التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
232 [ ص: 29 ] حديث سابع وأربعون لأبي الزناد

مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب ، فقد لغوت .


هكذا روى يحيى هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد ، وكذلك هو في الموطأ عند جمهور الرواة .

ورواه جماعة من رواة الموطأ : إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت .

وبعضهم يقول فيه : يريد بذلك والإمام يخطب ، وعند مالك في هذا الحديث إسنادان أحدهما هذا عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، والثاني عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا قلت أنصت ، والإمام يخطب ، فقد لغوت .

ولم يرو يحيى في هذا الحديث عن مالك غير إسناد أبي الزناد ، وجمعهما القعنبي وغيره عن مالك .

ذكر القعنبي حديث أبي الزناد في كتاب الصلاة ، وذكر حديث الزهري في الزيادات ، وقد رواهما ابن القاسم وابن وهب وغيرهما ، عن مالك جميعا كما ذكرت لك .

[ ص: 30 ] وروى الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، وعن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب يوم الجمعة ، فقد لغوت .

وقال ابن عجلان في هذا الحديث ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : إذا قلت لصاحبك أنصت - والإمام يخطب يوم الجمعة - فقد لغوت ، عليك بنفسك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، قال : حدثني محمد بن عجلان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة فقد لغوت ، عليك بنفسك .

وأخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ، عن مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال النبي عليه السلام : من قال والإمام يخطب أنصت فقد لغا .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت ، فقد لغا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، قال : حدثني أبي ، عن [ ص: 31 ] جدي قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ ، وعن ابن المسيب أنهما حدثاه أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب يوم الجمعة ، فقد لغوت .

ورواه ابن جريج عن ابن شهاب كما رواه الليث . ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : حدثني ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا قلت لصاحبك أنصت ، والإمام يخطب يوم الجمعة ، فقد لغوت .

قال ابن شهاب : وحدثني عمر بن عبد العزيز ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

ورواه معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قلت للناس أنصتوا ، يوم الجمعة وهم ينطقون والإمام يخطب ، فقد لغوت .

قال أبو عمر :

أما قوله " فقد لغوت " فإنه يريد : فقد جئت بالباطل ، وجئت بغير الحق ، واللغو : الباطل .

[ ص: 32 ] قال قتادة في قول الله عز وجل ( لا يشهدون الزور ) قال : الكذب ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) قال : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ، ولا يمالئونهم عليه .

وقال أبو عبيدة : اللغو : كل شيء من الكلام ليس بحسن ، والفحش أشد من اللغو ، واللغو والهجر في القول سواء ، واللغو واللغا لغتان ، يقال من اللغا : لغيت تلغى ، مثل لقيت تلقى ، وهو التكلم بما لا ينبغي وبما لا نفع فيه .

وقال الأخفش : اللغو : الكلام الذي لا أصل له من الباطل وشبهه .

قال العجاج : عن اللغا ورفث التكلم قال أبو عمر :

لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها في الجمعة ، وأنه غير جائز أن يقول الرجل لمن سمعه من الجهال يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة : أنصت ، أو : صه ، أو نحو ذلك ؛ أخذا بهذا الحديث واستعمالا له وتقبلا لما فيه .

وقد روي عن الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، وأبي بردة أنهم كانوا يتكلمون في الخطبة ، إلا حين قراءة الإمام القرآن في الخطبة خاصة ، كلهم ذهبوا ألا إنصات إلا للقرآن لقوله ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) وفعلهم ذلك مردود عند أهل العلم بالسنة الثابتة المذكورة في هذا الباب ، وأحسن أحوالهم أن يقال : إنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك ، [ ص: 33 ] لأنه حديث انفرد به أهل المدينة ، ولا علم لمتقدمي أهل العراق به ، والحجة في السنة لا فيما خالفها ، وبالله التوفيق .

واختلف العلماء في وجوب الإنصات على من شهد الخطبة إذا لم يسمعها لبعده عن الإمام ، فذهب مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي إلى أن الكلام لا يجوز لكل من شهد الخطبة سمع أو لم يسمع ، وكان عثمان بن عفان يقول في خطبته : استمعوا وأنصتوا ، فإن للمستمع الذي لا يسمع من الأجر مثل ما للمستمع السامع .

وعن ابن عمر ، وابن عباس أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ، ولا مخالف لهؤلاء من الصحابة ، فسقط قول الشافعي ومن قال بقوله في هذا الباب ، وكان عروة بن الزبير لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة يوم الجمعة .

وقال أحمد بن حنبل : لا بأس أن يقرأ ويذكر الله من لا يسمع الخطبة .

وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : إني لأقرأ جزئي إذا لم أسمع الخطبة يوم الجمعة .

قال أبو عمر :

هذا يدل على أنه لو سمع الخطبة لم يقرأ ، وهذا أصح عنه من الذي تقدم ، وإذا لم يقرأ فأحرى أن لا يتكلم .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن عطاء قال : يحرم الكلام ما كان الإمام على المنبر ، وإن كان قد ذهب في غير ذكر الله ، قيل لعطاء : أيذكر [ ص: 34 ] الإنسان الله - والإمام يخطب يوم عرفة أو يوم الفطر ، وهو يعقل قول الإمام ؟ قال : لا كل ذلك عيد ، فلا يتكلمن ; إلا أن يذهب الإمام في غير ذكر الله . قال : قال عطاء : إذا استقى الإمام فادع ، هو يأمرك حينئذ به ، عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أسبح وأهلل يوم الجمعة ، وأنا أعقل الخطبة قال : لا إلا الشيء اليسير ، واجعله بينك وبين نفسك . قال : قلت لعطاء : فإذا كنت لا أسمع الإمام أسبح وأهلل وأدعو الله لنفسي ولأهلي وأسميهم بأسمائهم واسمي ؟ قال : نعم .

عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قلت لعمرو بن دينار أواجب الإنصات يوم الجمعة ، والإمام يخطب ؟ قال : كذلك زعموا .

عبد الرزاق ، عن معمر قال : سئل الزهري عن التسبيح والتكبير ، والإمام يخطب قال : كان يؤمر بالصمت قال : قلت : ذهب الإمام في غير ذكر الله في الجمعة قال : تكلم إن شئت . قال معمر ، وقال قتادة : إن أحدثوا فلا تحدث .

[ ص: 35 ] عبد الرزاق عن محمد بن مسلم ، عن إبراهيم بن ميسرة قال : سمعت طاوسا يقول : إذا كان يوم الجمعة ، والإمام على المنبر ، فلا يدعو أحد بشيء ، ولا يذكر إلا أن يذكر الإمام .

وذكر الحسن بن علي الحلواني قال : حدثنا ابن أبي مريم قال : شهدت الليث بن سعد ، وموسى بن مصعب يخطبهم يوم الجمعة فقال : في خطبته ( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ) فسمعت الليث يقول : اللهم لا تمقتنا .

وذكر الزبير بن أبي بكر القاضي قال : أخبرنا مصعب بن عثمان ، عن مشيخته أن عبد الله بن عروة بن الزبير كان يشهد الجمعة فيخرج خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاصي فيخطب ، فيستقبله عبد الله بن عروة ، وينصت له فإذا شتم خالد عليا تكلم عبد الله بن عروة ، وأقبل على أدنى إنسان إلى جنبه فيقال له : إن الإمام يخطب ، فيقول : إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا .

قال أبو عمر :

الذي عليه جماعة الفقهاء أن لا يدعو أحد ولا يذكر الله غير الإمام في خطبته ، وأما المستمع فلا ينطق بشيء ، وإنما عليه الإنصات والاستماع ، وقد روي عن عطاء الخراساني وعكرمة أنهما قالا : من قال والإمام يخطب صه فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أسود بن عامر قال : [ ص: 36 ] ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم جمعة فذكر سورة فقال أبو ذر لأبي بن كعب : متى نزلت هذه السورة ؟ فأعرض عنه ، فلما انصرف قال له : ما لك من صلاتك إلا ما لغوت ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : صدق .

وقد روي من مرسلات الحسن أن هذه القصة عرضت لابن مسعود أو لأبي مسعود مع أبي ، وأن النبي عليه السلام قال : صدق أبي ، والصحيح أن هذه القصة عرضت لأبي ذر مع أبي على ما في هذا الحديث المسند المتصل .

وأما قوله : ما لك من جمعتك إلا ما لغوت ، وقول من قال : لا جمعة له ، فهذا محمله عندنا على أنه ليس له ثواب من صلى الجمعة وأنصت ، لا أنه أفسد الكلام صلاته وأبطلها ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : تحريمها التكبير يدل على أن ما قبل التكبير لا يفسدها ، والله أعلم .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا سليمان بن الأشعث قال : حدثنا مسدد ، وأبو كامل قالا : حدثنا يزيد بن حبيب ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو عن النبي عليه السلام قال : يحضر الجمعة ثلاثة نفر ، فرجل حضرها يلغو ، وهو حظه منها ، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله ، فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ، ولم يتخط رقبة مسلم ، ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها ، وثلاثة أيام .

[ ص: 37 ] قال أبو عمر :

ففي هذا الحديث قوله : فرجل حضرها يلغو فهو حظه منها ، ولم يأمره بالإعادة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا سعيد بن سليمان قال : حدثنا ابن نمير قال : ( أخبرنا ) مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، وهذا مثله أيضا لم يأمره بإعادة .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : هل تعلم من شيء يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلي أربعا من كلام أو تخطي رقاب الناس أو غير ذلك ؟ قال : لا . وعن ابن جريج عن عطاء قال : يقال : من تكلم فكلامه حظه من الجمعة ، يقول : من أجل الجمعة ، فأما أن يوفي أربعا فلا .

قال أبو عمر :

على هذا جماعة الفقهاء من أهل الرأي والأثر ، وجماعة أهل النظر لا يختلفون في ذلك ، وحسبك بهذا أصلا وإجماعا .

واختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس في الخطبة ، فقال مالك وأصحابه : لا يشمت العاطس ولا يرد السلام ; إلا إن رده إشارة كما يرد في الصلاة .

[ ص: 38 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يرد السلام ، ولا يشمت العاطس .

وقال الثوري ، والأوزاعي : لا بأس برد السلام وتشميت العاطس ، والإمام يخطب ، وهو قول الحسن البصري ، والنخعي ، والشعبي ، والحكم ، وحماد ، والزهري ، وبه قال إسحاق ، واختلف قول الشافعي في ذلك فقال في الكتاب القديم بالعراق : يستقبلون الإمام بوجوههم وينصتون ، ولا يشمتوا عاطسا ، ولا يردوا سلاما إلا بالإشارة ، وقال في الجديد : ولو سلم رجل كرهته له ، ورأيت أن يرد عليه بعضهم ; لأن رد السلام فرض . قال : ولو عطس رجل ، والإمام يخطب في الجمعة ، فشمته رجل ، رجوت أن يسعه ; لأن التشميت سنة ، واختاره المزني ، وحكى البويطي عنه أنه لا بأس برد السلام وتشميت العاطس ، والإمام يخطب في الجمعة وغيرها ، وكذلك حكى إسحاق بن منصور ، عن أحمد ، وإسحاق ، وروي عن أحمد أيضا إذا لم يسمع الخطبة شمت ورد .

وروي مثل ذلك عن عطاء ، وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : هل يرد السلام يوم الجمعة والإمام يخطب ؟ قال : نعم . قيل له : ويشمت العاطس ؟ قال : نعم .

وقال أبو جعفر الطحاوي : لما كان مأمورا بالإنصات كالصلاة لم يشمت ، كما لا يشمت في الصلاة ، فإن قيل : رد السلام فرض والصمت سنة ، قال أبو جعفر : الصمت فرض لأن الخطبة فرض ، وإنما تصح بالخاطب والمخطوب ، يفعلها الخاطب فرضا كذلك المستمع فرض عليه ذلك .

قال أبو عمر :

في هذا نظر ، والصمت واجب بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية