التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
303 [ ص: 4 ] حديث ثان وأربعون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء .


أكثر الرواة عن مالك في الموطأ لا يقولون في هذا الحديث : " والكبير " وقاله جماعة ، منهم يحيى وقتيبة ، وهكذا رواية أبي الزناد من حديث مالك وغيره ، لم يذكر في حديثه هذا " وذا الحاجة " وهو محفوظ من حديث أبي هريرة أيضا ، وأبي مسعود ، وعثمان بن أبي العاص .

، حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان أحدكم إماما فليخفف ، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة ، فإذا صلى أحدكم لنفسه فيطول ما شاء .

، وأكثر ما في هذا الحديث أمر الأئمة بالتخفيف وترك التطويل لعلل قد بانت في قوله : فإن فيهم الكبير ، والسقيم ، والضعيف ، وذا الحاجة ، والتخفيف لكل إمام أمر مجتمع عليه مندوب عند العلماء إليه ; إلا أن ذلك إنما هو أقل [ ص: 5 ] الكمال ، وأما الحذف والنقصان فلا ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن نقر الغراب ، ورأى رجلا يصلي ، ولم يتم ركوعه وسجوده فقال له : ارجع فصل فإنك لم تصل .

، وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا ينظر الله عز وجل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده ، وقال أنس : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف الناس صلاة في تمام .

حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أخف الناس صلاة في تمام .

، وروي هذا عن أنس من وجوه ، وقد رواه عبد الملك بن بديل ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، فهو غريب من حديث مالك غير محفوظ له ، وعبد الملك بن بديل شامي ليس بالمشهور بحمل العلم ، ولا ممن تعرف له جرحة يجب بها رد روايته ، والله أعلم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا الليث قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، أن جعفر بن عبد الله بن الحكم حدثه عن تميم بن محمود الليثي ، عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري أنه قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نقر الغراب وافتراش السبع .

[ ص: 6 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا يعلى قال : حدثني عبد الحكم ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اعتدلوا في الركوع ، والسجود ، ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب .

، وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب ، وعارم قالا : حدثنا مهدي بن ميمون قال : أخبرنا واصل الأحدب ، عن أبي وائل قال : رأى حذيفة رجلا يصلي لا يتم ركوعه ولا سجوده ، فلما انصرف دعاه فقال : مذ كم صليت هذه الصلاة ؟ قال : صليتها منذ كذا وكذا . فقال حذيفة : ما صليت . أو قال : ما صليت لله . وأحسبه قال : وإن مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا حفص بن عمر النمري قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي معمر ، عن أبي مسعود البدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود .

قال أبو عمر :

في حديث أبي هريرة ، ورفاعة بن رافع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم الأعرابي : ثم اركع فاعتدل قائما ، ثم اسجد فاعتدل ساجدا ، ثم اجلس فاطمئن جالسا ، ثم اسجد فاعتدل ، فإذا صليت صلاتك على هذا فقد أتممت صلاتك . وقد ذكرنا هذا الخبر في غير موضع من كتابنا ، والحمد لله . واختلف [ ص: 7 ] الفقهاء فيمن صار من الركوع إلى السجود ، ولم يرفع رأسه ، فروى ابن وهب ، عن مالك : أنه لا يجزئه قال : ويلغي تلك الركعة ، ولا يعتد بها من صلاته إن لم يرفع صلبه .

وروى ابن عبد الحكم عنه : إذا رفع رأسه من الركوع ، ثم أهوى ساجدا قبل أن يعتدل ، أنه يجزئه ، وقال ابن القاسم : ومن رفع رأسه من الركوع ، ولم يعتدل قائما حتى خر ساجدا ، فليستغفر الله ولا يعد ، فإن خر من الركوع إلى السجود ولم يرفع شيئا ، فلا يعتد بتلك الركعة ، وهو قول مالك .

قال ابن القاسم : ومن رفع رأسه من السجود فلم يعتدل جالسا حتى سجد أخرى ، فليستغفر الله ، ولا يعد ، ولا شيء عليه في صلاته .

قال ابن القاسم : وأحب إلي في الذي خر من الركعة ساجدا قبل أن يرفع رأسه أن يتمادى مع الإمام ، ثم يعيد الصلاة .

وقال عيسى بن دينار : إن فعل ذلك في الركعة الأولى قطع صلاته وابتدأها ، وإن فعل ذلك في الركعة الثانية جعلها نافلة وسلم ، وإن فعل ذلك في الركعة الثالثة أتم صلاته وجعلها نافلة ، ثم أعادها بتمام ركوعها وسجودها ، وهذا فيمن صلى وحده ، وأما من صلى مع الإمام وفعل مثل ذلك تمادى معه ، ثم أعادها .

قال أبو عمر :

لا معنى للفرق بين الركعة الأولى وغيرها في أثر ولا نظر ، وكذلك لا معنى لقول من صيرها نافلة ، والصواب إلغاء تلك الركعة على ما روى ابن وهب وغيره عن مالك ; لأن الاعتدال فرض كالركوع والسجود ; ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى [ ص: 8 ] تطمئن ساجدا ، ثم اجلس حتى تعتدل جالسا ، وقد ذكرنا هذا الخبر فيما سلف من هذا الكتاب .

، وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا تجزئ رجلا صلاته حتى يقيم فيها ظهره في ركوعه وسجوده .

وقال أبو حنيفة فيمن صار من الركوع إلى السجود ، ولم يرفع رأسه : إنه يجزئه ، وقال أبو يوسف : لا يجزئه ، وقال الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود ، والطبري : إذا لم يرفع رأسه من الركوع لم يعتد بتلك الركعة حتى يقوم فيعتدل صلبه قائما .

قال أبو عمر :

أحاديث هذا الباب تدل على صحة هذا القول ، وما روى فيه ابن وهب عن مالك هو الصواب وعليه العلماء ، ورواية ابن عبد الحكم قد روى مثلها ابن القاسم ، ولا أعلم أحدا تقدم إلى هذا القول غير أبي حنيفة ، والأحاديث المرفوعة في هذا الباب ترده ، وبالله التوفيق .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال : حدثنا خالد ، وهو ابن الحارث ، عن ابن أبي ذئب قال : أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن ، عن سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ، ويؤمنا بالصافات .

قال أبو عمر :

زاد بعضهم في هذا الحديث " في الصبح " وقد قيل : " في المغرب " ولا حد في إكمال الصلاة وتخفيفها أكثر من الاعتدال في الركوع [ ص: 9 ] والسجود والجلوس ، وأقل ما يجزئ من القراءة فاتحة الكتاب بقراءة تفهم حروفها .

قال ابن القاسم عن مالك في الركوع : إذا أمكن يديه من ركبتيه وإن لم يسبح فهو مجزئ عنه ، وكان لا يوقت تسبيحا .

، وقال الشافعي : أقل ما يجزئ من عمل الصلاة أن يحرم ، ويقرأ بأم القرآن إن أحسنها ، ويركع حتى يطمئن راكعا ، ويرفع حتى يعتدل قائما ، ويسجد حتى يطمئن ساجدا على الجبهة ، ثم يرفع حتى يعتدل جالسا ، ثم يسجد الأخرى كما وصفت ، ثم يقوم حتى يفعل ذلك في كل ركعة ، ويجلس في الرابعة ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام ، ويسلم تسليمة ، يقول : السلام عليكم . فإذا فعل ذلك أجزأته صلاته ، وقد ضيع حظ نفسه فيما ترك .

قال أبو عمر :

أما التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتسليم فيختلف في ذلك ، وقد ذكرناه فيما سلف من كتابنا هذا في مواضع منه ، والحمد لله .

قال أبو عمر :

لا أعلم بين أهل العلم خلافا في استحباب التخفيف لكل من أم قوما على ما شرطنا من الإتيان بأقل ما يجزئ ، والفريضة والنافلة عند جميعهم سواء في استحباب التخفيف فيما إذا صليت جماعة بإمام ، إلا ما جاء في صلاة الكسوف على سنتها على ما قد بينا من مذاهب العلماء في ذلك في باب زيد بن أسلم - والحمد لله .

روى مطرف بن الشخير ، عن عثمان بن أبي العاصي قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أؤم الناس وأن أقدرهم بأضعفهم ، فإن فيهم الكبير والسقيم [ ص: 10 ] والضعيف ، وذا الحاجة - ذكره الشافعي عن ابن عيينة ، عن محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي هند ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عثمان بن أبي العاصي ، وأحسن شيء روي عندي في تخفيف الصلاة ، والتجوز فيها من أجل الحاجة والحادث يعرض ، حديث أنس مع حديث أبي الزناد المذكور في هذا الباب :

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري قال : حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لأدخل الصلاة فأريد إطالتها ، فأسمع بكاء صبي فأتجوز ، لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه .

وحديث أبي قتادة ، حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا ابن شعيب قال : أخبرنا سويد بن نصر قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن الأوزاعي قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله ابن أبي قتادة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني لأقوم في الصلاة ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه . فإذا جاز التخفيف والتجوز في الصلاة لمثل ما في هذا الحديث ، فكذلك يجوز ويجب من أجل الضعيف والكبير وذي الحاجة ، فكيف وقد ورد فيه النص الثابت ، والحمد لله .

حدثنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا ابن الأعرابي قال : حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن أبي مسعود قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني لأتخلف عن صلاة الصبح [ ص: 11 ] مما يطول بنا فلان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن منكم منفرين ، فأيكم أم الناس فليخفف ، فإن فيهم الكبير والسقيم وذا الحاجة .

، وذكر البخاري ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن أبي مسعود مثله .

، وروى شعبة ، عن محارب بن دثار قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : أقبل رجل من الأنصار ، ومعه ناضحان له ، وقد جنحت الشمس ، ومعاذ يصلي المغرب ، فدخل معه في الصلاة فاستفتح معاذ البقرة أو النساء - محارب الذي يشك - فلما رأى ذلك الرجل صلى ، ثم خرج . قال : فبلغه أن معاذا نال منه . قال : فذكر ذلك للنبي عليه السلام فقال : أفتان يا معاذ ؟ أفتان يا معاذ ؟ هلا قرأت بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) ( والشمس وضحاها ) فإن وراءك الكبير وذا الحاجة والضعيف . ذكره أحمد بن حنبل ، وبندار ، جميعا عن غندر ، عن شعبة .

وحدثناه أحمد بن قاسم ، حدثنا ابن حبابة ، حدثنا البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا شعبة ، فذكره سواء .

وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا تبغضوا الله إلى عباده ، يطول أحدكم في صلاته على من خلفه . في كلام هذا معناه . قرأت على أحمد بن فتح أن عبد الله بن زكرياء النيسابوري حدثهم قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم ، حدثنا [ ص: 12 ] حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني زياد ، عن ابن عجلان قال : حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج قال : حدثني معمر بن أبي حبيبة ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده . فقال قائل منهم : وكيف ذلك ؟ قال : يكون الرجل إماما للناس يصلي بهم ، فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه ، أو يجلس قاصا فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية