التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1391 [ ص: 184 ] حديث حاد وعشرون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تلقوا الركبان للبيع ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا تناجشوا ، ولا يبع حاضر لباد ، ولا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها وردها صاعا من تمر .


أما قوله : لا تلقوا الركبان ، فهو النهي عن تلقي السلع ، وقد روي هذا المعنى بألفاظ مختلفة ، فروى الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلقوا الركبان ، كما ترى .

وروى ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلقوا الجلب .

وروى أبو صالح وغيره ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام أنه نهى أن تتلقى السلع حتى تدخل الأسواق .

[ ص: 185 ] وروى ابن عباس : لا تستقبلوا السوق ، ولا يتلق بعضكم لبعض ، والمعنى في ذلك كله واحد ، وقد مضى القول في ذلك وفي معنى قوله : لا يبع بعضكم على بيع بعض ، في باب نافع ، عن ابن عمر ؛ لأن القعنبي ذكر ذلك عن مالك في حديث نافع ، وذكر يحيى وغيره من ذلك ما وصفنا هنالك ، وسنزيد المعنيين هاهنا بيانا من قول أصحابنا وغيرهم إن شاء الله .

فجملة قول مالك في ذلك أنه لا يجوز أن يشتري أحد من الجلب والسلع الهابطة إلى الأسواق ، وسواء هبطت من أطراف المصر أو من البوادي حتى يبلغ بالسلعة سوقها ، هذا إذا كان التلقي في أطراف المصر أو قريبا منه ، وقيل لمالك : أرأيت إن كان ذلك على رأس ستة أميال ؟ فقال : لا بأس بذلك ، والحيوان وغير الحيوان في ذلك كله سواء .

وروى عيسى ، وأصبغ ، وسحنون ، عن ابن القاسم أن السلعة إذا تلقاها متلق واشتراها قبل أن يهبط بها إلى السوق ، قال ابن القاسم : تعرض السلعة على أهل السلع في السوق فيشتركون فيها بذلك الثمن لا زيادة ، فإن لم يكن لها سوق عرضت على الناس في المصر فيشتركون فيها إن أحبوا ، فإن [ ص: 186 ] نقصت عن ذلك الثمن لزمت المشتري ، قال سحنون : وقال لي غير ابن القاسم : يفسخ البيع .

وقال عيسى ، عن ابن القاسم : يؤدب ملتقي السلع إذا كان معتادا بذلك ، وروى سحنون عنه أيضا أنه يؤدب إلا أن يعذر بالجهالة .

وقال عيسى ، عن ابن القاسم : إن فاتت السلعة فلا شيء عليه .

وروى أشهب ، عن مالك أنه كره أن يخرج الرجل من الحاضرة إلى أهل الحوائط فيشتري منهم الثمرة مكانها ورآه من التلقي ، ومن بيع الحاضر للبادي ، وقال أشهب : لا بأس بذلك ، وليس هذا بمتلق ، ولكنه اشترى الشيء في موضعه .

وروى أبو قرة ، قال : قال لي مالك : إني لأكره تلقي السلع ، وأن يبلغوا بالتلقي أربعة برد .

قال أبو عمر : لا أعلم خلافا في جواز خروج الناس إلى البلدان في الأمتعة والسلع ، ولا فرق بين القريب والبعيد من ذلك في النظر ، وإنما التلقي تلقي من خرج بسلعة يريد بها السوق ، وأما من قصدته إلى موضعه فلم تتلق .

[ ص: 187 ] وقال الليث بن سعد : أكره تلقي السلع وشراءها في الطريق أو على بابك حتى تقف السلعة في سوقها التي تباع فيها ، فإن تلقى أحد سلعة فاشتراها ثم علم به ، فإن كان بائعها لم يذهب ردت إليه حتى تباع في السوق ، وإن كان قد ذهب ارتجعت منه وبيعت في السوق ودفع إليه ثمنها ، قال : وإن كان على بابه أو في طريقه فمرت به سلعة يريد صاحبها سوق تلك السلعة ، فلا بأس أن يشتريها إذا لم يقصد لتلقي السلع ، وليس هذا بالتلقي ، إنما التلقي أن يعمد لذلك .

قال أبو عمر : أما مذهب مالك ومن قال بمثل قولهما في النهي عن تلقي السلع ، فمعناه عندهم الرفق بأهل الأسواق لئلا يقطع بهم عما له جلسوا يبتغون من فضل الله ، فنهى الناس أن يتلقوا السلع التي يهبط بها إليهم لأن في ذلك فسادا عليهم .

وأما الشافعي ، فمذهبه في ذلك أن النهي إنما ورد رفقا بصاحب السلع لئلا يبخس في ثمن سلعته .

قال الشافعي : لا تتلقى السلعة ، فمن تلقاها فصاحبها بالخيار إذا بلغ السوق ، وقد روي بمثل ما قاله الشافعي خبر صحيح يلزم العمل به : [ ص: 188 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تلقي الجلب ، فإن تلقاه متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق .

قال أبو عمر : هذه الرواية عن ابن سيرين تبين ما رواه عنه هشام بن حسان ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه فاشترى منه شيئا فهو بالخيار إذا أتى السوق .

قال أبو عمر : فقوله في خبر هشام " فهو بالخيار " يريد البائع لئلا يتناقض الحديثان ، وهو جائز في اللغة أن يقصده وإن لم يذكره إلا بالمعنى ، وقد روينا من حديث هشام كما قال أيوب ، وهو الصواب ، وما خالفه فليس بشيء .

وقال أصحاب الشافعي : تفسير النهي عن التلقي : أن يخرج أهل الأسواق فيخدعون أهل القافلة ، ويشترون منهم شراء رخيصا ، فلهم الخيار ؛ لأنهم قد غروهم وخدعوهم .

[ ص: 189 ] وأما أبو حنيفة وأصحابه ، فالنهي عن تلقي السلع عندهم إنما هو من أجل الضرر ، فإن لم يضر بالناس تلقي ذلك لضيق المعيشة ، وحاجتهم إلى تلك السلع ، فلا بأس بذلك .

وقال أبو جعفر الطحاوي : لما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخيار في السلعة المتلقاة إذا هبط بها إلى السوق دل على جواز البيع ؛ لأنه ثبته وجعل فيه الخيار ، قال : وهذا يدل على أن التلقي المكروه إذا كان فيه ضرر ، فلذلك جعل فيه الخيار ، فإن لم يكن فيه فهو غير مكروه .

وقال ابن خواز منداد : البيع في تلقي السلع صحيح على قول الجميع ، وإنما الخلاف هو أن المشتري لا يفوز بالسلعة ويشركه فيها أهل الأسواق ولا خيار للبائع أو أن البائع بالخيار .

قال أبو عمر : ما حكاه ابن خواز منداد عن الجميع في جواز البيع في ذلك مع ما دل عليه الحديث هو الصحيح لا ما حكاه سحنون عن غير ابن القاسم أنه يفسخ البيع ، وبالله التوفيق .

وكان ابن حبيب يذهب إلى فسخ البيع في ذلك ، فإن لم يوجد البائع عرضت السلعة على أهل الأسواق واشتركوا [ ص: 190 ] فيها إن أحبوها ، وإن أبوا منها ردت على مبتاعها ، إلى كلام كثير ذكره ، وفرق بين الطعام في ذلك وغيره ، وقال : الطعام يوقف للناس كلهم يشترونه بالثمن وإن كان له أهل راتبون في السوق ولم يفسخ فيه البيع .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام ، قال : لا تلقوا الأجلاب ، فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق .

وأما قوله في الحديث " ولا يبع بعضكم على بيع بعض " فهو كقوله " لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يستام على سومه " .

ذكر الحسن بن علي الحلواني ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا إسماعيل ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : قال محمد بن سيرين : أتدري متى لا يستام الرجل على سوم أخيه ؟ قلت : لا أدري ، قال : وأنا لا أدري ، وقال سفيان : هو أن يقول عندي خير منه ، وقال مالك : معنى ذلك الركون .

[ ص: 191 ] قال مالك : تفسير قول رسول الله " لا يبع بعضكم على بيع بعض " فيما نرى والله أعلم أنه إنما نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم ، وجعل يشترط وزن الذهب ، ويتبرأ من العيوب ، وما أشبه هذا مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم ، فذلك الذي نهى عنه ، والله أعلم .

قال مالك : ولا بأس بالسوم بالسلعة توقف للبيع ، فيسوم بها غير واحد ، قال : ولو ترك الناس السوم عند أول من يسوم بالسلعة أخذت بشبه الباطل من الثمن ، ودخل على الباعة في سلعهم المكروه والضرر ، قال : ولم يزل الأمر عندنا على هذا .

قال أبو عمر : أقوال الفقهاء كلهم في هذا الباب متقاربة المعنى ، وكلهم قد أجمعوا على جواز البيع فيمن يزيد ، وهو يفسر لك ذلك ، ومذهب مالك أن البيع في ذلك يفسخ ما لم يفت ، ومذهب الشافعي ، وأبي حنيفة أن البيع لازم والفعل مكروه ، وذكر ابن خواز منداد ، قال : قال مالك : لا يبيع الرجل على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبته ، ومتى فعل ذلك فسخ البيع ما لم يفت ، وفسخ النكاح قبل الدخول .

[ ص: 192 ] وقال الشافعي وأبو حنيفة فيمن باع على بيع أخيه : العقد صحيح ويكره له ما فعل .

وأجمع الفقهاء أيضا على أنه لا يجوز دخول المسلم على الذمي في سومه إلا الأوزاعي وحده فإنه قال : لا بأس بدخول المسلم على الذمي في سومه لقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا يسم على سوم أخيه وحجة سائر الفقهاء : أن الذمي لما دخل في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر ، وبيع ما لم يقبض ، والنجش ، وربح ما لم يضمن ، ونحو ذلك كان كذلك في السوم على سومه ، وإذا أطلق الكلام على المسلمين دخل فيه أهل الذمة ، والدليل على ذلك اتفاقهم على كراهية سوم الذمي على الذمي ، فدل على أنهم مرادون .

وكان ابن حبيب يقول : إنما نهي أن يشتري الرجل على شراء الرجل ، وأما أن يبيع على بيعه فلا ، قال : لأنه لا يبيع أحد على بيع أحد ، قال : وإنما هو أن يشتري مشتر على شراء مشتر ، قال : والعرب تقول : بعت الشيء ، في معنى [ ص: 193 ] اشتريته ، وأنشد أبياتا في ذلك ، وجعل البيع فيه صحيحا وفاعله عاصيا أمره بالتوبة والاستغفار ، وأن يعرض السلعة على أخيه الذي دخل فيها عليه ، فإن أحبها أخذها .

قال أبو عمر : لا أدري وجها لإنكاره أن يراد بذلك البيع ، والعرب وإن كان يعرف من لغتها أن تقول بعت بمعنى اشتريت ، فالذي هو أعرف وأشهر عنها أن يقول : بعت بمعنى بعت ، وأي ضرورة بنا إلى هذا ، والمعنى فيه واضح على ما قال مالك وغيره ، وبالله العون والتوفيق .

وأما قوله : لا تناجشوا ، فقد مضى القول في معناه عند ذكر حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النجش ، ولا تختلف الفقهاء أن المناجشة معناها : أن يدس الرجل إلى الرجل ليعطي بسلعته عطاء وهو لا يريد شراءها ليعتبر به من أراد شراءها من الناس ، أو يفعل ذلك هو بنفسه في سلعته إذا لم يعلم أنها له .

واختلفوا في هذا البيع ، فقال مالك : من اشترى منجوشة فهو بالخيار إذا علم ، وهو عيب من العيوب ، وهذا [ ص: 194 ] تحصيل مذهب مالك عند المصريين والعراقيين من أصحابه ذكر ذلك ابن خواز منداد وغيره عن مالك ، وقال الشافعي وأبو حنيفة ذلك مكروه ، والبيع لازم .

وقال ابن حبيب : من فعل ذلك جاهلا أو مجترئا فسخ البيع إن أدرك قبل أن يفوت إلا أن يحب المشتري أن يتمسك بالسلعة بذلك الثمن الذي أخذها به ، قال : فإن فاتت في يده كانت عليه بالقيمة ، وذلك إذا كان البائع هو الذي دسه أو كان المعطي من سبب البائع ، وإن لم يكن شيئا من ذلك وكان أجنبيا لا يعرف البائع ولا يعرف قصته فلا شيء على البائع والبيع تام صحيح والفاعل آثم ، هذا كله قول ابن حبيب .

وأما قوله في هذا الحديث " ولا يبع حاضر لباد " فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، فكان مالك يقول : تفسير ذلك أهل البادية وأهل القرى ، فأما أهل المدائن من أهل الريف فإنه ليس بالبيع لهم بأس ممن يرى أنه يعرف السوم إلا من كان منهم يشبه أهل البادية فإني لا أحب أن يبيع لهم حاضر ، وقال في البدوي يقدم فيسأل الحاضر عن السعر : أكره له أن يخبره ، ولا بأس أن يشتري له ، إنما يكره أن يبيع له ، فأما أن يشترط [ ص: 195 ] له فلا بأس ، هذه رواية ابن القاسم عنه ، قال ابن القاسم : ثم قال بعد : ولا يبيع مصري لمدني ، ولا مدني لمصري ، ولكن يشير عليه .

وقال ابن وهب عن مالك : لا أرى أن يبيع الحاضر للبادي ولا لأهل القرى ، وقد حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا المفضل بن محمد الجندي ، قال : حدثنا علي بن زياد ، قال : حدثنا أبو قرة ، قال : قلت لمالك : قول النبي عليه السلام " لا يبع حاضر لباد " ما تفسيره ؟ قال : لا يبع أهل القرى لأهل البادية سلعهم ، قلت : فإن بعث بالسلعة إلى أخ له من أهل القرى ولم يقدم مع سلعته ، قال : لا ينبغي له ، قلت له : ومن أهل البادية ؟ قال : أهل العمود ، قلت له : القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها يقيمون فيها تكون قرى صغارا في نواحي المدينة العظيمة فيقدم بعض أهل تلك القرى الصغار إلى أهل المدينة بالسلع فيبيعها لهم أهل المدينة ؟ قال : نعم ، إنما معنى الحديث أهل العمود .

وروى أصبغ ، عن ابن القاسم فيمن فعل ذلك من بيع الحاضر للبادي أنه يفسخ بيعه ، وكذلك روى عيسى عن ابن القاسم ، قال : وإن فات فلا شيء عليه .

[ ص: 196 ] وروى سحنون ، عن ابن القاسم أنه يمضي البيع ، قال سحنون : وقال لي غير ابن القاسم أنه يرد البيع ، وروى سحنون وعيسى ، عن ابن القاسم أنه يؤدب الحاضر إذا باع للبادي ، قال في رواية عيسى : إن كان معتادا لذلك .

وروى عبد الملك بن الحسن زونان ، عن ابن وهب أنه لا يؤدب عالما كان بالنهي عن ذلك أو جاهلا .

قال أبو عمر : لم يختلف قول مالك والله أعلم في كراهية بيع الحاضر للبادي ، واختلف قوله في شراء الحاضر للبادي ، فمرة قال : لا بأس أن يشتري له ، ومرة قال : لا يشتري له ، ولا يشير عليه ، ذكر ذلك في كتاب السلطان من المستخرجة ، وبه قال ابن حبيب ، قال : والبادي الذي لا يبيع له الحاضر هم أهل العمود ، وأهل البوادي والبراري مثل الأعراب ، قال : وجاء النهي في ذلك إرادة أن يصيب الناس غرتهم ثم ذكر عن الخزامي ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض قال : فأما أهل القرى [ ص: 197 ] الذين يعرفون أثمان سلعهم وأسواقها ، فلم يعنوا بهذا الحديث ، قال : فإذا باع الحاضر للبادي فسخ البيع لأن عقده وقع منهيا عنه فالفسخ أولى به .

قال : وكذلك أخبرني أصبغ ، عن ابن القاسم ، قال عبد الملك بن حبيب : والشراء للبادي مثل البيع ، ألا ترى إلى قوله عليه السلام : لا يبع بعضكم على بيع بعض ، إنما هو : لا يشتري بعضكم على شراء بعض ، قال : فلا يجوز للحضري أن يشتري للبدوي ولا يبيع له ، ولا أن يبعث البدوي إلى الحضري بمتاع فيبيعه له الحضري ، ولا يشير عليه في البيع إن قدم عليه .

قال أبو عمر : قال الليث بن سعد : لا يشير الحاضر على البادي لأنه إذا أشار عليه فقد باع له ؛ لأن شأن أهل البادية أن يرخصوا على أهل الحضر لقلة معرفتهم بالسوق ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيع له ، قال : ولا بأس أن يبتاع الحاضر للبادي ، وأما أهل القرى فلا بأس أن يبيع لهم الحاضر .

وقال الأوزاعي : لا يبع حاضر لباد ، ولكن لا بأس أن يخبره بالسعر .

[ ص: 198 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا بأس أن يبيع الحاضر للبادي ، ومن حجتهم أن هذا الحديث قد عارضه قوله - صلى الله عليه وسلم - : الدين النصيحة لكل مسلم .

وقال الشافعي : لا يبع حاضر لباد ، فإن باع حاضر لباد فهو عاص إذا كان عالما بالنهي ، ويجوز البيع لقوله - صلى الله عليه وسلم - دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض .

قال أبو عمر : هذا اللفظ يقضي على أن النهي عن بيع الحاضر للبادي إنما هو لئلا يمنع المشتري فضل ما يشتريه ، وهو موافق للنهي عن تلقي السلع على تأويل مالك وأصحابه ، ومخالف لذلك على تأويل الشافعي في النهي عن تلقي السلع ، وهذا لفظ صحيح .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض .

[ ص: 199 ] وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبع حاضر لباد ، ذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض .

وروى ابن عباس قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد ، ذكره معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وقال : قلت له : ما يبيع حاضر لباد ؟ قال : لا يكون له سمسارا .

وروى أنس بن مالك ، عن النبي عليه السلام ، قال : لا يبع حاضر لباد وإن كان أباه وأخاه .

وفي حديث طلحة بن عبيد الله أنه قال للأعرابي حين قدم عليه بحلوبة له يبيعها : إن النبي عليه السلام نهى أن يبيع حاضر لباد ، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك ، وشاورني حتى آمرك أو أنهاك ، ذكره حماد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن سالم المكي أن أعرابيا حدثه أنه قدم بحلوبة له على طلحة بن عبيد الله ، فذكره .

[ ص: 200 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد في زمانه أراد أن يصيب الناس بعضهم من بعض ، فأما اليوم فليس به بأس .

قال ابن أبي نجيح : وقال عطاء : لا يصلح ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان ، عن مسلم الخياط ، سمع ابن عمر ينهى أن يبيع حاضر لباد ، قال مسلم : وقال أبو هريرة : لا يبيعن حاضر لباد .

قال أبو عمر : من فسخ البيع من أهل العلم في المناجشة ، وبيع الحاضر للبدوي ، وبيع المرء على بيع أخيه ، ونحو ذلك من الآثار ، فحجتهم أنه بيع طابق النهي ففسد ، وكذلك البيع عندهم بعد النداء للجمعة أو مع الأذان لها ، وكان أبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي ، وداود ، وجماعة من أصحابهم وغيرهم يذهبون إلى أن البيع عند الأذان للجمعة جائز ماض ، وفاعله عاص [ ص: 201 ] ، وكذلك البيوع المذكورة المنهي عنها في الحديث المذكور في هذا الباب ، واستدل من ذهب هذا المذهب بأن النهي عن ذلك لم يرد به نفس البيع ، إنما أريد به معنى غير البيع ، وهو ترك الاشتغال عن الجمعة بما يحبس عنها ، وسواء كان بيعا أو غير بيع ، وجرى في ذلك ذكر البيع ؛ لأنهم كانوا يبتاعون ذلك الوقت فنهوا عن كل شاغل يشغل عن الجمعة ، وعن كل ما يحول بين من وجبت عليه وبين السعي إليها والبيع ، وغيره في ذلك سواء ، قالوا : ولا معنى لفسخ البيع لأنه معنى غير شهود الجمعة ؛ لأنه قد يبيع ذلك الوقت ويدرك الجمعة ، قالوا : ألا ترى أن رجلا لو ذكر صلاة لم يبق من وقتها إلا ما يصليها فيه كان عاصيا بالتشاغل عنها بالبيع وجاز بيعه ، قالوا : فكذلك من باع بعد أذان الجمعة سواء ، قالوا : وكذلك لو كان في صلاة ، فقال له رجل : قد بعتك عبدي هذا بألف ، فقال : قد قبلت ، صح البيع وإن كان منهيا عن قطع صلاته بالقول .

وأما قوله في هذا الحديث : ولا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر ، فقد اختلف [ ص: 202 ] العلماء في القول بهذا الحديث ، فمنهم من قال به ، ومنهم من رده ولم يستعمله .

وممن قال به : مالك بن أنس ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وجمهور أهل الحديث ، ذكر أسد وسحنون ، عن ابن القاسم أنه قال له : أيأخذ مالك بهذا الحديث ؟ فقال : قلت لمالك : تأخذ بهذا الحديث ؟ قال : نعم ، وقال مالك : أو لأحد في هذا الحديث رأي ؟ قال ابن القاسم : وأنا آخذ به ، إلا أن مالكا قال لي : أرى لأهل البلدان إذا نزل بهم هذا أن يعطوا الصاع من عيشهم ، قال : وأهل مصر عيشهم الحنطة .

قال أبو عمر : رده أبو حنيفة وأصحابه ، وزعم بعضهم أنه منسوخ ، وأنه كان قبل تحريم الربا ، وبأشياء لا يصلح لها معنى إلا مجرد الدعوى ، وقد روى أشهب ، عن مالك نحو ذلك .

ذكر العتبي من سماع أشهب ، عن مالك أنه سئل عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها : إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها وصاعا من تمر فقال : قد سمعت ذلك وليس بالثابت ولا الموطأ عليه ، ولئن لم يكن ذلك أن له اللبن بما أعلف وضمن ، قيل [ ص: 203 ] له : نراك تضعف الحديث ؟ فقال : كل شيء يوضع موضعه ، وليس بالموطأ ولا الثابت ، وقد سمعته .

قال أبو عمر : هذه رواية منكرة ، والصحيح عن مالك ما رواه ابن القاسم ، والحديث عند أهل العلم بالحديث صحيح من جهة النقل رواه جماعة عن أبي هريرة ، منهم : موسى بن يسار ، وأبو صالح السمان ، وهمام بن منبه ، ومحمد بن سيرين ، ومحمد بن زياد بأسانيد صحاح ثابتة ، فرواية الأعرج قد ذكرناها من حديث مالك .

وحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال : حدثنا جدي ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثا ، وإن ردها رد معها صاعا من تمر .

وحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن حبابة ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن [ ص: 204 ] أبي هريرة قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام ، فإن ردها رد معها صاعا من تمر لا سمراء .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره حرفا بحرف ، وزاد : لا سمراء - يعني الحنطة - .

قال أبو عمر : أما قوله في حديث أبي الزناد : ولا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها ، يريد من ابتاع المصراة من الإبل والغنم ، والمصراة هي المحفلة سميت بمصراة ؛ لأن اللبن صري في ضرعها أياما حتى اجتمع وكثر ، ومعنى صري حبس ، فلم تحلب حتى عظم ضرعها به ليغتر المشتري بذلك ، ويظن أن تلك حالها ، وأصل التصرية حبس الماء وجمعه ، تقول العرب : منه صريت الماء إذا حبسته ، وليس هذا اللفظ من الصرار والتصرير ، ولو كان منه لكانت مصرورة لا مصراة ، وإنما قيل للمصراة : المحفلة ؛ لأن اللبن اجتمع في ضرعها فصارت حافلا ، والشاة الحافل الكثيرة اللبن العظيمة الضرع ، ومنه قيل : [ ص: 205 ] مجلس حافل ، ومحتفل إذا كثر فيه القوم ، وهذا الحديث أصل في النهي عن الغش ، وأصل فيمن دلس عليه بعيب ، أو وجد عيبا بما ابتاعه أنه بالخيار في الاستمساك أو الرد ، وهذا مجتمع عليه بالمدينة في الرد بالعيوب ، كلهم يجعل حديث المصراة أصلا في ذلك .

وأما استعمال الحديث في المصراة على وجهه فمختلف فيه ، قال به أكثر أهل الحجاز واستعملوا كثيرا من معانيه ، ومن أهل العلم بالعراق والحجاز من يأبى استعمال حديث المصراة .

واختلف الذين أبوا ذلك ، فقال منهم قائلون : ذلك خصوص في المصراة غير مستعمل في غيرها ؛ لأن اللبن المحلوب منها فيه للمشتري حظ ؛ لأن بعضه حدث في ملكه فهو غلة له ، وذكروا قوله - صلى الله عليه وسلم - الخراج بالضمان ، والغلة بالضمان قالوا : والغلة والكسب لما كان عند الجميع بالضمان كان رد الصاع خصوصا في المصراة .

أخبرنا عبد الرحمن بن مروان ، قال : أخبرنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الله بن علي بن الجارود ، قال : حدثنا [ ص: 206 ] بحر بن نصر ، عن الشافعي ، قال : حدثنا مسلم بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن رجلا اشترى عبدا فاستغله ثم ظهر منه على عيب ، فخاصم فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى له برده ، فقال البائع : يا رسول الله إنه قد أخذ خراجه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخراج بالضمان .

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد قراءة مني عليه أن الميمون بن حمزة الحسيني حدثهم ، قال : حدثنا الطحاوي ، قال : حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، فذكره سواء .

وأخبرنا عبد الرحمن بن مروان ، قال : أخبرني الحسن بن يحيى القلزمي ، قال : حدثنا ابن الجارود ، قال : حدثنا عبد الله بن هشام ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن أبي ذئب ، قال : حدثني مخلد بن خفاف ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الخراج بالضمان .

[ ص: 207 ] وقرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، وأبو يحيى بن أبي مسرة ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله ، قال قاسم : وحدثنا أحمد بن حماد ببغداد ، قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي ، قال : حدثنا مسلم بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الخراج بالضمان .

وفي حديث أحمد بن حماد أن رجلا اشترى غلاما فرده بعيب به ، فقال الرجل : إنه قد استغله يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الغلة بالضمان .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا بكر ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن ابن أبي ذئب ، عن مخلد بن خفاف بن إيماء ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي عليه السلام قال الخراج بالضمان .

وقال منهم آخرون : حديث المصراة منسوخ كما نسخت العقوبات بالغرامات ، واعتلوا في جواز دعوى النسخ في ذلك بأن قالوا : العلماء لم يجعلوا حديث المصراة أصلا يقيسون عليه [ ص: 208 ] ولد الجارية إذا ولدت عند المشتري ثم اطلع على عيب لأنهم اختلفوا في ذلك ، فقال مالك : يردها وولدها على البائع .

وقال الشافعي : يحبس الولد لنفسه لأنه حدث في ملكه ، قالوا : ومعلوم أن في لبن المصراة جزءا حادثا في ملك المشتري في الحلبة الأولى ؛ لأن اللبن يحدث بالساعات ، فقد أمر في هذا الحديث برد ما حدث من ذلك في ملك المبتاع ، وهذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم : الغلة بالضمان ، فلهذا لم يجعلوا هذا الحديث أصلا يقيسون عليه .

هذه جملة ما اعتل به من رد حديث المصراة فيما ذكرنا ، وممن رده أبو حنيفة وأصحابه ، وهو حديث مجتمع على صحته وثبوته من جهة النقل ، وهذا مما يعد وينقم على أبي حنيفة من السنن التي ردها برأيه ، وهذا مما عيب عليه ، ولا معنى لإنكارهم ما أنكروه من ذلك ؛ لأن هذا الحديث أصل في نفسه ، والمعنى فيه والله أعلم على ما قال أهل العلم : أن لبن المصراة لما كان مغيبا لا يوقف على صحة مقداره ، وأمكن التداعي في قيمته ، وقلة ما طرأ منه في ملك المشتري وكثرته [ ص: 209 ] قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - الخصومة في ذلك بما حده فيه ، كما فعل عليه السلام في دية الجنين قطع فيه مثل ذلك ؛ لأن الجنين لما أمكن أن يكون حيا فتكون فيه الدية ، وأمكن أن يكون ميتا فلا يكون فيه شيء قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمه بما حد فيه .

واتفق العلماء على القول به مع قولهم أن في الطفل الحي الدية كاملة ، والميت لا شيء فيه ، فكذلك حكم المصراة لا يلتفت فيها إلى ما خالفها من الأصول لأن حكمها أصل في نفسه ؛ لثبوت الخبر بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالعرايا وما أشبهها ، والله أعلم .

وأما الرد بما دلس فيه بائعه من العيب في سلعته ، فهذا الحديث عندهم أصل في ذلك ، وقد جعله العراقيون والشافعي أصلا في الخيار ثلاثة أيام لا يتجاوز .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة ، قال : حدثنا المقرئ ، قال : حدثنا المسعودي ، عن جابر ، وعن أبي الضحى ، عن مسروق [ ص: 210 ] قال : قال عبد الله بن مسعود : أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بيع المحفلات خلابة ، ولا تحل خلابة مسلم .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما رجل اشترى محفلة ، فله أن يمسكها ثلاثا ، فإن أحبها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر .

وكذلك رواه ابن المبارك ، عن عبيد الله بن عمر ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الشاة ، وهي المحفلة ، فإذا باعها فإن صاحبها بالخيار ثلاثة أيام ، فإن كرهها ردها وصاعا من تمر ، لم يقل : لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها ، ولا قال : من ابتاع غنما مصراة فاحتلبها ، وجعل الحديث في شاة واحدة .

[ ص: 211 ] قال أبو عمر : بهذا الحديث استدل من ذهب إلى أن الصاع إنما يرد عن الواحدة لا عن أكثر من واحدة ، وبهذا احتج من ذهب إلى ذلك من متأخري الفقهاء ، وقال : فإن كانت أكثر من واحدة رد صاعا عن كل واحدة ، وسواء في ذلك الناقة والشاة ، تعبدا وتسليما ، والله أعلم .

وقد اختلف المتأخرون من أصحابنا وغيرهم ، فيمن اشترى محفلات بصفقة ، فبعضهم قال بما ذكرنا ، وبعضهم قال : لا يرد معهن إن سخطهن إلا صاعا واحدا من تمر ، أو صاعا من عيش بلده ، وأظنه ذهب إلى ما رواه ابن جريج ، عن زياد بن سعد ، عن ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد ، سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اشترى غنما مصراة فاحتلبها ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ففي حلبها صاع من تمر .

ذكره أبو داود ، عن عبد الله بن مخلد ، عن مكي بن إبراهيم ، عن ابن جريج ، وذكره البخاري ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا مكي ، أخبرنا ابن جريج أخبرني زياد أن [ ص: 212 ] ثابتا مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكره .

قال البخاري : وحدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها : إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر وهذا مثل حديث مالك سواء ، وهو محتمل للتأويل .

ومن استعمل ظواهر هذا الباب على جملتها لم يفرق بين شاة وغنم ، ولا بين ناقة ونوق في الصاع عما ابتاعه مما ضمن من ذلك ودلس عليه به ، والله أعلم .

والأكثر من أصحابنا وغيرهم يقولون إن الصاع إنما هو عن الشاة الواحدة المصراة ، أو الناقة الواحدة المحفلة ، واحتجوا برواية عكرمة ، وأبي صالح ، وخلاس بن عمرو ، وابن سيرين كلهم يقول : عن أبي هريرة ، عن النبي عليه السلام " من اشترى شاة مصراة أو نعجة مصراة " .

[ ص: 213 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب ، وهشام ، وحبيب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء ردها وصاعا من طعام لا سمراء .

هكذا رواه جماعة في حديث ابن سيرين وغيره ، عن أبي هريرة " شاة مصراة " وبعضهم يقول في هذا الحديث : لا سمراء ، وبعضهم لا يذكره ويقول : صاعا من طعام ، وفسر بعضهم قوله : صاعا من طعام لا سمراء ، قال : يقول تمرا ليس ببر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الهيثم أبو الأحوص ، قال : حدثنا الحنيني ، عن داود بن قيس ، عن موسى بن يسار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشترى أحدكم الشاة المصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر .

[ ص: 214 ] وكذلك رواه القعنبي وابن وهب ، عن داود بن قيس ، عن موسى بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهما قالا : فلينقلب بها فليحلبها ، فإن رضي حلابها أمسكها ، وإلا ردها ومعها صاع تمر .

وأما الحديث المذكور فيه صاعا من طعام ، فأخبرناه عبد الرحمن بن مروان ، قال : حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا ابن الجارود ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن شعبة ، عن سيار ، عن الشعبي ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبايعوا بإلقاء الحصى ، ولا تناجشوا ، ولا تبايعوا بالملامسة ، ومن اشترى منكم محفلة فكرهها فليردها ، وليرد معها صاعا من طعام .

وأما أقاويل الفقهاء في هذا الباب ، فقال أبو حنيفة وأصحابه : المحفلة عندنا وغيرها سواء ، ومن اشترى عنده وعند أصحابه شاة مصراة فحلب لبنها لم يردها بعيب ، ولكنه يرجع بنقصان العيب ، وقالوا : هذا الحديث في المصراة منسوخ ، واختلفوا فيما نسخه ، فمنهم من قال : نسخه ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) وأنه لا يجب فيمن استهلك شيئا لأحد غيره إلا مثله أو قيمته ، ومنهم من قال : نسخه الخراج بالضمان [ ص: 215 ] والكالئ بالكالئ ؛ لأن لبن المصراة دين في ذمة المشتري ، وإذا ألزمناه في ذمته صاعا من تمر كان الطعام بالطعام نسيئة ، ودينا بدين ، وهذا كله منسوخ بما ذكرنا .

وأكثروا من التشغيب في ذلك بعد إجماعهم على أنه منسوخ كما نسخت العقوبات في الغرامات بأكثر من المثل في مانع الزكاة أنها تؤخذ منه مع شطر ماله ، وفي سارق التمر من غير الجرين غرامة مثليه وجلدات نكال ، ونحو ذلك .

وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والشافعي ، والثوري : هو بخير النظرين إذا احتلبها ووجد حلابها بخلاف ما ظهر ، فإن ردها رد معها صاعا من تمر ، ولا يرد اللبن الذي حلب ، وإن كان قائما بعينيه ، قال مالك : وأرى لأهل كل بلد أن يعطوا الصاع من عيشهم حنطة أو غيرها ، قالوا : وإنما تستبين المصراة ويعلم بأنها مصراة إذا حلبها المشتري مرتين أو ثلاثا فنقص اللبن في كل مرة عما كان عليه في الأولى ، وقال مالك : إنما يختبر بالحلاب الثاني ، فإذا حلب ما يعلم أنه قد اختبرها به فهو رضى .

[ ص: 216 ] وقال : روي عن زيد بن الهذيل في نوادر تنسب إليه فيمن اشترى شاة مصراة ، قال : هو بالخيار ثلاثا ليحلبها ، فإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر أو نصف صاع من بر ، قال : وإن اشتراها وليست بمحفلة فاحتلبها ، فليس له أن يردها ، ولكنه يرجع بنقصان العيب ؛ لأنا اتبعنا الأثر في المحفلة ، فإن حدث في المحفلة عيب فإنه يرد النقصان إلا أن يرضى البائع أن يأخذها كما هي .

قال أبو عمر : تلخيص اختلاف الفقهاء في هذا الباب أن نقول : قال مالك : من اشترى مصراة فاحتلبها ثلاثا ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها لاختلاف لبنها ردها ورد معها صاعا من قوت ذلك البلد تمرا كان أو برا أو غير ذلك ، وبه قال الطبري ، وقال عيسى بن دينار في مذهب مالك : لو علم مشتري المصراة أنها مصراة بإقرار البائع ، فردها قبل أن يحلبها لم يكن عليه غرم ؛ لأنه لم يحلب اللبن الذي من أجله يلزم غرم الصاع .

قال أبو عمر : هذا ما لا خلاف فيه ، قال عيسى : ولو حلبها مرة ثم حلبها ثانية فنقص لبنها ردها ورد معها صاعا [ ص: 217 ] من تمر للحلبة الأولى ، ولو جاء باللبن بعينه الذي حلبه لم يقبل منه ولزمه غرم الصاع ، ولو لم يردها للحلبة الثانية ، وظن أن نقص لبنها كان من استنكار الموضع فحلبها ثالثة فتبين له صرها فأراد ردها فإنه يحلف بالله ما كان ذلك ممن رضي ، ويرد معها الصاع الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

واختلف المتأخرون من أصحاب مالك على القولين اللذين قدمنا ذكرهما في مشتري عدد من الغنم فوجدها كلها مصراة ، فبعضهم قال : يرد عن كل واحدة صاعا من تمر ، وقال بعضهم : بل يرد صاعا واحدا من تمر تعبدا ؛ لأنه ليس بثمن اللبن ولا قيمته .

وقال الشافعي في المصراة : يردها ويرد معها صاعا من تمر لا يرد غير التمر ، وكذلك قال ابن أبي ليلى ، والليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، ويجيء على أصولهم أن التمر إذا عدم وجب رد قيمته .

وقد روي عن ابن أبي ليلى ، وأبي يوسف أنهما قالا : يعطي معهما قيمة اللبن .

[ ص: 218 ] وقال زفر : يردها ويرد معها صاعا من تمر أو نصف صاع من بر .

وقال أبو حنيفة : إذا حلبها لم يردها ، وإنما يرجع بنقصان العيب .

قال أبو عمر : سواء كان اللبن المحلوب من المصراة حاضرا أو غائبا لا يرد اللبن ، وإنما يرد البدل المذكور في هذا الحديث ؛ لأنه قد أمر برد الصاع لا اللبن ، فلو رد اللبن كان قد فعل غير ما أمر به ، وهو نص لا يجوز خلافه إلى القياس ، ومعلوم أنه لا يستبين أنها مصراة إلا بالحلبة الثانية ، وإذا كان ذلك كذلك علم أن لبن الحلبة الأولى قد فات أو تغير ، فلو ألزموا المبتاع مثله خالفوا ظاهر الخبر إلى القياس وذلك غير جائز .

وأما أصحابنا ، فيزعمون أنه لو رد اللبن دخله بيع الطعام قبل أن يستوفى ؛ لأنه كأنه قد وجب له الصاع تمرا فأخذ فيه اللبن وباعه قبل أن يستوفيه ، ويدخل عليهم مثل ذلك في قولهم : يعطي بدل التمر صاعا من قوته وعيشه ، وبالله التوفيق .

[ ص: 219 ] قال أبو عمر : جعل العراقيون والشافعي حديث المصراة من رواية ابن سيرين ، ومحمد بن زياد ، ومن تابعهما ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلا في الخيار أنه لا يكون أكثر من ثلاثة أيام ، وذهب مالك إلى أن الخيار لا حد فيه ، وإنما هو على ما شرطه المتبايعان مما يليق ويعرف من مدة اختيار مثل تلك السلعة ، وحجته في ذلك عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : إلا بيع الخيار ، وقد مضى القول في الخيار ممهدا في باب نافع ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية