التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
33 [ ص: 220 ] حديث ثان وعشرون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم ليستنثر ، ومن استجمر فليوتر .


هكذا رواه يحيى " فليجعل في أنفه ثم ليستنثر " ولم يقل ماء ، وهو مفهوم من الخطاب ، وهكذا وجدناه عند جماعة شيوخنا إلا فيما حدثناه أحمد بن محمد ، عن أحمد بن مطرف ، عن عبيد الله بن يحيى ، عن أبيه ، فإنه قال فيه : فليجعل في أنفه ماء .

وأما القعنبي فلم يقل ماء في رواية علي بن عبد العزيز ، عن القعنبي .

ورواه أبو داود ، عن القعنبي ، فقال فيه : فليجعل في أنفه ماء ، وكذلك رواية ابن بكير ، ومعن ، وجماعة ، عن [ ص: 221 ] مالك : فليجعل في أنفه ماء ، وعند أكثر الرواة هو هكذا : فليجعل في أنفه ماء .

وقال أبو خليفة : الفضل بن حباب القاضي البصري ، عن القعنبي في هذا الحديث : فليجعل في أنفه ماء ، وهذا كله معنى واحد ، والمراد مفهوم ، ورواية ورقاء لهذا الحديث ، عن أبي الزناد كما روى يحيى ، عن مالك لم يقل ماء .

قرأت على عبد الله بن محمد بن يوسف أن عبيد الله بن محمد بن أبي غالب حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن محمد بن بدر الباهلي ، قال : حدثنا رزق الله بن موسى ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء بن عمر اليشكري ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أحدكم توضأ فليجعل في أنفه ثم يستنثر .

قال أبو عمر : في هذا الحديث الأمر بالاستنثار بالماء عند الوضوء ، وذلك دفع الماء بريح الأنف بعد الاستنشاق ، والاستنشاق أخذ الماء بريح الأنف من الكف ، والاستنثار دفعه ، ومحال أن يدفعه من لم يأخذه ، ففي الأمر بالاستنثار أمر بالاستنشاق فافهم ، وعلى ما وصفت لك في الاستنشاق والاستنثار جمهور العلماء ، وأصل هذه اللفظة في اللغة القذف ، يقال : نثر [ ص: 222 ] واستنثر بمعنى واحد ، وذلك إذا قذف من أنفه ما استنشق مثل الامتخاط ، ويقال : الجراد نثرة حوت ، أي قذف به من أنفه ، وقد روى ابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك ، قال : الاستنثار أن يجعل يده على أنفه ويستنثر ، قيل لمالك : أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه ؟ فأنكر ذلك ، وقال : إنما يفعل ذلك الحمار ، وسئل مالك عن المضمضة والاستنثار مرة أم مرتين أم ثلاثا ؟ فقال : ما أبالي أي ذلك فعلت ، وكل ذلك جائز عند مالك وجميع أصحابه أن يتمضمض ويستنثر من غرفة واحدة .

قال أبو عمر : أما لفظ الاستنشاق ، فلا يكاد يوجد الأمر به إلا في رواية همام ، عن أبي هريرة ، وفي حديث أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن صبرة ، ويوجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمضمض واستنشق من حديث عثمان ، وعلي ، وعائشة ، وغيرهم من وجوه .

وأما لفظ الاستنثار ، فمحفوظ الأمر به من حديث ابن عباس ، ومن طريق أبي هريرة من رواية أبي إدريس الخولاني ، والأعرج ، وعيسى بن طلحة ، وغيرهم ، عن أبي هريرة ، وقد ذكرنا خبر أبي إدريس الخولاني في باب ابن شهاب من كتابنا هذا ، وذكرنا هناك الحكم في الاستجمار ، وما للعلماء في [ ص: 223 ] ذلك من الوجوه والاختيار ، وذكرنا أقوالهم في الاستنثار في باب زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن الصنابحي من كتابنا هذا ، ونزيد القول هاهنا بيانا في ذلك إن شاء الله .

حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن كثير ، عن عاصم بن لقيط ، عن أبيه ، قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء ، قال : أسبغ الوضوء ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ورواه الثوري ، عن أبي هاشم ، عن عاصم بإسناده مثله .

ورواه ابن جريج ، عن إسماعيل بن كثير بإسناده مثله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن قارظ بن شيبة ، عن أبي غطفان ، قال : دخلت على ابن عباس فوجدته يتوضأ فمضمض واستنثر ثم قال : قال رسول [ ص: 224 ] الله - صلى الله عليه وسلم - : استنثروا اثنتين بالغتين أو ثلاثا ، وذكره أبو داود ، عن إبراهيم بن موسى ، عن وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن قارظ ، عن أبي غطفان ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : استنثروا مرتين بالغتين .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن سلمة بن قيس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استنشقت فانثر ، وإذا استجمرت فأوتر .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أبو إسماعيل ، قال : حدثنا نعيم ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم لينثره .

[ ص: 225 ] قال أبو عمر : هذا أبين حديث في الاستنشاق والاستنثار ، وأصحها إسنادا ، وأجمع المسلمون طرا أن الاستنشاق والاستنثار من الوضوء ، وكذلك المضمضة ومسح الأذنين .

واختلفوا فيمن ترك ذلك ناسيا أو عامدا ، فكان أحمد بن حنبل يذهب إلى أن من ترك الاستنثار في الوضوء ناسيا أو عامدا أعاد الوضوء والصلاة ، وبه قال أبو ثور ، وأبو عبيد في الاستنثار خاصة ، وهو قول داود في الاستنثار خاصة أيضا ، وكان أبو حنيفة ، والثوري ، وأصحابهما يذهبون إلى إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة دون الوضوء ، وكانت طائفة توجبهما في الوضوء والجنابة ، وقد تقدم ذكرهم في باب زيد بن أسلم .

وأما مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأكثر أهل العلم ، فإنهم ذهبوا إلى أن لا فرض في الوضوء واجب إلا ما ذكره الله عز وجل في القرآن ، وذلك غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين ، وقد مضى القول في أحكام المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين مستوعبا ممهدا بعلله ، وأوضحنا وجوه الأقاويل فيه عند ذكر حديث الصنابحي في باب زيد بن أسلم وذكرنا أحكام الاستجمار والاستنجاء بالأحجار في باب ابن شهاب عن [ ص: 226 ] أبي إدريس من كتابنا هذا ، والحمد لله .

والذي يتحصل من مذهب مالك أن الوتر في الاستجمار ليس بواجب ، ولكنه مندوب إليه سنة ، وقد تابع مالكا على هذا جماعة قد ذكرناهم في باب ابن شهاب عن أبي إدريس من هذا الكتاب ، وذكرنا الحجة من جهة الأثر والنظر لهم ولمن خالفهم هناك ، والحمد لله .

وقد كان ابن عمر يستحب الوتر في تجمير ثيابه ، وكان يستعمل العموم في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ومن استجمر فليوتر ، فكان يستجمر بالأحجار وترا ، وكان يجمر ثيابه وترا تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومستعملا عموم الخطاب ، والله الموفق للصواب .

وقد جاء في الأثر المرفوع : إن الله وتر يحب الوتر .

التالي السابق


الخدمات العلمية