التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
242 [ ص: 17 ] حديث رابع وأربعون لأبي الزناد

مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال : فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم ، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، وأشار رسول الله بيده يقللها .


هكذا يقول عامة رواة الموطأ في هذا الحديث ، وهو قائم يصلي ، إلا قتيبة بن سعيد ، وأبا مصعب ، فإنهما لم يقولا في روايتهما لهذا الحديث عن مالك : وهو قائم ، ولا قاله ابن أبي أويس في هذا الحديث عن مالك ، ولا قاله التنيسي ، وإنما قالوا : فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه ، وبعضهم يقول : أعطاه إياه ، والمعروف في حديث أبي الزناد هذا قوله : وهو قائم ، من رواية مالك وغيره .

وكذلك رواه ورقاء في نسخته ، عن أبي الزناد ، وكذلك رواه ابن سيرين عن أبي هريرة : أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : أخبرنا عبيد الله بن محمد بن أبي غالب قال : أخبرنا محمد بن بدر قال : أخبرنا رزق الله بن موسى قال : حدثنا [ ص: 18 ] ، ورقاء بن عمر ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم ، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه . قال : وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقبض أصابعه كأنه يقللها .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عمرو بن زرارة ، وحدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثني يعقوب بن إبراهيم قالا : أخبرنا إسماعيل ، عن أيوب ، عن محمد ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - : إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه . قلنا : ما يقللها ؟ قال : يزهدها . وغيره يقول : يصغرها ، كأنه يشير إلى ضيق وقتها .

وقد روى ابن جريج عن عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول : في الجمعة ساعة لا يسأل الله فيها المسلم شيئا وهو يصلي إلا أعطاه ، قال : ويقول أبو هريرة بيده يقللها . هكذا موقوفا .

في هذا الحديث دليل على فضل يوم الجمعة ، ودليل على أن بعضه أفضل من بعض ; لأن تلك الساعة أفضل من غيرها ، وإذا جاز أن يكون يوم أفضل من يوم ، جاز أن تكون ساعة أفضل من ساعة ، والفضائل لا تدرك بقياس ، وإنما فيها التسليم والتعلم والشكر .

وأما قوله فيه : وهو قائم يصلي ، فإنه يحتمل القيام المعروف ، ويحتمل أن يكون القيام ههنا المواظبة على الشيء لا الوقوف ، من قوله عز وجل ( ما دمت عليه قائما ) أي مواظبا بالاختلاف والاقتضاء ، وإلى هذا [ ص: 19 ] التأويل يذهب من قال : إن الساعة بعد العصر ; لأنه ليس بوقت صلاة ، ولكنه وقت مواظبة في انتظارها ، ومن هذا قول الأعشى :

يقوم على الوغم في قومه ويعفو إذا شاء أو ينتقم

لم يرد بقوله هاهنا يوم الوقوف من غير شيء ، ولكنه أراد المطالبة بالوغم حتى يدركه بالمواظبة عليه .

وأما الساعة المذكورة في يوم الجمعة فاختلف فيها ، فقال قوم : رفعت . وهذا عندنا غير صحيح .

حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال : أخبرنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا عبيد بن محمد الوراق قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني داود بن أبي عاصم ، عن عبد الله بن أنيس ، عن مولى معاوية قال : قلت لأبي هريرة : زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة التي لا يدعو فيها المسلم إلا استجيب له قد رفعت ، قال : كذب من قال ذلك . قلت : فهي في كل جمعة أستقبلها ؟ قال : نعم . هكذا قال عبد الله بن أنيس .

وذكر سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني داود بن أبي عاصم ، عن عبد الله بن أنيس مولى معاوية قال : قلت لأبي هريرة : زعموا أن الساعة . . . فذكر مثله سواء .

قال أبو عمر :

على هذا القول جماعة العلماء ; إلا أنها اختلفت فيها الآثار ، وعلماء [ ص: 20 ] الأمصار ، فذهب عبد الله بن سلام إلى أنها بعد العصر إلى غروب الشمس ، وتابعه على ذلك قوم .

ومن حجة من ذهب إلى ذلك : ما حدثناه عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن الجلاح مولى عبد العزيز بن مروان ، حدثه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يوم الجمعة ثنتا عشر - يريد ثنتا عشرة ساعة - فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئا إلا أتاه ، قال : فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر .

قال أبو عمر :

يقال : إن قوله في هذا الحديث : فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر . من قول أبي سلمة ، وأبو سلمة هو الذي روى حديث أبي هريرة وقصته مع كعب وعبد الله بن سلام في الساعة التي في يوم الجمعة ، وسيأتي حديثه ذلك في باب يزيد بن الهادي من كتابنا هذا إن شاء الله .

وقال آخرون : الساعة المذكورة في يوم الجمعة هي ساعة الصلاة ، وحينها من الإقامة إلى السلام ، واحتجوا بما حدثناه سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا خالد بن مخلد .

وحدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا زياد بن أيوب قال : حدثنا أبو عامر ، قالا : حدثنا كثير بن [ ص: 21 ] عبد الله ، عن أبيه ، عن جده قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن في الجمعة ساعة من النهار لا يسأل العبد فيها شيئا إلا أعطي سؤله ، قيل : أي ساعة هي ؟ قال : حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها .

قال أبو عمر :

كثير بن عبد الله هذا هو كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، ضعيف منسوب إلى الكذب ، لا يحتج به ولا بمثله .

وقال آخرون : الساعة المذكورة في يوم الجمعة من حين يفتتح الإمام الخطبة إلى فراغ الصلاة .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، ويعيش بن سعيد ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن غالب التمتام ، قال : حدثنا موسى بن مسعود النهدي أبو حذيفة ، قال : حدثنا أبو ذر محمد بن غنيم ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن في الجمعة لساعة ، لا يسأل العبد فيها ربه شيئا إلا أعطاه إياه . قيل : يا رسول الله أي ساعة هي ؟ قال : من حين يقوم الإمام في خطبته إلى أن يفرغ من خطبته ، هكذا في الحديث : إلى أن يفرغ من خطبته ، والمحفوظ : إلى أن يفرغ من صلاته .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال : قال لي عبد الله بن عمر : أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة ؟ قال : قلت : نعم سمعته يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة .

[ ص: 22 ] وحدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ، حدثنا عبيد بن محمد الوراق ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا عوف ، عن معاوية بن قرة ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، أنه قال لعبد الله بن عمر : هي الساعة التي يخرج فيها الإمام إلى أن تقضى الصلاة ، فقال ابن عمر : أصاب الله بك .

قال : وحدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن واصل بن حبان ، عن أبي بردة قال : قلت لأبي : إني لأعلم أي ساعة هي ، فقال : وما يدريك ؟ فقلت : هي الساعة التي يخرج فيها الإمام ، وهي أفضل الساعات ، فقال : بارك الله عليك ، قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن إسماعيل ، وسالم عن الشعبي أنه كان يقول في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة : هي ما بين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة .

قال : وحدثنا يعقوب ، حدثنا إسماعيل بن علية ، حدثنا ابن عون ، عن محمد ، قال : هي الساعة التي كان يصلي فيها النبي عليه السلام .

قال : وحدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا حصين ، عن الشعبي ، عن عوف بن حضيرة قال : الساعة التي ترجى في الجمعة من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام .

قال : وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة قال : الساعة التي في الجمعة عند نزول الإمام على المنبر .

[ ص: 23 ] قال أبو عمر :

يشهد لهذه الأقاويل ما جاء في الحديث الثابت قوله : وأشار بيده يقللها ويصغرها ، ويحتج أيضا من ذهب إلى ذلك بحديث أبي الجلد ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي عليه السلام أنه قال : إذا زالت الشمس ، وفاءت الأفياء ، وراحت الأرواح ، فاطلبوا إلى الله حوائجكم ، فإنها ساعة الأوابين ، ثم تلا ( فإنه كان للأوابين غفورا ) .

وروى موسى بن معاوية ، عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، عن حيوة بن شريح ، عن بكر بن عمرو عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن عبد الرحمن بن حجيرة ، عن أبي ذر الغفاري : أن امرأته سألته عن الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة للعبد المؤمن ، فقال : إنها بعد زيغ الشمس بيسير إلى ذراع ، فإن سألتني بعدها فأنت طالق .

وذكر سنيد عن وكيع ، عن محمد بن قيس قال : تذاكرنا عند الشعبي الساعة التي ترجى في الجمعة ، قال : هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل .

قال : وحدثنا معتمر قال : قلت لابن عون : ما كان رأي ابن سيرين في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة ، قال : قلت لابن سيرين : أي ساعة هي عندك ؟ قال : أكثر ظني أنها الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : هي من صلاة العصر إلى غروب الشمس .

حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ، حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، وعن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الساعة التي تذكر يوم الجمعة ما بين صلاة [ ص: 24 ] العصر إلى غروب الشمس ، وكان سعيد إذا صلى العصر لم يكلم أحدا إلى غروب الشمس .

قال أبو عمر :

أما من قال : إنها بعد العصر ، ومن قال : إنها آخر ساعة من يوم الجمعة ، فقد ذكرنا القائلين بذلك في باب يزيد بن الهادي في قصة عبد الله بن سلام مع أبي هريرة ، وكعب ، والله عز وجل أعلم بالساعة أي الساعات هي ; لأن أخبار الآحاد لا يقطع على معانيها ، والذي ينبغي لكل مسلم الاجتهاد في الدعاء للدين والدنيا في الوقتين المذكورين رجاء الإجابة ، فإنه لا يخيب إن شاء الله ، ولقد أحسن عبيد بن الأبرص حيث قال :


من يسأل الناس يحرموه     وسائل الله لا يخيب

وقد احتج بعض من خالف مذهب عبد الله بن سلام في هذا الباب بقوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة في هذا الباب : وهو قائم يصلي . قالوا : فقوله : قائم يصلي . يدفع قول من قال : إنها آخر ساعة من النهار بعد العصر ; لأنها ليست ساعة يجوز للعبد المسلم فيها أن يقوم فيصلي ، وقد ينفصل من هذا الإدخال بوجهين : أحدهما أن أبا هريرة سلم لابن سلام تأويله ولم يعترض عليه بقوله : قائم ، فإن كان صحيحا فمعناه على ما قال بعض أهل اللغة : إن " قائما " قد يكون بمعنى " مقيم " قالوا : ومن ذلك قول الله عز وجل ( ما دمت عليه قائما ) يعني مقيما ، والوجه الآخر أنه لو كان عنده صحيحا في اللفظ والمعنى لعارض به ابن سلام ، والله أعلم . وستأتي قصة ابن سلام مع أبي هريرة في باب يزيد بن الهادي من هذا الكتاب إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية