التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1379 [ ص: 285 ] حديث سابع وعشرون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مطل الغني ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع .


هذا يدل على أن المطل على الغني حرام لا يحل إذا مطل بما عليه من الديون وكان قادرا على توصيل الدين إلى صاحبه وكان صاحبه طالبا له ؛ لأن الظلم حرام قليله وكثيره ، وتختلف آثامه على قدر اختلافه ؛ لأن للظلم وجوها كثيرة ، فأعظمها الشرك وأقلها لا يكاد يعرف من خفائه ، وجملتها لا تحصى كثرة ، وأصل الظلم في اللغة أخذك ما ليس لك ووضعك الشيء في غير موضعه ، ومنه قالوا :


ومن يشابه أبه فما ظلم

أي لم يضع الشبه غير موضعه ثم يتصرف على كل شيء أخذ من غير وجهه .

قال الله عز وجل : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ ص: 286 ] ، وقال ( ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ) ، ( والله لا يحب الظالمين ) ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاكيا عن ربه يا عبادي حرمت عليكم الظلم فلا تظالموا وقال الظلم ظلمات يوم القيامة .

أخبرنا أبو محمد قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثني محمد بن عمر بن لبابة ، قال : حدثني عثمان بن أيوب ، قال : سمعت سحنون بن سعيد يقول : إذا مطل الغني بدين عليه لم تجز شهادته ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سماه ظالما ، والدليل على أن مطل الغني ظلم لا يحل ما أبيح منه لغريمه من أخذ عوضه ، والقول فيه بما هو عليه من الظلم وسوء الأفعال ، ولولا مطله له كان ذلك فيه غيبة ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام يريد من بعضكم على بعض ، ثم أباح لمن مطل بدينه [ ص: 287 ] أن يقول فيمن مطله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته واللي المطل والتسويف ، والواجد الغني .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا وبر بن أبي دليلة شيخ من أهل الطائف ، قال : حدثني محمد بن ميمون بن مسيكة - وأثنى عليه خيرا - عن عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي الواجد يحل عرضه وعقوبته .

قال أبو عمر : هذا عندي نحو معنى قول الله عز وجل ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) وهذه الآية نزلت في رجل تضيف قوما فلم يضيفوه ، فأبيح له أن يقول فيهم إنهم لئام لا خير فيهم ، ولولا منعهم له من حق الضيافة ما جاز له أن يقول فيهم ما فيهم ؛ لأنها غيبة محرمة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : إذا قلت في أخيك ما فيه فقد اغتبته ، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فذلك البهتان وهكذا لما كان مطل [ ص: 288 ] الغني ظلما أبيح لغريمه عرضه ، ومعنى قوله في هذا الحديث : " وعقوبته " والله أعلم المعاقبة له بأخذ ماله عنده من ماله إذا أمكنه أخذ حقه منه بغير إذنه ، وكيف أمكنه من ماله ، قال الله عز وجل : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) وقد شكت هند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زوجها أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها وولدها بالمعروف ، فقال لها : خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف ، فأمرها أن تعاقبه بأخذ مالها من حق عنده ، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته .

حدثنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو ، قال : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن وبر بن أبي دليلة ، عن محمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : حدثني عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته وقد استدل جماعة من أهل العلم والنظر على جواز حبس من وجب عليه أداء الدين حتى يؤديه إلى صاحبه أو تثبت عسرته بقوله - صلى الله عليه وسلم - مطل الغني ظلم [ ص: 289 ] وبقوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته قالوا : ومن عقوبته الحبس ، هذا إذا كان دينه بعوض حاصل بيده إلا أن أكثر أصحابنا لا يفرقون بين وجوب الدين عليه من أجل عوض أو غير عوض ؛ لأن الأصل عندهم اليسار حتى يثبت العدم ، وعند غيرهم الأصل في الناس العدم لأن الله لم يخرج خلقه إلى الوجود إلا فقراء ثم تطرأ الأملاك عليهم بأسباب مختلفة ، فمن ادعى ذلك فعليه البينة ، وأما من أقر بالعوض فقد أقر باليسار ، فإن ادعى الفقر لم يقبل منه بغير بينة ، ومطله ومدافعته ظلم ، وأما إذا صح يساره وامتنع من أداء ما وجب عليه فحبسه واجب ؛ لأنه ظالم بإجماع ، قال الله عز وجل : ( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ) ، وهذا حديث غريب لا يجيء إلا بهذا الإسناد .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 290 ] يتقاضاه فأغلظ له ، فهم به أصحابه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوه فإن لصاحب الحق مقالا .

وأما قوله : وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ، فمعناه الحوالة يقول : وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبعه ، وهذا يبينه ويرفع الإشكال فيه حديث يونس بن عبيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطل الغني ظلم ، وإذا أحلت على مليء فاتبعه وهذا عند أكثر الفقهاء ندب وإرشاد لا إيجاب وهو عند أهل الظاهر واجب ، فقال ابن وهب : سألت مالكا عن تفسير حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أتبع على مليء فليتبع ، قال مالك : هذا أمر ترغيب ، وليس بالذي يلزمه السلطان الناس ، وينبغي له أن يطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال : وسألت مالكا عن الحول بالدين ، فقال : انظر ما أقول لك : أحل بما قد حل من دينك فيما حل وفيما لم يحل ، ولا تحل ما لم يحلل في شيء ، ولا فيما حل وفيما لم يحل .

واختلف الفقهاء في معنى الحوالة ، فجملة مذهب مالك وأصحابه فيها أن من احتال بدين له على رجل على آخر فقد برئ المحيل ولا يرجع إليه أبدا أفلس أو مات إلا أن [ ص: 291 ] يغره من فلس ، فإن غره انصرف عليه ، وهذا إذا كان له عليه دين ، فإن لم يكن له عليه دين فهي حمالة ، ويرجع إليه أبدا ، فإن كان له عليه دين فهي الحوالة ، ولا يكون للمحتال أن يرجع على المحيل بوجه من الوجوه توي المال أو لم يتو إلا أن يغره من فلس قد علمه ، وهذا كله مذهب الشافعي وأصحابه أيضا ، قال ابن وهب عن مالك : إذا أحيل بدين عليه فقد برئ المحيل ، ولا يرجع عليه بموت ولا إفلاس .

وقال ابن القاسم عنه : إن أحاله ولم يغره من فلس علمه من غريمه فلا يرجع عليه إذا كان عليه دين له ، فإن غره أو لم يكن له عليه شيء فإنه يرجع عليه إذا أحاله .

وقال الشافعي : يبرأ المحيل بالحوالة ولا يرجع عليه بموت ولا إفلاس .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : يبرأ المحيل بالحوالة ولا يرجع عليه إلا بعد التوى ، والتوى عند أبي حنيفة أن يموت المحال عليه مفلسا أو يحلف ما له عليه من شيء ، ولم يكن للمحيل بينة .

وقال أبو يوسف ومحمد : هذا تواء وإفلاس المحال عليه أيضا تواء .

[ ص: 292 ] وقال عثمان البتي : الحوالة لا تبرئ المحيل إلا أن يشترط البراءة ، فإن اشترط البراءة برئ المحيل إذا أحاله على مليء ، وإن أحاله على مفلس ولم يعلمه أنه مفلس فإنه يرجع عليه وإن أبرأه ، وإن أعلمه أنه مفلس وأبرأه لم يرجع على المحيل .

وقال ابن المبارك ، عن الثوري : إذا أحاله على رجل فأفلس ، فليس له أن يرجع على الآخر إلا بمحضرهما ، وإن مات وله ورثة ولم يترك شيئا رجع حضروا أو لم يحضروا .

وقال الليث في الحوالة : لا يرجع إذا أفلس المحتال عليه .

وقال ابن أبي ليلى : يبرأ صاحب الأصل بالحوالة .

وقال زفر والقاسم بن معن في الحوالة : له أن يأخذ كل واحد منهما بمنزلة الكفالة .

قال أبو عمر : لما قال : - صلى الله عليه وسلم - : وإذا أحيل أحدكم ، أو أتبع أحدكم على مليء فليتبع ، دل على أن من غر غريمه من غير مليء لم يكن له أن يتبعه ، وكان له أن يرجع عليه بحقه ؛ لأنه لم يحله على مليء ، وإذا أحاله على مليء ثم لحقه بعد ذلك آفة الفلس لم يكن له أن يرجع ؛ لأنه قد فعل ما كان له فعله ثم أتى من أمر الله غير ذلك [ ص: 293 ] وقد كان صح انتقال ذمة المحيل إلى ذمة المحتال عليه فلا يفسخ ذلك أبدا ، وما اعتراه بعد من الفلس فمصيبته من المحتال ؛ لأنه لا ذمة له غير ذمة غريمه الذي احتال عليه ، وهذا بين إن شاء الله .

ومن حجة أبي حنيفة وأصحابه أن الملأ لما شرط في الحوالة دل على أن زوال ذلك يوجب عود المال عليه ، وشبهه ببيع الذمة بالذمة في الحوالة كابتياع عبد بعبد ، فإذا مات العبد قبل القبض بطل البيع ، قالوا : فكذلك موت المحتال عليه مفلسا ، قالوا : وإفلاس المحتال عليه مثل إباق العبد من يد البائع ، فيكون للمشتري الخيار في فسخ البيع ، وإن كان قد يرجى رجوعه وتسليمه ، كذلك إفلاس المحتال عليه .

قال أبو عمر : أصح شيء في الحوالة من أقوال الفقهاء ما ذهب إليه مالك والشافعي ، والله أعلم .

فهذا ما للعلماء في الحوالة من المعاني ، والأصل فيها حديث هذا الباب ، والحوالة أصل في نفسها خارجة عن الدين بالدين ، وعن بيع ذهب بذهب أو ورق بورق ، وليس يدا بيد كما أن العرايا أصل في نفسها خارج عن المزابنة ، وكما أن القراض والمساقاة أصلان في أنفسهما خارجان عن معنى الإجارات ، فقف على هذه الأصول تفقه إن شاء الله ، وليس هذا موضع ذكر الكفالة ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية