التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
570 [ ص: 146 ] حديث ثاني عشر لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ، فيقول : يا ليتني مكانه .


قال أبو عمر : قد ظن بعض الناس أن هذا الحديث معارض لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تمني الموت بقوله عليه السلام لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به قال : وفي هذا الحديث إباحة تمني الموت ، وليس كما ظن ، وإنما هذا خبر أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس من فساد الحال ، في الدين ، وضعفه ، وخوف ذهابه ، لا لضر ينزل بالمؤمن في جسمه .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانك فإنما هو خبر عن تغير الزمان ، وما يحدث فيه من المحن ، والبلاء ، والفتن ، وقد أدركنا ذلك الزمان كما شاء الواحد المنان لا شريك له ، عصمنا الله ، ووفقنا ، وغفر لنا آمين .

[ ص: 147 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا ابن الأصبهاني ، قال : أخبرنا شريك بن عبد الله ، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان ، عن زاذان أبي عمر ، عن عليم ، قال : كنت مع عابس الغفاري على سطح له فرأى قوما يتحملون من الطاعون ، فقال : يا طاعون خذني إليك ثلاثا يقولها ، فقال له عليم : لم تقول هذا ؟ ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنى أحدكم الموت فإنه عند انقطاع عمله ، ولا يرد فيستعتب فقال عابس : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : بادروا بالموت ستا : إمرة السفهاء ، وكثرة الشرط ، وبيع الحكم ، واستخفافا بالدم ، وقطيعة الرحم ، ونشوا يتخذون القرآن مزامير ، يقدمون الرجل ليغنيهم بالقرآن وإن كان أقلهم فقها وهذا حديث مشهور روي عن عابس الغفاري [ ص: 148 ] من طرق قد ذكرناها في كتاب البيان عن تلاوة القرآن ، والحمد لله .

وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم إذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ما يوضح لك معنى هذا الحديث ، ومثل هذا قول عمر : اللهم قد ضعفت قوتي ، وكبرت سني ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط ، فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض رحمة الله عليه ، وقد ذكرنا هذين الخبرين في باب يحيى بن سعيد ، وقد روى شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، قال : سمعت أبا الزعراء يحدث ، عن عبد الله ، قال : ليأتين عليكم زمان يأتي الرجل القبر ، فيقول : يا ليتني مكان هذا ، ليس به حب الله ، ولكن من شدة ما يرى من البلاء .

حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا أحمد بن صالح بن عمر المقرئ ، حدثنا أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المنادي ، حدثنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا عبد الرحمن بن يونس أبو يونس الجعدي ، حدثنا عمر بن أبان أخو عبد العزيز بن أبان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن عمر بن عبد العزيز أنه [ ص: 149 ] مر على أهل مجلس ، فقال : ادعوا الله لي بالموت ، قال : فدعوا له ، فما مكث إلا أياما حتى مات .

حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا أحمد بن جعفر بن عبيد الله ، حدثنا العباس بن محمد الدوري إملاء ، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، حدثنا أحمد بن كثير الطرسوسي ، حدثنا حماد بن سلمة ، قال : كان سفيان الثوري عندنا بالبصرة ، فكان كثيرا ما يقول : ليتني قد مت ، ليتني قد استرحت ، ليتني في قبري ، فقال له خالد بن سلمة : يا أبا عبد الله ما كثرة تمنيك هذا الموت ؟ والله لقد آتاك الله القرآن والعلم ، فقال له سفيان : يا أبا سلمة ، وما تدري لعلي أدخل في بدعة ، لعلي أدخل فيما لا يحل لي ، لعلي أدخل في فتنة ، أكون قد مت وسبقت هذا .

وقال يحيى بن يمان : سمعت سفيان يقول : قد كنت أشتهي أن أمرض وأموت ، فأما اليوم فليتني مت فجأة ; لأني أخاف أن أتحول عما أنا عليه ، من يأمن البلاء بعد خليل الرحمن وهو يقول ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) .

[ ص: 150 ] وقال يحيى بن يمان ، عن سفيان : لما جاء البشير يعقوب قال له : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة .

وفي هذا الحديث أيضا من العلم إباحة الخبر بما يأتي بعد وبما يكون ، وهذا غير جائز على القطع إلا لمن أظهره الله على غيبه ممن ارتضى من رسله ، وبالله العصمة والتوفيق .

أنشدنا غير واحد لمنصور الفقيه رحمه الله :


قد غلب الغي على الغي وأصبح الناس كلا شي     وأصبح الميت في قبره
أحسن أحوالا من الحي



التالي السابق


الخدمات العلمية