة الجمعاء : المجتمعة الخلق التامة غير الناقصة ، الصحيحة غير السقيمة ، ليس فيها قطع أذن ، ولا شقها ، ولا نقص شيء منها ، يقول : فهل ترى فيها جدعاء ؟ يقول : هل تحس من جدع أو نقصان حين تنتج لتمام ؟ يقول : ثم الجدع والآفات تدخلها بعد ذلك ، فكذلك المولود يولد سالما ثم يحدث فيه بعد الكفر والإيمان .

وقال آخرون : الفطرة ههنا الإسلام ، قالوا : وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل قد أجمعوا في قول الله عز وجل ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) على أن قالوا : فطرة الله : دين الله الإسلام ، واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث : اقرءوا إن شئتم ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، وذكروا عن عكرمة ، ومجاهد ، والحسن ، وإبراهيم ، والضحاك ، وقتادة في قول الله عز وجل ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، قالوا : دين الله الإسلام ( لا تبديل لخلق الله ) قالوا : لدين الله .

[ ص: 73 ] واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن يحيى بن جابر ، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي ، عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس يوما : " ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب : أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين " الحديث بطوله ، وكذلك روى بكر بن مهاجر ، عن ثور بن يزيد بإسناده في هذا الحديث حنفاء مسلمين .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن يحيى بن جابر ، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي - وكان عبد الرحمن من حملة العلم يطلبه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحاب أصحابه - أنه حدثه ، عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس يوما " ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب : أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه ، فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما " وذكر الحديث بتمامه .

[ ص: 74 ] قال أبو عمر : روى هذا الحديث قتادة ، عن مطرف بن عبد الله الشخير ، عن عياض بن حمار ، ولم يسمع قتادة من مطرف ، لأن همام بن يحيى روى عن قتادة ، قال : لم أسمعه من مطرف ، ولكن حدثني ثلاثة : عقبة بن عبد الغافر ، ويزيد بن عبد الله بن الشخير ، والعلاء بن زياد ، كلهم يقول : حدثني مطرف بن الشخير ، عن عياض بن حمار ، عن النبي عليه السلام بهذا الحديث ، قال فيه : وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، لم يقل مسلمين .

وكذلك رواه عوف الأعرابي ، عن حكيم الأثرم ، عن الحسن ، عن مطرف ، أن عياض بن حمار حدثه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر هذا الحديث ، وقال فيه : " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " ولم يقل مسلمين ، وإنما قال حنفاء فقط .

وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عنده ، عن قتادة ، عن مطرف ، عن عياض بن حمار ، عن النبي عليه السلام ، فقال فيه : " ألا وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم " [ ص: 75 ] وساق الحديث ، فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق ، وإتقانه ، وضبطه ; لأنه ذكر مسلمين في روايته ، عن ثور بن يزيد لهذا الحديث ، وأسقطه من رواية قتادة ، وكذلك رواه شعبة ، وهشام ، ومعمر ، عن قتادة ، عن مطرف ، عن عياض ، عن النبي عليه السلام ، لم يقولوا فيه عن قتادة " مسلمين " ، فليس في حديث قتادة ذكر " مسلمين " ، وهو في حديث ثور بن يزيد بإسناده ، وقد اختلف العلماء في قوله عز وجل " حنفاء " ، فروي عن الضحاك ، والسدي في قوله " حنفاء " قالا : حجاجا .

وروي عن الحسن قال : الحنفية : حج البيت ، وعن مجاهد " حنفاء " قال : مسلمين متبعين ، وهذا كله يدل على أن الحنفية الإسلام ، ويشهد لذلك قول الله عز وجل ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) ، وقال ( هو سماكم المسلمين ) فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى " حنفاء مسلمين " ، قال الشاعر ، وهو الراعي :


أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا     عرب نرى لله في أموالنا
حق الزكاة منزلا تنزيلا

[ ص: 76 ] فهذا قد وصف الحنفية بالإسلام ، وهو أمر واضح لا خفاء به ، وقيل : الحنيف من كان على دين إبراهيم ثم سمي من كان يختتن ويحج البيت في الجاهلية حنيفا ، والحنيف اليوم المسلم ، ويقال : إنما سمي إبراهيم حنيفا ; لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وقومه من الآلهة إلى عبادة الله ، أي عدل عن ذلك ومال ، وأصل الحنف ميل من إبهامي القدمين كل واحدة منهما على صاحبها ، ومما احتج من ذهب إلى أن الفطرة الإسلام قوله - صلى الله عليه وسلم - : خمس من الفطرة ، فذكر منهن قص الشارب ، والاختتان ، وهي من سنن الإسلام ، وممن ذهب إلى أن الفطرة في معنى هذا الحديث الإسلام : أبو هريرة ، وابن شهاب ، حدثني محمد بن عبد الله بن حكم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا عبد الحميد بن حبيب ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : سألت الزهري عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع ؟ [ ص: 77 ] قال : نعم ; لأنه ولد على الفطرة - يعني الإسلام - وعلى هذا القول يكون معنى قوله في الحديث " من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء " يقول : خلق الطفل سليما من الكفر مؤمنا مسلما على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى .

قال أبو عمر : يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود يولد على الفطرة ، الإسلام ; لأن الإسلام والإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالجوارح ، وهذا معدوم من الطفل لا يجهل بذلك ذو عقل ، والفطرة لها معان ووجوه في كلام العرب ، وإنما أجزأ الطفل المرضع عند من أجاز عتقه في الرقاب الواجبة ; لأن حكمه حكم أبويه ، وخالفهم آخرون فقالوا : لا يجزئ في الرقاب الواجبة إلا من صام وصلى ، وقد مضى في هذا الباب من هذا المعنى ما يكفي ، والحمد لله .

[ ص: 78 ] وقال آخرون : معنى قوله عليه السلام : كل مولود يولد على الفطرة ، يعني على البدأة التي ابتدأهم عليها ، أي على ما فطر الله عليه خلقه من أنهم ابتدأهم للحياة ، والموت ، والشقاء ، والسعادة ، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من ميولهم عن آبائهم واعتقادهم ، وذلك ما فطرهم الله عليه مما لا بد من مصيرهم إليه ، قالوا : والفطرة في كلام العرب البدأة ، والفاطر المبدئ والمبتدئ ، فكأنه قال - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة مما يصير إليه .

واحتجوا بما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، قال : حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : لم أكن أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر ، قال أحدهما : أنا فطرتها ، أي [ ص: 79 ] ابتدأتها ، قالوا : فالفطرة البدأة ، واحتجوا بقول الله عز وجل ( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) .

وذكروا ما يروى عن علي بن أبي طالب في بعض دعائه : اللهم جبار القلوب على فطرتها وشقيها وسعيدها ، قال أبو عبد الله بن نصر المروزي : وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد ، عن عبد الله بن المبارك أنه سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود يولد على الفطرة ، فقال : يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

قال المروزي : ولقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه .

قال أبو عمر : ما رسمه مالك في الموطأ وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا ، والله أعلم .

[ ص: 80 ] أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله عز وجل ( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) ، قال : من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة ، وإن عمل بأعمال الهدى ، ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره الله إلى الهدى وإن عمل بأعمال الضلالة ، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة ، قال : وكان من الكافرين .

وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة ، وتوفاهم عليها مسلمين ، وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " يقول : فأقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها .

[ ص: 81 ] أخبرنا سعيد بن نصر ، وأحمد بن محمد ، قالا : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا محمد بن أبي وضاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( كما بدأكم تعودون ) ، قال : كما كتب عليكم تكونوا ، وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( كما بدأكم تعودون ) قال : شقيا وسعيدا ، وقال ورقاء بن إياس ، عن مجاهد ( كما بدأكم تعودون ) ، قال : يبعث المسلم مسلما ، والكافر كافرا .

وقال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ( كما بدأكم تعودون ) ، قال : عادوا إلى علمه فيهم ( فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) .

واحتج من ذهب هذا المذهب في تأويل الفطرة المذكورة في الحديث المذكور في هذا الباب بما ذكره أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : حدثنا حكم بن سلم ، عن عنبسة ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي محمد - رجل من أهل المدينة - ، قال : سألت عمر بن [ ص: 82 ] الخطاب عن قوله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآية ، فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني ، فقال : خلق الله آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ثم أجلسه ومسح ظهره فأخرج منه ذرءا ، قال : ذرء ذرأتهم للجنة يعملون بما شئت من عمل ثم أختم لهم بأحسن أعمالهم فأدخلهم الجنة ، ثم مسح ظهره فأخرج ذرءا فقال : ذرء ذرأتهم للنار يعملون بما شئت من عمل ثم أختم لهم بسوء أعمالهم فأدخلهم النار وذكر حديث مالك ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن مسلم بن يسار ، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ، فذكر الحديث مرفوعا بمعنى ما تقدم على حسبما في الموطأ .

قال أبو عمر : ليس في قوله ( كما بدأكم تعودون ) ولا في : لن يختم الله للعبد بما قضاه له وقدره عليه حين أخرج ذرية آدم من ظهر ، دليل على أن الطفل يولد حين يولد مؤمنا أو كافرا لما شهدت به العقول أنه في ذلك الوقت ليس ممن يعقل إيمانا ولا كفرا .

[ ص: 83 ] والحديث الذي جاء فيه أن الناس خلقوا طبقات ، فمنهم من يولد مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا - على حسبما تقدم ذكره في هذا الكتاب - ليس من الأحاديث التي لا مطعن فيها ; لأنه انفرد به علي بن زيد بن جدعان ، وقد كان شعبة يتكلم فيه ، على أنه يحتمل قوله يولد مؤمنا : يولد ليكون مؤمنا ، ويولد ليكون كافرا ، على سابق علم الله فيه ، وليس في قوله في الحديث : خلقت هؤلاء للجنة ، وخلقت هؤلاء للنار ، أكثر من مراعاة ما يختم به لهم ، لا أنهم في حين طفولتهم ممن يستحق جنة أو نارا ، أو يعقل كفرا أو إيمانا ، وقد أوضحنا الحجة ، في هذا لمن ألهم رشده فيما تقدم ، والحمد لله .

وفي اختلاف السلف واختلاف ما روي من الآثار في الأطفال ما يبين لك ما قلنا إن شاء الله .

وقال آخرون : معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود يولد على الفطرة ، أن الله قد فطرهم على الإنكار والمعرفة ، وعلى الكفر والإيمان ، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم ، فقال : ألست بربكم ؟ قالوا جميعا : بلى ، فأما أهل السعادة [ ص: 84 ] فقالوا : بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم ، وأما أهل الشقاء فقالوا : بلى كرها لا طوعا ، قالوا : وتصديق ذلك قوله : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، قالوا : وكذلك قوله ( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) ، قال المروزي : وسمعت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يذهب إلى هذا المعنى .

واحتج بقول أبي هريرة : اقرءوا إن شئتم ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) قال إسحاق : يقول لا تبديل لخلقته التي جبل عليها ولد آدم كلهم - يعني من الكفر والإيمان ، والمعرفة والإنكار - واحتج إسحاق أيضا بقول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآية .

قال إسحاق : أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، فقال : انظروا ألا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم .

[ ص: 85 ] قال أبو عمر : من أحسن ما روي في تأويل قوله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآية ما حدثناه محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا عبد الله بن مسرور ، قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن السري ، عن أصحابه ، قال عمرو : أصحابه : أبو مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، في قول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " ، قالوا : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى ، فأخرج منها ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ، فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : ادخلوا النار ولا أبالي ، فذلك قوله " أصحاب اليمين والشمال " ثم أخذ منهم الميثاق ، فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، فأعطاه طائفة طائعين [ ص: 86 ] وطائفة كارهين على وجه التقية ، فقال هو والملائكة ( شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ) ، قالوا : فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه ، وذلك قوله عز وجل ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، وذلك قوله ( فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) يعني يوم أخذ الميثاق .

واحتج إسحاق أيضا بحديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر ، قال : أخبرنا مسلم بن قتيبة ، قال : حدثنا عبد الجبار بن عباس الهمداني ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا قال إسحاق : وكان الظاهر ما قال موسى : أقتلت نفسا زكية ، فأعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها ; لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا .

قال إسحاق : وأخبرنا سفيان ، عن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " [ ص: 87 ] ، قال إسحاق : فلو ترك النبي عليه السلام الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين ; لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم ، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الطفل في الدنيا ، فقال : أبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، يقول : أنتم لا تعرفون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه ، فاعرفوا ذلك بالأبوين ، فمن كان بين أبوين كافرين ألحق بحكمهما ، ومن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكمهما ، وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله ، ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم .

قال أبو عمر : ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحد من أمته حكم الأطفال الذين يموتون صغارا بيانا يقطع حجة العذر ، بل اختلفت الآثار عنه في ذلك بما سنورده بعد هذا إن شاء الله .

[ ص: 88 ] واحتج إسحاق أيضا بحديث عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين ، فقالت عائشة : طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، فرد عليها النبي عليه السلام فقال : مه يا عائشة ، وما يدريك ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها ، وخلق النار وخلق لها أهلها ، قال إسحاق : فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم .

قال أبو عمر : أما قول إسحاق ومن قال بقوله في تأويل الحديث في الفطرة التي يولد عليها بنو آدم : إنها المعرفة والإنكار ، والكفر والإيمان ، فإنه لا يخلو من أن يكونوا أرادوا بقولهم ذلك أن الله خلق الأطفال وأخرجهم من بطون أمهاتهم ليعرف منهم العارف ويعترف فيؤمن ، ولينكر منهم المنكر ما يعرف فيكفر ، وذلك كله قد سبق به لهم قضاء الله ، وتقدم فيه علمه ، ثم يصيرون إليه في حين تصح منهم المعرفة والإيمان ، والكفر والجحود ، وذلك عند التمييز والإدراك ، فذلك ما قلنا ، أو يكونوا أرادوا بقولهم ذلك أن الطفل يولد عارفا مقرا مؤمنا ، أو عارفا جاحدا منكرا كافرا في حين ولادته ، فهذا ما يكذبه العيان والعقل ، ولا علم أصح من ذلك ; لأنها شواهد الأصول [ ص: 89 ] ، ودلائل العقول ، وليس في قوله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآية دليل يشهد لهم بما ادعوه من ذلك ، ولا فيه رد لما قلنا ، وإنما فيه أن الخلق يحشرون ويصيرون إلى ما سبق لهم في علمه ، وهذا ما لا يختلف أهل الحق فيه ، ومعنى الآية والحديث أنه أخرج ذرية آدم من ظهره كيف شاء ذلك ، وألهمهم أنه ربهم ، فقالوا : بلى ، لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم تابعهم بحجة العقل عند التمييز ، وبالرسل بعد ذلك استظهارا بما في عقولهم من المنازعة إلى خالق مدبر حكيم يدبرهم بما لا يتهيأ لهم ، ولا يمكنهم جحده ، وهذا إجماع أهل السنة ، والحمد لله .

وإنما اختلفوا فيمن مات وهو طفل لم يدرك من أولاد المؤمنين والكافرين على ما نوضحه بعد الفراغ من القول في الفطرة التي يولد المولود عليها ، واختلاف أهل العلم في معناها إن شاء الله .

وأما الغلام الذي قتله الخضر فأبواه مؤمنان لا شك في ذلك ، فإن كان طفلا ولم يكن كما قال بعض أهل العلم رجلا قاطعا للسبيل فمعلوم أن شريعتنا وردت بأن كل [ ص: 90 ] أبوين مؤمنين لا يحكم لطفلهما الصغير بحال الكفر ، ولا يحل قتله بإجماع ، وكفى بهذا حجة في تخصيص غلام الخضر .

وقد أجمع المسلمون من أهل السنة وغيرهم إلا المجبرة أن أولاد المؤمنين في الجنة ، فكيف يجوز الاحتجاج بقصة الغلام الذي قتله الخضر اليوم في هذا الباب .

وأما حديث عائشة الذي احتج به إسحاق ، فإنه حديث ضعيف انفرد به طلحة بن يحيى ، فأنكروه عليه ، وضعفوه من أجله ، وقد بينت ذلك في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وقول إسحاق في هذا الباب لا يرضاه الحذاق الفقهاء من أهل السنة ، وإنما هو قول المجبرة ، وفيما مضى كفاية ، والحمد لله .

وقال آخرون : معنى الفطرة المذكورة في المولودين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، فأقروا جميعا له بالربوبية عن معرفة منهم به ، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار ، قالوا : وليست تلك المعرفة بإيمان ، ولا [ ص: 91 ] ذلك الإقرار بإيمان ، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب ، فطرة ألزمها قلوبهم ، ثم أرسل إليهم الرسل فدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع ، تصديقا بما جاءت به الرسل ، فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة ، وهو به عارف لأنه لم يكن الله ليدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه ، إذ كان يكون حينئذ قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون ، قالوا : وتصديق ذلك قوله عز وجل ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ، وذكروا ما ذكره السدي ، عن أصحابه ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود على حسبما ذكرناه قبل هذا في قول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآية .

وذكروا أيضا ما حدثناه إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، في قول الله عز وجل [ ص: 92 ] " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " إلى قوله ( أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) ، قال : جمعهم جميعا ، فجعلهم أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم ، فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم هذا ، قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك ، قال : فإني أرسل إليكم رسلي ، وأنزل عليكم كتبي ، فلا تكذبوا رسلي ، وصدقوا بوعدي ، وإني سأنتقم ممن أشرك بي ، ولم يؤمن بي ، قال : فأخذ عهدهم وميثاقهم ، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم ، فرأى منهم الغني والفقير ، وحسن الصورة وغير ذلك ، فقال : يا رب لو سويت بين عبادك ، قال : أحببت أن أشكر ، قال : والأنبياء يومئذ بينهم مثل السرج ، قال : وخصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها ، قال : فهو قوله " ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) " ، قال : وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وذلك قوله ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) ، وذلك قوله [ ص: 93 ] ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ) ، قال : فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق ، قال : وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم ، وذكر تمام الحديث .

وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : كل مولود يولد على الفطرة ، فقال : هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم .

قال أبو عمر : القول فيما تقدم قبل هذا يغني عن القول ههنا ، وقد قال هؤلاء : ليست تلك المعرفة بإيمان ، ولا ذلك الإقرار بإيمان ، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب ، فطرة ألزمها قلوبهم ، فكفونا بهذه المقالة أنفسهم .

وقال آخرون : الفطرة ما يقلب الله قلوب الخلق إليه مما يريد ويشاء ، فقد يكفر العبد ثم يؤمن ، فيموت مؤمنا ، وقد يؤمن ثم يكفر ، فيموت كافرا ، وقد يكفر ثم لا يزال على كفره حتى يموت عليه ، وقد يكون مؤمنا حتى يموت على الإيمان ، وذلك كله تقدير الله وفطرته لهم .

[ ص: 94 ] واحتجوا من الأثر بحديث علي بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ، قال : ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات ، فمنهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ، ويحيى كافرا ، ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت كافرا ، ومنهم من يولد كافرا ، ويحيى كافرا ، ويموت مؤمنا وقد مضى القول في إسناد هذا الحديث فيما تقدم من هذا الباب ، والفطرة عند هؤلاء ما قضاه الله وقدره لعباده من أول أحوالهم إلى آخرها كل ذلك عندهم فطرة ، سواء كانت عندهم حالا واحدة لا تنتقل أو حالا بعد حال كقوله عز وجل ( لتركبن طبقا عن طبق ) أي حالا بعد حال على ما سبق لهم في علم الله ، وهذا القول وإن كان صحيحا في الأصل ، فإنه أضعف الأقاويل من جهة اللغة في معنى الفطرة ، والله أعلم .

فهذا ما انتهى إلينا عن العلماء أهل الفقه والأثر ، وهم الجماعة ، في تأويل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كل مولود يولد على الفطرة " .

[ ص: 95 ] وأما أهل البدع ، فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآية ، قالوا : ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم ، وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم ، وما استخرج قط من ظهر آدم من ذرية تخاطب ، ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات ، والقرآن قد نطق على أهل النار بأنهم ، قالوا ما لم يرده عز وجل عليهم من قولهم : ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) ، وقال عز وجل تصديقا لذلك " ( وكنتم أمواتا ) " يعني في حال عدم غير وجود ، " ( فأحياكم ) " يريد بخلقه إياكم " ( ثم يميتكم ثم يحييكم ) " ، فجعل الحياة مرتين ، والموت مرتين ، قالوا : وكيف يخاطب الله من لا يعقل ؟ وكيف يجيب من لا عقل له ؟ وكيف يحتج عليهم بميثاق لا يذكرونه ؟ وهم لا يؤاخذون بما نسوا ، ولا نجد أحدا يذكر أن ذلك عرض له أو كان منه ، قالوا : وإنما أراد الله عز وجل بقوله " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآية إخراجه إياهم في الدنيا ، وخلقه لهم ، وإقامة الحجة عليهم بأن فطرهم وبناهم ، فطرة إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم ، وخالقهم .

[ ص: 96 ] وقال بعضهم : أخرج الذرية قرنا بعد قرن ، وعصرا بعد عصر ، وأشهدهم على أنفسهم بما جعل في عقولهم مما تنازعهم به أنفسهم إلى الإقرار بالربوبية حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم ( ألست بربكم قالوا بلى ) ، وقال بعضهم : قال لهم ألست بربكم على لسان بعض أنبيائه ، وكلهم يقول إن الحديث المأثور ليس بتأويل للأمة ، ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة هل تقع ضرورة أو اكتسابا ؟ وليس هذا موضع ذكر ذلك ، والحمد لله .

وأما اختلاف العلماء في الأطفال ، فقالت طائفة : أولاد الناس كلهم المؤمنين منهم والكافرين إذا ماتوا أطفالا صغارا لم يبلغوا في مشيئة الله عز وجل يصيرهم إلى ما شاء من رحمة أو عذاب ، وذلك كله عدل منه ، وهو أعلم بما كانوا عاملين ، وقال آخرون وهم الأكثر : أطفال المسلمين في الجنة ، وأطفال الكفار في المشيئة ، وقال آخرون : حكم الأطفال كلهم كحكم آبائهم في الدنيا والآخرة ، هم مؤمنون بإيمان [ ص: 97 ] آبائهم ، وكافرون بكفر آبائهم ، فأطفال المسلمين في الجنة ، وأطفال الكفار في النار .

وقال آخرون : أولاد المسلمين وأولاد الكفار إذا ماتوا صغارا جميعا في الجنة .

وقال آخرون : أولاد المشركين خدم أهل الجنة .

وقال آخرون : يمتحنون في الآخرة .

وروت كل طائفة فيما ذهبت إليه من ذلك آثارا وقفت عندها ، ودانت بها لصحتها لديها ، ونحن نذكر منها ما حضرنا ذكره بعون ربنا لا شريك له ، وبالله التوفيق .

[ ص: 98 ] باب ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين وغيرهم بجنة أو نار وجعل جميعهم في مشيئة الجبار

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، قال : أخبرنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أنه قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل بني آدم يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه ، كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء ؟ قيل : أفرأيت من يموت وهو صغير يا رسول الله ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين هكذا قال : كل بني آدم ، وهو يقتضي كل مولود لمسلم وغير مسلم على ظاهره وعمومه .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : [ ص: 99 ] ، حدثنا يحيى - يعني القطان - ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأطفال ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

هكذا قال : الأطفال ، لم يخص شيئا ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن ، قال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا البخاري ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حماد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا يقول : يا رب نطفة ، يا رب علقة ، يا رب مضغة ، فإذا أراد أن يقضي خلقه ، قال : أذكر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟ وما الأجل ؟ فيكتب وهو في بطن أمه .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن سليمان المنقري ، قال : حدثنا محمد بن كثير العبدي ، قال : حدثنا سفيان الثوري [ ص: 100 ] ، وشعبة ، وأبو عوانة ، قال المنقري : وحدثنا عمرو بن مرزوق ، قال : حدثنا شعبة ، وحدثنا أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، قالا : حدثنا جرير ، وأبو معاوية كلهم يقول : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق أن خلق ابن آدم يمكث في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يصير علقة أربعين يوما ، ثم يصير مضغة أربعين يوما ، ثم يبعث الله إليه ملكا ، فيقول : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ؟ وما الأثر ؟ فيوحي الله ، ويكتب الملك حتى إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع ، فيغلب عليه الكتاب الذي سبق ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو قيد ذراع ، فيغلب عليه الكتاب الذي سبق فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، قال : [ ص: 101 ] ، حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق : أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا عبد الله بن عطاء ، أن عكرمة بن خالد حدثه أن أبا الطفيل حدثه [ ص: 102 ] أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول : إن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن السعيد من وعظ بغيره ، قال : فخرجت من عنده أتعجب مما سمعته حتى دخلت على أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري ، فتعجبت عنده ، فقال : مم تتعجب ؟ فقلت : سمعت أخاك عبد الله بن مسعود يقول : إن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإن السعيد من وعظ بغيره ، فقال : ومن أي ذلك تعجب ؟ فقلت : أيشقى أحد بغير عمل ؟ فأهوى إلى أذنيه وقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بأذني هاتين : إن النطفة تمكث في الرحم أربعين ليلة ، ثم يتسور عليها الملك ، قال زهير : حسبته قال : الذي وكل بخلقها ، فيقول : يا رب أذكر أم أنثى ؟ ثم يقول : يا رب سوي أو غير سوي ؟ فيجعله الله سويا أو غير سوي ، ذكرا أم أنثى ؟ ثم يقول : ما رزقه ؟ ما أجله ؟ ما خلقه ؟ ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا .

وحدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن المفسر ، حدثنا علي بن غالب الشكشري ، حدثنا علي بن [ ص: 103 ] المديني ، حدثنا سفيان بن عمر ، سمع أبا الطفيل يحدث ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة ، فيقول : أي رب ذكر أو أنثى ؟ فيقول الله تبارك وتعالى ، فيكتب ، قال : ثم يكتب عمله ، ورزقه ، وأجله ، وأثره ثم تطوى الصحيفة ، فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص قال علي بن المديني : وحدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا منصور بن حيان الأسدي ، قال : حدثنا أبو الطفيل ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : الشقي من شقي في بطن أمه ، قال : ففزعت إلى حذيفة بن أسيد الغفاري ، فقلت : إني سمعت عبد الله بن مسعود يقول : الشقي من شقي في بطن أمه ، فقال : وما أنكرت من ذلك ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن المرأة إذا حملت فأتت على أربعين يوما نزل إليها ملك ، فإذا قضى الله عز وجل في خلق ما في بطنها ما قضى ، قال الملك : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي الله عز وجل إلى الملك ويكتب ، ثم يقول : يا رب ما رزقه ؟ فيقضي الله عز وجل إلى الملك ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أشقي أم سعيد ؟ فيقضي الله عز وجل [ ص: 104 ] إلى الملك فيكتب الملك ، ثم تطوى الصحيفة فتكون مع الملك إلى يوم القيامة .

وقد روى هذا المعنى جماعة من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا طلحة بن يحيى ، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن خالتها أم المؤمنين ، قالت : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي من صبيان الأنصار ليصلي عليه ، فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا ، ولم يدركه ذنب ، فقال النبي عليه السلام : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها ، وخلقهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلها ، وخلقهم في أصلاب آبائهم .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا طلحة بن يحيى ، عن عمته - يعني عائشة بنت طلحة - [ ص: 105 ] ، عن عائشة زوج النبي عليه السلام ، قالت ، فذكر مثل حديث ابن عيينة سواء .

ورواه عن طلحة بن يحيى جماعة بإسناده ومعناه ، وزعم قوم أن طلحة بن يحيى انفرد بهذا الحديث ، وليس كما زعموا ، وقد رواه فضيل بن عمرو ، عن عائشة بنت طلحة كما رواه طلحة بن يحيى سواء ، ذكره المروزي ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو ، قال : حدثنا جرير ، عن العلاء بن المسيب ، عن فضيل بن عمرو ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : توفي صبي ، فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وخلق النار وخلق لها أهلا .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا أحمد بن محمد المكي ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا القعنبي ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن رقبة بن مصقلة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا .

[ ص: 106 ] قال أبو عمر : هذا الحديث يقولون إنه انفرد برفعه رقبة بن مصقلة ، وإن أصحاب أبي إسحاق الثقات يوقفونه على أبي بن كعب ، ورقبة بن مصقلة ثقة ، فصيح ، عاقل كان أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين يثنيان عليه ، وقد تابعه عبد الجبار بن عباس على رفعه ، وعبد الجبار بن العباس رجل كوفي روى عنه جماعة من جلة أهل الكوفة ، منهم : الحسن بن صالح ، ووكيع ، وأبو نعيم ، وقال أحمد ويحيى : ليس به بأس ، وقال أبو حاتم الرازي : هو ثقة ، قيل له : لا بأس به ، قال : ثقة .

ذكر المروزي ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - ، قال : أخبرنا مسلم بن قتيبة ، قال : حدثنا عبد الجبار بن عباس الهمداني ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا .

وقد حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي [ ص: 107 ] ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، قال : أخبرني سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عباس يقرأ " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " .

حدثنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن أيوب ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، قال : حدثنا زياد بن أيوب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان ، فكتب إليه ابن عباس : أما الصبيان فإن كنت أنت الخضر تعلم المؤمن من الكافر فاقتلهم .

وروى قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .

وأخبرنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، ومحمد بن علي ، عن يزيد بن هرمز ، قال : كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن قتل الولدان ، ويذكر في كتابه أن العالم صاحب موسى قد قتل المولود ، قال يزيد : فأنا كتبت كتاب ابن عباس بيدي ، جوابه [ ص: 108 ] إلى نجدة : أما بعد ، فإنك كتبت إلي تسألني عن قتل الولدان ، وتذكر في كتابك أن العالم صاحب موسى قد قتل المولود ، فلو كنت تعلم من الولدان ما علم ذلك العالم لقتلت ، ولكنك لا تعلم ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلهم .

وروى الثوري ، عن إسماعيل بن أمية ، عن سعيد المقبري ، عن يزيد بن هرمز ، عن ابن عباس مثله .

وفي هذا الخبر مع صحته عن ابن عباس رد قول من قال : الغلام الذي قتله الخضر كان رجلا ، وكان قاطع طريق ، وهذا قول يروى عن عكرمة حكاه قتادة وغيره عنه ، وقال قتادة : لعمري ما قتله إلا على كفر ، قال قتادة : وقال بعضهم : كان يقطع الطريق ، قال قتادة : كان يقرأ في الحرف الأول " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " ، وقال غيره : لم يقتله الخضر إلا وهو كافر ، كان قد كفر بعد إدراكه وبلوغه ، أو عمل عملا استوجب عليه القتل فقتله .

واحتج بعض من ذهب هذا المذهب بحديث الزهري ، عن محمد بن عبد الله بن نوفل ، عن عبد المطلب بن ربيعة [ ص: 109 ] ، قال : اجتمعت أنا والفضل بن عباس ونحن غلامان شابان قد بلغنا ، في حديث ذكره في كراهية الصدقة لبني هاشم .

قال أبو عمر : أما قوله في حديث الزهري : ونحن غلامان شابان قد بلغنا ، فهو كلام خرج على القرب والمجاز ، وقد بان ذلك في قوله " قد بلغنا " ، وأما قول من قال : إن الغلام كان رجلا قد كفر أو عمل ما استوجب عليه القتل ، فتخرص وظن لم يصح في أثر ، ولا جاء به خبر ، ولا يعرفه أهل العلم ، ولا أهل اللغة ، وقد سمى الله عز وجل الإنسان الذي قتله الخضر غلاما ، والغلام عند أهل اللغة هو الصبي الصغير يقع عليه عند بعضهم اسم غلام من حين يفطم إلى سبع سنين ، وعند بعضهم يسمى غلاما وهو رضيع إلى سبع سنين ، ثم يصير يافعا ، ويفاعا إلى عشر سنين ، ثم يصير حزورا إلى خمس عشرة سنة ، واختلف في تسمية منازل سنه بعد ذلك إلى أن يصير هما فانيا كبيرا بما لا حاجة بنا ههنا إلى ذكره .

قال أبو عمر : وعلى هذا جمهور أهل اللغة في الغلام أنه ما دام رضيعا فهو طفل ، وغلام إلى سبع سنين ، وأما اختلافهم [ ص: 110 ] في الكهل والشيخ ، فقال بعضهم : الكهل ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وقال بعضهم : الكهل من أربعين إلى خمسين ، والشيخ من خمسين إلى ثمانين ثم يصير هما فانيا .

وقال جماعة من العلماء في قوله عز وجل " نفسا زاكية " قالوا : لم يذنب قط ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا الحسن بن أحمد ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا شعيب ، عن أبي العالية في قصة موسى والخضر عليهما السلام ، قال : ( فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله ) ، قال : غلام يلعب مع الغلمان ففتل عنقه فقتله ، ولم يره إلا موسى ، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبينه ، قال : " أقتلت نفسا زاكية أو زكية " ، قال : لم تبلغ الخطايا .

[ ص: 111 ] وقال ابن جريج : أخبرني يعلى بن مسلم أنه سمع سعيد بن جبير يقول : وجد الخضر غلمانا يلعبون ، فأخذ غلاما ، فأضجعه ، وذبحه بالسكين .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا سحنون ، وأبو الظاهر ، وحرملة بن يحيى ، قالوا : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، أن عبد الرحمن بن هنيدة حدثه أن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الله أن يخلق النسمة ، قال ملك الأرحام معرضا : يا رب ذكر أم أنثى ؟ فيقضي الله أمره ، ثم يقول : يا رب شقي أو سعيد ؟ فيقضي الله أمره ، ثم يكتب بين عينيه ما هو حتى النكبة ينكبها .

قال أبو عمر : بهذه الآثار وما كان مثلها احتج من ذهب إلى الوقوف عن الشهادة لأطفال المسلمين أو المشركين بجنة أو نار ، وإليها ذهب جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث ، منهم : حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وابن المبارك ، وإسحاق [ ص: 112 ] بن راهويه ، وغيرهم ، وهو يشبه ما رسمه مالك في أبواب القدر ، في موطئه وما أورد في ذلك من الأحاديث ، وعلى ذلك أكثر أصحابه ، وليس عن مالك فيه شيء منصوص ، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة ، وأطفال الكفار خاصة في المشيئة ; لآثار وردت في ذلك نحن نذكرها في الباب بعد هذا إن شاء الله .

[ ص: 113 ] ذكر الأخبار التي احتج بها من شهد لأطفال المسلمين بالجنة

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : أخبرنا عوف ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من المسلمين من يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله وإياه الجنة بفضل رحمته ، يجاء بهم يوم القيامة ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فيقولون : لا حتى يدخل آباؤنا ، فيقال لهم : ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي .

حدثنا أحمد بن فتح ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، وحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ، قالا : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، أن رجلا جاء بابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتحبه ؟ فقال : [ ص: 114 ] أحبك الله يا رسول الله كما أحبه ، فتوفي الصبي ، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أين فلان ابن فلان ؟ قالوا : يا رسول الله توفي ابنه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما ترضى أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاء يسعى يفتحه لك ؟ فقالوا : يا رسول الله أله وحده أم لنا كلنا ؟ قال : بل لكم كلكم .

وروى يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ومحمد بن جعفر غندر ، وغيرهم ، عن شعبة بإسناده مثله سواء .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت ، قال : سمعت البراء بن عازب يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ابنه إبراهيم : إن له موضعا في الجنة .

وروى سعيد بن إياس الحريري ، عن خالد بن علان ، قال : مات ابن لي ، فوجدت عليه وجدا شديدا ، فقلت : يا أبا هريرة أسمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا يسخي أنفسنا عن موتانا ؟ فقال : سمعته يقول : صغاركم دعاميص الجنة .

[ ص: 115 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : أولاد المسلمين في جبل تكفلهم سارة وإبراهيم ، فإذا كان يوم القيامة دفعوهم إلى آبائهم .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وأحمد بن محمد ، قالا : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا محمد بن قدامة ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عثمان ، عن زاذان ، عن علي في قول الله عز وجل ( كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين ) ، قال : هم أطفال المسلمين .

وحدثنا خلف بن أحمد ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، وأحمد بن مطرف ، قالا : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي ، قال : حدثنا المؤمل بن إسماعيل ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عثمان بن موهب ، عن زاذان ، عن علي في ( كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين ) قال : أصحاب اليمين أطفال المسلمين .

قال أبو عمر : اختصرت هذا الباب لأني قد تقصيته في كتاب الأجوبة عن المسائل المستغربة ، وتكلمت عليه في باب سعيد بن المسيب من هذا الكتاب .

[ ص: 116 ] باب ذكر الأخبار التي احتج بها من شهد لأطفال المشركين بدخول الجنة ، ومن قال إنهم خدم أهل الجنة

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن خنساء امرأة من بني صريم ، عن عمها ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة .

وحدثنا قاسم بن محمد ، حدثنا خالد بن سعد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا محمد بن سنجر ، حدثنا هوذة ، حدثنا عوف ، عن خنساء بنت معاوية ، قالت : حدثني عمي ، قال : قلت : يا رسول الله من في الجنة ؟ قال : النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة .

[ ص: 117 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن أبي العوام ، قال : حدثنا عبد العزيز القرشي ، قال : حدثنا أبو معاذ ، قال : حدثنا الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين ، فقال : هم مع آبائهم ، ثم سألته بعد ذلك ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم سألته بعدما استحكم الإسلام ، فنزلت ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، وقال : هم على الفطرة ، أو قال : في الجنة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا ابن أبي سلمة ، عن محمد بن المنكدر ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم ، فأعطانيهم .

قال أبو عمر : إنما قيل للأطفال اللاهين ; لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقد ولا عزم ، من قولهم : لهيت عن الشيء أي لم أعتمده ، كقوله ( لاهية قلوبهم ) .

[ ص: 118 ] وروى الحجاج بن نصير ، عن مبارك بن فضالة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أولاد المشركين خدم أهل الجنة .

وأخبرنا محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي ، وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الولدان - أو قال الأطفال - خدم أهل الجنة .

وذكر البخاري في حديث أبي رجاء العطاردي ، عن سمرة بن جندب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث الطويل حديث الرؤيا ، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - : وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام ، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة ، قال : فقيل : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وأولاد المشركين .

وخرج البخاري أيضا في رواية أخرى ، عن أبي رجاء في هذا الحديث : والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم ، والصبيان حوله أولاد الناس ، وهذا يقتضي ظاهره وعمومه جميع الناس ، والله الموفق .

[ ص: 119 ] باب ذكر الأخبار التي احتج بها من شهد لأطفال المشركين بالنار

حدثنا يعيش بن سعد ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي ، قال : حدثنا أبو عمر الحوضي ، قال مرجي بن رجاء : وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا المعتمر ، قالا : حدثنا داود ، عن عامر الشعبي ، عن علقمة بن قيس ، قال : حدثنا سلمة بن يزيد الجعفي ، قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي فقلنا : يا رسول الله إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف ، وتصل الرحم ، وتفعل ، وتفعل ، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء ؟ قال : لا ، قال : فقلنا : إن أمنا ولدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث ، فهل ذلك نافع أختنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيتم الوائدة والمئودة ، فإنهما في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام ، فيغفر الله لها .

[ ص: 120 ] قال أبو عمر : ليس لهذا الحديث إسناد أقوى وأحسن من هذا الإسناد ، ورواه جماعة عن الشعبي كما رواه داود ، وقد رواه أبو إسحاق ، عن علقمة كما رواه الشعبي ، وهو حديث صحيح من جهة الإسناد إلا أنه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة ، فكانت الإشارة إليها والله أعلم .

وهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث لمعارضة الآثار له ، وعلى هذا يصح معناه ، والله المستعان .

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يبيتون ، فيصاب من ذراريهم ونسائهم ، فقال سول الله - صلى الله عليه وسلم - : هم منهم ، وكان عمرو بن دينار يقول : هم من آبائهم ، قال الزهري : ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن قتل النساء والولدان .

[ ص: 121 ] قال أبو عمر : معنى هذا الحديث عند أهل العلم في أحكام الدنيا في ذلك هم من آبائهم ، وعلى ذلك مخرج الحديث ، فليس على من قتلهم قود ولا دية ; لأنهم أولاد من لا دية في قتله ولا قود ; لمحاربته وكفره ، وليس هذا الحديث في أحكام الآخرة ، وإنما هو في أحكام الدنيا ، فلا حجة فيه ، ولا في الذي قبله في هذا الباب .

وقد روى بقية بن الوليد ، عن محمد بن زياد الألهاني ، قال : سمعت عبد الله بن أبي قيس يقول : سمعت عائشة تقول : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المؤمنين ، فقال : هم مع آبائهم ، قلت : بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

قال أبو عمر : عبد الله بن أبي قيس شامي ، تابعي ، ثقة ، روى عنه محمد بن زياد الألهاني ، ومعاوية بن صالح ، وراشد بن سعد ، وأما بقية بن الوليد فضعيف ، وأكثر حديثه مناكير ، ولكن هذا الحديث قد روي عن عائشة مرفوعا أيضا من غير هذا الوجه ، ويحتمل من التأويل أن يكون كحديث الصعب بن جثامة سواء في أحكام الدنيا .

[ ص: 122 ] حدثنا خلف بن قاسم ، قال : حدثنا أبو محمد الحسن بن جعفر الزيات ، قال : حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو عقيل يحيى بن المتوكل ، عن بهية ، عن عائشة ، قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ولدان المسلمين أين هم ؟ قال : في الجنة يا عائشة ، قالت : وسألته عن ولدان المشركين أين هم يوم القيامة ؟ قال : في النار ، قالت : فقلت مجيبة له : يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ، ولم تجر عليهم الأقلام ، قال : ربك أعلم بما كانوا عاملين ، والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار .

قال أبو عمر : أبو عقيل هذا صاحب بهية لا يحتج بمثله عند أهل العلم بالنقل .

وهذا الحديث لو صح أيضا احتمل من الخصوص ما احتمل غيره في هذا الباب ، ومما يدل على أنه خصوص لقوم من المشركين قوله : لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار ، وهذا لا يكون إلا فيمن قد مات وصار في النار ، وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار ، والحمد لله .

[ ص: 123 ] ومما احتج به من ذهب إلى القول بظاهر آثار هذا الباب قول الله عز وجل " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء " وقوله عز وجل لنوح نبيه عليه السلام ( أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) ، فلما قيل لنوح ذلك ، وعلم أنهم لا يؤمنون وأنهم على كفرهم يموتون دعا عليهم بهلاك جميعهم ، فقال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) فأخبر أنهم لكفرهم لا يلدون إلا كفارا ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : هم من آبائهم .

[ ص: 124 ] ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب الوقوف عن الشهادة لأطفال المشركين بجنة أو نار

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قالا : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن أولاد المشركين ، فقال : الله أعلم إذ خلقهم بما كانوا عاملين .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أولاد المشركين ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

وعند أبي عوانة ، عن هلال بن حباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، ورواه أبو هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 125 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج ، قال : حدثنا سعيد بن عفير ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي أنه سمع أبا هريرة يقول سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

ورواه سفيان بن عيينة ، وابن أبي ذئب ، ومعمر ، عن الزهري بإسناده هذا بمثله ، وروى سفيان بن عيينة أيضا ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن أولاد المشركين ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن أبي حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا محمد بن بشار ، قالا جميعا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن محمد بن عمرو ، عن سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن أولاد المشركين ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

[ ص: 126 ] وقال مسدد في حديثه بإسناده هذا عن أبي هريرة ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأطفال ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

وروى إسماعيل بن علية ، عن خالد الحذاء ، عن عمار مولى بني هاشم ، قال : قال ابن عباس : كنت أقول في أطفال المشركين هم مع آبائهم حتى حدثني رجل ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ربهم أعلم بهم ، هو خلقهم وهو أعلم بهم وبما كانوا عاملين .

قال أبو عمر : أحاديث هذا الباب من جهة الإسناد صحاح ثابتة عند جميع أهل العلم بالنقل ، والله الموفق للصواب .

[ ص: 127 ] ذكر الأخبار التي احتج بها من أوجب امتحانهم واختبارهم في الآخرة

أخبرنا محمد بن عبد الملك ، وعبيد بن محمد ، قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور ، قال : حدثنا عيسى بن مسيكن ، قال : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهالك في الفترة ، والمعتوه ، والمولود ، قال : " يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ولا رسول ثم تلا ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ) إلى آخر الآية ، ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، قال : ويقول المولود : رب لم أدرك العمل ، قال : فترفع لهم نار ، فيقال : ردوها ادخلوها ، قال : فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، قال : فيقول الله عز وجل : إياي عصيتم ، فكيف رسلي لو أتتكم ؟ .

[ ص: 128 ] قال أبو عمر : من الناس من يوقف هذا الحديث على أبي سعيد ولا يرفعه ، منهم أبو نعيم الملاي .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا موسى بن معاوية ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، عن سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قالا : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عبد الوارث ، عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى يوم القيامة بأربعة : بالمولود ، والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، وبالشيخ الهرم الفاني ، كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم : ابرزي ، ويقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ، قال : فيقول لهم : ادخلوا هذه ، فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر ؟ قال : وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها ، فيقول الرب تبارك وتعالى : قد عاينتموني ، فعصيتموني ، فأنتم برسلي أشد تكذيبا ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار واللفظ لحديث موسى بن معاوية الصفار .

[ ص: 129 ] وذكر أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي ، قال : حدثنا أبو بكر بن زنجويه ، قال : حدثنا محمد بن المبارك الصوري ، قال : حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حليس ، عن أبي إدريس ، عن معاذ بن جبل ، عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى يوم القيامة بالممسوح أو الممسوح عقلا ، وبالهالك في الفترة ، وبالهالك صغيرا ، فيقول الممسوح عقلا : يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا أسعد بعقله مني ، ويقول الهالك في الفترة : يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من آتيته عهدا بأسعد بعهدك مني ، ويقول الهالك صغيرا : يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني ، فيقول الرب سبحانه : إني آمركم بأمر أفتطيعوني ؟ فيقولون : نعم وعزتك يا رب ، فيقول : اذهبوا فادخلوا النار ، قال : ولو دخلوها ما ضرتهم ، فتخرج عليهم قوانص يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعا فيقولون : يا رب خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوانص ظننا [ ص: 130 ] أنها قد أهلكت ما خلق الله ، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ، ويقولون مثل قولهم ، فيقول الرب سبحانه : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، فعلى علمي خلقتكم ، وإلى علمي تصيرون ، فتأخذهم النار .

قال أبو عمر : روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث الأسود بن سريع ، وأبي هريرة ، وثوبان بأسانيد صحيحة من أسانيد الشيوخ إلا ما ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة موقوفا لم يرفعه بمثل معنى ما ذكرنا سواء ، وليس في شيء منها ذكر المولود ، وإنما فيها ذكر أربعة كلهم يوم القيامة يدلي بحجته : رجل أصم أبكم ، ورجل أحمق ، ورجل مات في الفترة ، ورجل هرم ، فلما لم يكن فيها ذكر المولود لم نذكرها في هذا الباب ، وجملة القول في أحاديث هذا الباب كلها ما ذكرت منها وما لم أذكر أنها من أحاديث الشيوخ ، وفيها علل ، وليست من أحاديث الأئمة الفقهاء ، وهو أصل عظيم ، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعف في العلم والنظر مع أنه عارضها ما هو أقوى منها ، والله أعلم ، والله الموفق للصواب .

[ ص: 131 ] باب

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا إبراهيم بن طيفور ، وحدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا الحسن بن سلمة ، قال : حدثنا عبد الله بن علي بن الجارود ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، قالا جميعا : حدثنا إسحاق بن راهويه ، قال : حدثني يحيى بن آدم ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، عن أبي رجاء العطاردي ، قال : سمعت ابن عباس يقول : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا ، أو كلمة تشبه هاتين ، حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر ، قال يحيى بن آدم : قد ذكرته لابن المبارك ، فقال : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ فسكت .

وذكر أبو عبد الله المروزي ، قال : حدثنا شيبان بن شيبة الأيلي ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، قال : حدثنا أبو رجاء العطاردي ، قال : سمعت ابن عباس وهو يخطب الناس وهو يقول : إن هذه الأمة لا يزال أمرها مقاربا أو مواتيا أو كلمة تشبهها ما لم يتكلموا في الولدان والقدر .

[ ص: 132 ] قال أبو عمر رضي الله عنه : أما الشك في هذه اللفظة مواتيا أو مقاربا فغير جائز أن يكون من ابن عباس ، وإنما الشك من المحدث عنه ، أو الناقل عن المحدث عنه ، هكذا حكم كل ما تجده من مثل هذا الشك في الأحاديث المرفوعة وغيرها إنما هو من الناقلين ، فاعرف ذلك وقف عليه ، وهذا قلما يكون إلا من ورع المحدث وتثبته إن شاء الله .

وذكر المروزي ، قال : حدثنا عمرو بن زرارة ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن ابن عون ، قال : كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل ، فقال : ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمير في أولاد المشركين ؟ قال : أوتكلم ربيعة الرأي في ذلك ؟ فقال القاسم : إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده ، قال : فكأنما كانت نارا فأطفئت .

قال أبو عمر : وقد ذكرنا والحمد لله ما بلغنا عن العلماء في معنى الفطرة التي يولد المولود عليها ، واخترنا من ذلك أصحه من جهة الأثر والنظر بمبلغ اجتهادنا ، ولعل غيرنا أن يدرك من ذلك ما لم يبلغه علمنا ، فإن الله يفتح لمن يشاء من العلماء فيما يشاء ، ويحجبه عمن يشاء ; ليبين العجز في البرية ، ويصح الكمال للخالق ذي الجلال والإكرام ، وذكرنا في الأطفال [ ص: 133 ] والحمد لله كثيرا مما قاله العلماء ، ونقلوه ، ودانوا به ، واعتقدوه ، من حكمهم فيما يصيرون إليه في آخرتهم ، وبقي القول فيهم في أحكام الدنيا ، فإن من ذلك ما أجمع عليه العلماء وما اختلفوا ، ونحن نذكره ههنا ممهدا بعون الله وفضله .

[ ص: 134 ] باب ذكر ما للعلماء من الأقوال والمذاهب في أحكام الأطفال في دار الدنيا

قال أبو عمر : ذكر المروزي وغيره أن أهل العلم بأجمعهم قد اتفقوا على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم آبائهم ما لم يبلغوا ، فإذا بلغوا فحكمهم حكم أنفسهم .

قال أبو عمر : أما أطفال المسلمين فحكمهم حكم آبائهم أبدا ما لم يبلغوا ; لأنه لا يلحقهم سبي من قبل مسلم فيغير حكمهم عند المسلمين ، فهم كآبائهم أبدا في المواريث ، والنكاح ، والصلاة عليهم ، ودفنهم في مقابرهم ، وسائر أحكامهم ، وكذلك أطفال أهل الذمة كآبائهم أيضا في جميع أحكامهم حتى يبلغوا لا خلاف بين العلماء في ذلك أيضا ، وكذلك أطفال الحرب كآبائهم في أحكامهم إلا ما خصت السنة منهم ومن نسائهم ألا يقتلوا في دار الحرب إلا أن يقاتلوا ; لأنهم لا يقاتلون في الأغلب من أحوالهم ، والله عز وجل يقول ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) فما دام أطفال أهل الحرب لم يسبوا فحكمهم حكم آبائهم أبدا على حسبما ذكرنا ، لا يختلف العلماء في ذلك .

[ ص: 135 ] واختلف أهل العلم قديما وحديثا في الطفل الحربي يسبى ومعه أبواه أو أحدهما أو يسبى وحده ، ما حكمه حيا وميتا في الصلاة عليه ، ودفنه ، وسائر أحكامه في حياته ؟ فذهب مالك بن أنس في المشهور من مذهبه أن الطفل من أولاد الحربيين وسائر الكفار لا يصلى عليه سواء كان معه أبواه أو لم يكونا حتى يعقل الإسلام فيسلم ، وهو عنده على دين أبويه أبدا حتى يبلغ ويعبر عنه لسانه ، فإن اختلف دين أبويه فهو عنده على دين أبيه دون أمه ، ومن الحجة لمذهبه هذا إجماع العلماء أنه ما دام مع أبويه ولم يلحقه سبأ فحكمه حكم أبويه أبدا حتى يبلغ ، فكذلك إذا سبي وحده لا يغير السبي حكمه ، ويكون على حكم أبويه أبدا حتى يبلغ فيعبر عن نفسه ، ولا يزيل حكمه عن حكم أبويه المجتمع عليه إلا حجة من كتاب أو سنة أو إجماع ، وقول الشعبي ، وابن عون ، في هذا كقول مالك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، قال : حدثنا محبوب بن موسى ، وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا عبد الملك بن حبيب المصيصي ، قالا : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن سفيان ، عن سلمة بن تمام ، قال : [ ص: 136 ] قلت للشعبي : إني بخراسان ، فأبتاع السبي ، فيموت بعضهم أفنصلي عليهم ؟ قال : إذا صلى فصل عليهم ، قال أبو إسحاق : وسألت هشاما ، وابن عون ، عن السبي يموتون وهم صغار في ملك المسلمين ، فقال هشام : يصلى عليهم ، وقال ابن عون : حتى يصلوا .

قال أبو عمر : وذكر عبد الملك بن الماجشون عن أصحابه من أهل المدينة : أبيه ، ومالك ، والمخزومي ، وابن دينار ، وغيرهم أنهم كانوا يزعمون أن الصبيان إذا كان معهم أبوهم فهم على دين أبيهم إن أسلم أبوهم صاروا مسلمين بإسلامه ، وإن ثبت على الكفر فهم على دينه ، ولا يعتد فيهم بدين الأم على حال ; لأنهم لا ينسبون إليها ، وإنما ينسبون إلى أبيهم ، وبه يعرفون ، قال عبد الملك : هذا إذا لم يفرق بينهم السبي فيقعون في قسم مسلم وملكه بالبيع أو القسم ، فإذا فرق بينهم وبين آبائهم بالبيع والقسم فأحكامهم حينئذ أحكام المسلمين في القصاص ، والقود ، والخطأ ، والصلاة عليهم ، والدفن في مقابر المسلمين ، والموارث ، وغيرها .

قال أبو عمر : قول عبد الملك وروايته هذه عن أصحابه أميل إلى مذهب الأوزاعي منها إلى مذهب مالك [ ص: 137 ] وليست بواحد منهما مجردا ; لأنها مخالفة لهما في فصول تراها إن تدبرت وتأملت بعون الله ، قال الأوزاعي : وهو قول فقهاء الشام إذا صار السبي في ملك المسلمين فحكمه حكم الإسلام لأن الملك أولى به من النسب .

ذكر المروزي قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا ابن الطباع ، قال : حدثني مبشر الحلبي ، ، عن تمام بن نجيح ، قال : كنت مع سليمان بن موسى بأرض الروم ، وهو على السبي ، فكانوا يموتون صغارا فلا يصلى عليهم ، فقلت له : أليس كان يقال : ما أحرز المسلمون يصلى عليهم ؟ فقال : ذاك إذا اشتراهم رجل فصاروا في خاصة نفسه .

قال : وحدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا أبو مغيرة ، قال : حدثنا صفوان ، قال : سمعت أصحابنا ومشيختنا يقولون : ما ملك المسلمون من صبيان العدو فماتوا فليصل عليهم ، فإن لم يصلوا فإنهم مسلمون ساعة ملكهم المسلمون .

قال : وحدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : سألت الأوزاعي عن السبي يموت بأرض الروم أيصلى عليهم ؟ قال : لا يصلى عليهم حتى يصيروا في ملك مسلم ، فإذا صاروا في ملك مسلم صلي عليهم وقد دخلوا في شريعة الإسلام .

[ ص: 138 ] قال : وحدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا ابن الطباع ، قال : سألت الأوزاعي عن الصبيان يموتون من السبي ، فقال : إن اشتروا صلي عليهم ، وإن كانوا لم يباعوا لم يصل عليهم ، قال ابن الطباع : على هذا فتيا أهل الثغر على قول سليمان بن موسى ، ورواية الحارث عن الأوزاعي ، قال : وحدثنا مخلد بن حسين ، عن الأوزاعي بشيء أخشى أن يكون وهما ، قال : سألت الأوزاعي عن الطفل يسبى ، فقال : إن كان معه أبواه يخلى بينه وبينهما ، وإن لم يكونا معه فليصل عليه .

قال أبو عمر : رواية مخلد بن حسين هذه ، عن الأوزاعي هي قول أبي حنيفة ، والشافعي وأصحابهم ، وقول حماد بن أبي سليمان ، قالوا : حكم الطفل حكم أبويه إذا كانا معه ، أو كان معه أحدهما ، وسواء الأب أو الأم في ذلك ، فإن لم يكونا معه ولم يكن معه أحدهما وصار في ملك مسلم فحكمه حكم المسلمين ؛ لأنه صار في ملك المسلمين وليس معه أبواه ولا واحد منهما فيكون دينه دينهما يهودانه أو ينصرانه ، وإذا لم يكونا معه صار حكمه حكم مالكه .

فهذا مذهب الكوفيين ، والشافعي ، وأصحابهم ، واختلف في هذا الباب عن الثوري ، فروي عنه مثل قول أبي حنيفة والشافعي [ ص: 139 ] ، وروى عنه ابن المبارك أنه قال : يصلى على الصبي وإن كان مع أبوين مشركين ; لأن الملك أغلب عليه وأملك به ، وهذا شبيه بمذهب الأوزاعي .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا عبد الملك بن حبيب المصيصي .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، حدثنا محبوب بن موسى ، قالا : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، قال سفيان : إذا دخلوا في المسلمين صلي عليهم ، وإذا صاروا في ملك المسلمين صلي عليهم ، قال الفزاري : وسألت الأوزاعي قلت : السبي يصابون وهم صغار معهم أمهاتهم وآباؤهم ، قال : إذا مات وهو في جماعة الفيء أو الخمس أو في نفل قوم وهم في بلاد العدو لم يصل عليهم ما لم يقسم ، فإذا قسموا وصاروا في ملك مسلم ، أو اشتراهم قوم بينهم فاشتركوا فيهم ، أو في واحد منهم ثم مات صلي عليه وإن كان في بلاد العدو وكان معه أبواه ; لأن المسلم أولى به من أبويه ، ولأن أحدهم لو أعتق نصيبه منه كلف خلاصه من شركائه .

[ ص: 140 ] وقال أبو عبيد : وقال أهل العراق : وإن كان معه أبواه أو أحدهما حين سبي فهو على دينه ، ولا يجزئ في الرقبة المؤمنة ، وإن لم يكن معه واحد منهما فهو مسلم ويجزئ ، قال : وأما قول مالك ، فإنهم يختلفون عنه فيه ، قال أبو عبيد : والذي يختار من هذا قول الأوزاعي ; لأن دين سيده أحق به من أبويه ، والإسلام يعلو ولا يعلى ، ولما لم يكن على دين أبويه إذا كانا ميتين أو غائبين ، فكذلك إذا كانا حيين مقيمين .

وقال الميمون بن عبد الملك بن عبد الحميد من ولد ميمون بن مهران : سألت أحمد بن حنبل عن الصغير يخرج من أرض الروم ليس معه أبواه ، قال : إذا مات صلى عليه المسلمون ، قلت : يكره على الإسلام ، قال : من يليه إلا هم ، حكمه حكمهم ، قال : كان معه أبواه أو أحدهما لم يكره وهو على دينهما ، واحتج بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه " قلت : وإن كان مع أحدهما ؟ قال : وإن كان مع أحدهما ، قلت : فيفدى الصغير إذا لم يكن معه أبواه ؟ قال : لا ، ولا ينبغي إلا أن يكون معه أبواه ، فذكرت له حديث عمر بن عبد العزيز أنه فادى بصغير وقال : نرده إليهم صغيرا ويرده الله إلينا كبيرا فنضرب عنقه ، فقال أحمد : هذا لا شك كان معه أبواه أو أحدهما ، وتعجب أبو عبد الله من أهل الثغور [ ص: 141 ] قال : إذا أخذوا الصغير ومعه أبواه كان حكمه عندهم حكم الإسلام ، ولم يلتفتوا إلى أبويه ، قلت : فأي شيء تقول أنت ؟ فقال : أي شيء أقول فيها ، ثم احتج بظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأبواه يهودانه وينصرانه ، قال : فظاهر هذا أن حكم الصغير حكم أبويه ، فقلت لأحمد : الغلام النصراني إذا أسلم أحد أبويه ، فقال : هو مع المسلم منهما سواء كان أما أو أبا حكمه حكم المسلم منهما .

وكان أبو ثور يقول : إذا سبي مع أبويه أو أحدهما أو وحده ثم مات قبل أن يختار الإسلام لم يصل عليه .

قال أبو عمر : هذا نفس مذهب مالك ، والحجة في ذلك له ولمن ذهب مذهبه أن الطفل على أصل ما كان عليه مع أبويه حتى يعبر عنه لسانه كما روى عبد الله بن محمد بن عقيل : عن سعيد بن أبي سعد ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ، وأبواه يهودانه وينصرانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية