التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1304 [ ص: 190 ] حديث ثالث لحميد ، عن أنس مسند صحيح

مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ، فقيل : يا رسول الله ، وما تزهى ؟ ، قال : حتى تحمر .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن منع الله الثمرة ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه



هكذا روى هذا الحديث جماعة الرواة في الموطأ لم يختلفوا فيه فيما علمت ، وقوله في هذا الحديث " حتى تحمر " يدل على أن الثمار إذا بدأ فيها الاحمرار وكانت مما تطيب إذا احمرت مثل ثمر النخل وشبهها حل بيعها ، وقبل ذلك لا يجوز بيعها إلا على القطع في الحين على اختلاف في ذلك نذكره إن شاء الله . واحمرار الثمرة في النخل هو بدو صلاحها ، وهو وقت للأمن من العاهات عليها في الأغلب ، وقوله صلى الله عليه وسلم أزهت ، واحمرت ، وبدا صلاحها ، ألفاظ مختلفة وردت في الأحاديث الثابتة معانيها كلها متفقة ، وذلك إذا بدا طيبها ونضجها ، وكذلك سائر الثمار إذا بدا صلاح الجنس منها وطاب ما يؤكل منها الطيب المعهود في التين والعنب وسائر الثمار ، جاز بيعها على الترك في شجرها حتى ينقضي أوانها بطيب جميعها ، ولا يجوز بيع شيء من الثمار ، ولا الزرع قبل بدو صلاحه إلا على القطع ، وقد اختلف الفقهاء قديما وحديثا في ذلك ، وقد أرجأنا القول فيه إلى باب نافع فهناك تراه إن شاء الله .

وأما قوله أرأيت إن منع الله الثمرة ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه فيزعم قوم أنه من قول أنس بن مالك ، وهذا باطل بما رواه مالك وغيره من الحفاظ في هذا الحديث إذ جعلوه مرفوعا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روى [ ص: 191 ] أبو الزبير عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، وتنازع العلماء في تأويل هذا الحديث ، فقال قوم : فيه دليل على إبطال قول من قال بوضع الجوائح ; لأن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وقوله مع ذلك أرأيت إن منع الله الثمرة أي إذا بعتم الثمرة قبل بدو طيبها ومنعها الله كنتم قد ركبتم الغرر وأخذتم مال المبتاع بالباطل ; لأن الأغلب في الثمار أن تلحقها الجوائح قبل ظهور الطيب فيها ، فإذا طابت أو طاب أولها أمنت عليها العاهة في الأغلب وجاز بيعها ; لأن الأغلب من أمرها السلامة ، فإن لحقتها جائحة حينئذ لم يكن لها حكم وكانت كالدار تباع فتنهدم بعد البيع قبل أن ينتفع المبتاع بشيء منها ، أو الحيوان يباع فيموت بأثر قبض مبتاعه له ، أو سائر العروض ; لأن الأغلب من هذا كله السلامة ، فما خرج من ذلك نادرا لم يلتفت إليه ، ولم يعرج عليه ، وكانت المصيبة من مبتاعه .

وكذلك الثمرة إذا بيعت بعد بدو صلاحها لم يلتفت إلى ما لحقها من الجوائح ; لأنهم قد سلموا من عظم الغرر ، ولا يكاد شيء من البيوع يسلم من قليل الغرر ، فكان معفوا عنه ، قالوا : فإذا بيعت الثمرة في وقت يحل بيعها ، ثم لحقتها جائحة كان ذلك كما لو جذب فتلفت ، كانت مصيبتها من المبتاع .

واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، قيل له : وما بدو صلاحها يا رسول الله ؟ ، فقال : إذا بدا صلاحها ذهبت عاهتها وبحديث مالك ، عن أبي الرجال ، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة ، وهذا معنى قول ابن شهاب .

ذكر الليث بن [ ص: 192 ] سعد ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : لو أن رجلا ابتاع ثمرا قبل أن يبدو صلاحه ، ثم أصابته عاهة كان ما أصابه على ربه .

أخبرني سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحها ، ولا تبيعوا الثمر بالثمر .

وأخبرنا أحمد بن عبد الله ، قال : أخبرنا الميمون بن حمزة ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي ، قال : حدثنا إسماعيل بن يحيى ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل ، عن ابن أبي ذؤيب ، عن عثمان بن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة ، قال محمد بن سراقة : فسألت ابن عمر متى ذلك ؟ ، فقال : طلوع الثريا .

وروى المعلى بن أسد ، قال : حدثنا وهيب ، عن عسل بن سفيان ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة ، عن أهل البلد .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم [ ص: 193 ] بن أصبغ ، حدثنا محمد بن غالب ، قال : حدثنا حرمي وعفان ، قالا : حدثنا وهيب بن خالد ، عن عسل بن سفيان ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما طلع النجم صباحا قط وبقوم عاهة ، إلا رفعت عنهم ، أو خفت .

قال أبو عمر : هذا كله على الأغلب ، وما وقع نادرا ، فليس بأصل يبنى عليه في شيء ، والنجم هو الثريا ، لا خلاف هاهنا في ذلك وطلوعها صباحا لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار ، وهو شهر ماي ، فنهي رسول الله عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها . معناه عندهم ; لأنه من بيوع الغرر لا غير ، فإذا بدا صلاحها ارتفع الغرر في الأغلب عنها كسائر البيوع ، وكانت المصيبة فيها من المبتاع إذا قبضها على أصولهم في المبيع أنه مضمون على البائع حتى يقبضه المبتاع طعاما كان أو غيره .

وهذا كله قول الشافعي وأصحابه والثوري وقول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فيمن ابتاع ثمرة من نخل أو سائر الفواكه والثمرات ، فقبض ذلك بما يقبض به مثله ، فأصابته جائحة ، فأهلكته كله ، أو بعضه ، كان ثلثا ، أو أقل ، أو أكثر ، فالمصيبة في ذلك كله قل ، أو كثر من مال المشتري ، وقد كان الشافعي رحمه الله في العراق ، يقول بوضع الجوائح ، ثم رجع إلى هذا القول ، وهو المشهور عند أصحابه من مذهبه لحديث حميد الطويل ، عن أنس بن مالك المذكور في هذا الباب ، ولأن حديث سليمان بن عتيق ، عن جابر لم يثبت عنده في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع [ ص: 194 ] الجوائح ، قال الشافعي : كان ابن عيينة يحدثنا بحديث حميد بن قيس ، عن سليمان بن عتيق ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين ، ولا يذكر فيه وضع الجائحة ، قال : ثم حدثنا بذلك غير مرة كذلك ، ثم زاد فيه وضع الجوائح ، فذكرنا له ذلك ، فقال : هو في الحديث واضطرب لنا فيه ، قال الشافعي : ولم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ، ولو ثبت لم أعده ، قال : ولو كنت قائلا بوضع الجوائح لوضعتها في القليل والكثير ، قال : والأصل المجتمع عليه أن كل من ابتاع ما يجوز بيعه وقبضه كانت المصيبة منه ، ولم يثبت عندنا وضع الجوائح فيخرجه من تلك الجملة .

قال أبو عمر : اختلف أصحاب ابن عيينة عنه في ذكر الجوائح في حديث سليمان بن عتيق ، عن جابر ، فبعضهم ذكر ذلك عنه فيه ، وبعضهم لم يذكره ، وممن ذكره عنه في ذلك الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن حرب الطائي وغيرهم .

وقالت طائفة من أهل العلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن منع الله الثمرة فيم يأخذ أحدكم مال أخيه دليل واضح على أن الثمرة إذا منعت لم يستحق البائع ثمنا ; لأن المبتاع قد منع مما ابتاعه ، قالوا : وهذا هو المفهوم من هذا الخطاب ، قالوا : وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا في الثمار أصل في نفسه مخالف لحكمه في سائر السلع ، يجب [ ص: 195 ] التسليم له . واحتجوا بحديث أبي الزبير ، عن جابر في ذلك ، وهو ما حدثناه عبد الرحمن بن يحيى وخلف بن أحمد ، قالا : حدثنا أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي ، قال : حدثنا محمد بن تميم القفصي ، قال : حدثنا أنس بن عياض ، قال : أخبرني ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق .

قالوا : وهذا الحديث لم ينسق على النهي ، عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، فيحتمل من التأويل ما احتمله حديث أنس ، بل ظاهره يدل في قوله إن بعت من أخيك ثمرا أنه البيع المباح بعد الإزهاء وبدو الصلاح ، لا يحتمل ظاهره غير ذلك ، وهو أوضح وأبين من أن يحتاج فيه إلى الإكثار ، واحتجوا أيضا بحديث سليمان بن عتيق ، عن جابر ، وهو ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن الأموي ، وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس ، قالا جميعا : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، قال : حدثنا يحيى بن معين ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن سليمان بن عتيق ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ونهى عن بيع السنين .

وحدثناه أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن سليمان بن عتيق ، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين وأمر بوضع الجوائح .

وممن قال بوضع الجوائح هكذا مجملا أكثر أهل المدينة ، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك بن أنس وأصحابه ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وبوضع الجوائح كان يقضي رضي الله عنه ، وبه قال أحمد بن حنبل وسائر أصحاب الحديث وأهل [ ص: 196 ] الظاهر ، إلا أن مالكا وأصحابه وجمهور أهل المدينة يراعون الجائحة ويعتبرون فيها أن تبلغ ثلث الثمرة فصاعدا ، فإن بلغت الثلث فصاعدا حكموا بها على البائع وجعلوا المصيبة منه ، وما كان دون الثلث ألغوه وكانت المصيبة عندهم فيه من المبتاع ، وجعلوا ما دون الثلث تبعا لا يلتفت إليه ، وهو عندهم في حكم التافه اليسير إذ لا تخلو ثمرة من أن يتعذر القليل من طيبها ، وأن يلحقها في اليسير منها فساد .

فلما لم يراع الجميع ذلك التافه الحقير كان ما دون الثلث عندهم كذلك ، وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : كاد أهل المدينة أن لا يستقيموا في الجائحة ، يقولون ما كان دون الثلث فهو على المشتري إلى الثلث ، فإذا كان فوق ذلك فهي جائحة ، قال : وما رأيتهم يجعلون الجائحة إلا في الثمار .

وقال : وذلك أني ذكرت لهم البز يحترق والرقيق يموتون ، قال معمر : وأخبرني من سمع الزهري ، قال : قلت له : ما الجائحة ؟ ، قال : النصف .

وروى حسين بن عبد الله بن ضميرة ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي ، قال : والجائحة الريح والمطر والجراد والحريق . والمراعاة عند مالك وأصحابه ثلث الثمرة ، لا ثلث الثمن ، ولو كان ما بقي من الثمرة وفاء لرأس ماله وأضعاف ذلك ، وإذا كانت الجائحة أقل من ثلث الثمرة فمصيبتها عندهم من المشتري ، ولو لم يكن في ثمن ما بقي إلا درهم واحد .

وأما أحمد بن حنبل وسائر من قال بوضع الجوائح من العلماء فإنهم وضعوها عن المبتاع في القليل والكثير ، وقالوا : المصيبة في كل ما أصابت الجائحة من الثمار على البائع ، قليلا كان ذلك أو كثيرا ، ولا معنى عندهم لتحديد الثلث ; لأن الخبر الوارد بذلك ليس فيه ما يدل على خصوص شيء دون شيء ، وهو حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي الزبير ورواية سليمان بن عتيق ، وقد ذكرناهما .

قال أبو عمر : كان بعض من لم ير وضع الجوائح يتأول حديث سليمان بن [ ص: 197 ] عتيق ، عن جابر أنه على الندب ، ويقول : هو كحديث عمرة في الذي تبين له النقصان فيما ابتاعه من ثمر الحائط حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تألى ألا يفعل خيرا ، يعني رب الحائط ، وكان يتأول في حديث أبي الزبير ، عن جابر أنه محمول على بيع ما لم يقبض ، وما لم يقبض فمصيبته عندهم من بائعه ، وكان بعضهم يتأول ذلك في وضع الخراج خراج الأرض يريد كراءها عمن أصاب ثمره ، أو زرعه آفة .

وقال بعضهم : معناه معنى حديث أنس سواء ، إلا أن أنسا ساقه على وجهه وفهمه بتمامه .

وهذه التأويلات كلها خلاف الظاهر والظاهر يوجب وضع الجوائح إن ثبت حديث سليمان بن عتيق .

وأما الأصول فتشهد لتأويل الشافعي ، وبالله التوفيق .

وأما جملة قول مالك وأصحابه في الحوائج فذكر ابن القاسم وغيره ، عن مالك فيمن ابتاع ثمرة فأصابتها جائحة أنها من ضمان البائع إذا كانت الثلث فصاعدا ، وإذا كانت أقل من الثلث لم توضع عن المشتري وكانت المصيبة منه في النخل والعنب ونحوهما .

قال : وأما الورد والياسمين والرمان والتفاح والخوخ والأترج والموز وكل ما يجنى بطنا بعد بطن من المقاثي ، وما أشبهها إذا أصابت شيئا من ذلك الجائحة ، فإنه ينظر إلى المقثأة كم نباتها من أول ما يشتري إلى آخر ما ينقطع ثمرتها في المتعارف وينظر إلى قيمتها في كل زمان على قدر نفاقه في الأسواق ، ثم يمتثل فيه أن يقسم الثمن على ذلك .

واختلف أصحاب مالك في الحائط يكون فيه أنواع من الثمار فيجاح منها نوع واحد ، فكان أشهب وأصبغ يقولان : لا ينظر فيه إلى الثمرة ولكن إلى القيمة ، فإن كانت القيمة الثلث وضع عنه ، قال ابن القاسم : بل ينظر إلى الثمرة على ما قدمنا عنهم ، وكان ابن القاسم أيضا يرى السرق جائحة وخالفه أصحابه والناس .

وقال ابن عبد الحكم ، عن مالك : من اشترى حوائط [ ص: 198 ] في صفقات مختلفة فأصيب منها ثلث حائط ، فإنها توضع عنه ، ولو اشتراها في صفقة واحدة ، فلا وضعية له ، إلا أن يكون ما أصابت الجائحة ثلث ثمر جميع الحوائط .

وقال مالك : في البقول كلها والبصل والجرز والكراث والفجل ، وما أشبه ذلك إذا اشتراه رجل فأصابته جائحة ، فإنه يوضع عن المشتري كل شيء أصابته به الجائحة ، قل أو كثر ، قال : وكل ما يبس فصار تمرا ، أو زبيبا وأمكن قطافه ، فلا جائحة فيه ، قال : والجراد والنار والبرد والمطر والطير الغالب والعفن وماء السماء المترادف المفسد والسموم وانقطاع ماء العيون كلها من الجوائح ، إلا الماء فيما يسقى ، فإنه يوضع قليل ذلك وكثيره ; لأن الماء من سبب ما يباع ، ولا جائحة في الثمر إذا يبس ، قال ابن عبد الحكم ، عن مالك : لا جائحة في ثمر عند جذاذه ، ولا في زرع عند حصاده ، قال : ومن اشترى زرعا قد استحصد ، فتلف ، فالمصيبة من المشتري ، وإن كان لم يحصده .

حدثني أحمد بن سعيد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : سمعت سحنونا ، قال في الذي يشتري الكرم ، وقد طاب فيؤخر قطافه إلى آخر السنة ليكون أكثر لثمنه فتصيبه جائحة : إنه لا جائحة فيه ، ولا يوضع ، عن المشتري فيه شيء . قال : وكذلك إذا طاب كله وتركه للغلاء في ثمنه . قال : وليس التين كذلك ; لأنه يطيب شيئا بعد شيء ، وما طاب شيئا بعد شيء وضع عنه .

قال أبو عمر : أجاز مالك رحمه الله وأصحابه بيع المقاثي إذا بدا صلاح أولها وبيع الباذنجان والياسمين والموز .

وأما أشبه ذلك استدلالا بإجازة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الثمار حين يبدو صلاحها ، ومعناه عند الجميع أن يطيب أولها ، أو يبدو صلاح بعضها ، وإذا جاز ذلك عند الجميع في الثمار كانت المقاثي وما أشبهها مما يخلق شيئا بعد شيء ويخرج بطنا بعد بطن ، كذلك قياسا ونظرا ; لأنه لما كان ما لم [ ص: 199 ] يبد صلاحه من الحائط ، ومن ثمر الشجر تبعا لما بدا صلاحه في البيع من ذلك ، كان كذلك بيع ما لم يخلق من المقاثي ، وما أشبهها تبعا لما خلق وطاب ، وقياسا أيضا على بيع منافع الدار وهي مخلوقة ، ولأن الضرورة تؤدي إلى إجازته ، وقول المزني في ذلك كقول مالك وأصحابه سواء .

وأما العراقيون والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وداود بن علي فإنهم لا يجيزون بيع المقاثي ، ولا بيع شيء مما يخرج بطنا بعد بطن بوجه من الوجوه ، والبيع عند جميعهم في ذلك مفسوخ ، إلا أن يقع البيع فيما ظهر وأحاط المبتاع برؤيته وطاب بعضه .

وحجتهم في ذلك نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يخلق ، ونهيه عن بيع ما ليس عندك ، ولأنها أعيان مقصودة بالشراء ليست مرئية ، ولا مستقرة في ذمة فأشبهت بيع السنين المنهي عنه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية