التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
382 [ ص: 39 ] حديث ثامن وأربعون لأبي الزناد

مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث ، اللهم اغفر له اللهم ارحمه


قال مالك : لا أرى قوله : ما لم يحدث . إلا الإحداث الذي ينقض الوضوء .

قال أبو عمر :

أما قوله : الملائكة تصلي على أحدكم ، فمعناه تترحم على أحدكم وتدعو له بالرحمة والمغفرة ، وهذا بين في نفس هذا الحديث قوله : اللهم اغفر له اللهم ارحمه ، وأما قوله : في مصلاه الذي صلى فيه ، فإنه أراد الصلاة المعروفة ، وموضعها الذي تفعل فيه هو المصلى ، وهو المسجد مسجد الجماعة ; لأن فيه يحصل في الأغلب انتظار الصلاة ، ولو قعدت المرأة في بطن بيتها ، أو من لا يقدر على شهودها في المسجد ، لكان كذلك إن شاء الله .

ذكر الفريابي ، حدثنا حكيم بن زريق الأيلي قال : سمعت أبي يسأل سعيد بن المسيب ، وأنا معه قال : يا أبا محمد إنا أهل قرية لا نكاد أن نقبر موتانا إلا بالعشي ، فإذا خرجت الجنازة لم يتخلف عنها إلا من لا يستطيع حضورها ، فكيف ترى ؟ اتباع الجنازة أحب إليك أم القعود في [ ص: 40 ] المسجد ؟ فقال سعيد : من صلى على جنازة فله قيراط ، ومن تبعها حتى تقبر فله قيراطان ، والتخلف في المسجد ( أحب فإني ) أذكر الله وأهلل وأسبح وأستغفر ، فإن الملائكة تقول : اللهم اغفر له اللهم ارحمه ، فإذا فعلت تقول الملائكة : اللهم اغفر لسعيد بن المسيب . قال : وحدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد قال : الصلاة على الجنائز أفضل من صلاة التطوع .

قال أبو عمر :

هذا أصح في النظر ; لأن الفروض التي على الكفاية أفضل من النوافل ، وقد بان في حديث سعيد هذا أن الصلاة المذكورة في هذا الحديث الدعاء ، وللصلاة في كلام العرب وجوه ; قال أبو بكر بن الأنباري : والصلاة تنقسم في كلام العرب على ثلاثة أقسام : تكون الصلاة المعروفة التي فيها الركوع والسجود ، كما قال عز وجل ( فصل لربك وانحر ) .

قال أبو عمر :

أنشد نفطويه في هذا المعنى قول الأعشى ، وهو جاهلي :


نراوح من صلوات المليـ ـك طورا سجودا وطورا حوارا

الحوار ههنا : الرجوع إلى القيام والقعود ، ومن هذا قولهم : البكرة تدور على المحور ، ومن هذا قول النابغة الذبياني :


أو درة صدفية غواصها     بهج متى يرها يهل ويسجد

[ ص: 41 ] قال الأنباري : وتكون الصلاة الترحم ، من ذلك قول الله عز وجل ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) ومن ذلك قول كعب بن مالك :


صلى الإله عليهم من فتية     وسقى عظامهم الغمام المسبل

وقال آخر :

صلى على يحيى وأشياعه     رب كريم وشفيع مطاع

ومنه الحديث الذي يروى عن ابن أبي أوفى أنه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقتنا فقال اللهم صل على آل أبي أوفى . يريد : اللهم ترحم عليهم .

وتكون الصلاة الدعاء ، من ذلك الصلاة على الميت ، معناها الدعاء ; لأنه لا ركوع فيها ولا سجود ، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل ، وإن كان صائما فليصل . معناه : فليدع بالبركة ، ومنه قوله أيضا : الصائم إذا أكل عنده صلت عليه الملائكة . معناه : دعت له ، ومنه قول الأعشى :


لها حارس لا يبرح الدهر بيتها     وإن ذبحت صلى عليها وزمزما

وللأعشى :


تقول بنتي وقد قربت مرتحلا     يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك     مثل الذي صليت فاغتمضي
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

[ ص: 42 ] يريد : عليك مثل الذي دعوت ، ويروى : فاغتمضي عينا .

ومن هذا عند جماعة العلماء قول الله عز وجل ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قالوا : أنزلت في الدعاء والمسألة ، هذا قول مكحول وأبي عياض .

وذكر مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : أنزلت هذه الآية ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) في الدعاء . هكذا رواه مالك ( عن هشام عن أبيه قوله . ورواه الثوري ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، وأبو معاوية ) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة .

ورواه معمر عن هشام عن أبيه كما رواه مالك ، وممن قال : إن هذه الآية نزلت في الدعاء مجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء ، وعبد الله بن سداد ، وفي الآية قول ثان قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : نزلت في القراءة ، قالوا : كان النبي عليه السلام يجهر بالقراءة في صلاته بمكة فكان ذلك يعجب المسلمين ويسوء الكفار ، فهموا بأذاه ، وسبوا القرآن ومن أنزله ، وقالوا : يؤذينا ، فأنزل الله عز وجل ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) الآية .

قال ابن مسعود : ما خافت من أسمع نفسه .

وروي عن قتادة ، وسعيد بن جبير القولان جميعا .

وقال الحسن : معنى الآية لا تسئ صلاتك في السر وتحسنها في العلانية ، ولتكن سريرتك موافقة لعلانيتك .

وعن الحسن أيضا قال : لا تصلها رياء ، ولا تدعها حياء .

[ ص: 43 ] وروى سفيان عن زبيد قال : إذا كانت سريرة العبد أفضل من علانيته فذلك أفضل ، وإن كانت سريرته وعلانيته سواء فذلك النصف ، وإن كانت علانية عند الله أفضل ، فذلك الحور .

وقال ابن سيرين : نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر ، وكان عمر إذا قرأ رفع صوته ، وقال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوسنان ، وكان أبو بكر يخفض صوته ، فأمر أبو بكر أن يرفع صوته قليلا ، وأمر عمر أن يخفض صوته قليلا ، ونزلت ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) روي هذا عن ابن سيرين من وجوه صحاح ، وأصح شيء في معنى هذه الآية قول من قال : إنها نزلت في الدعاء ، والله أعلم .

ذكر ابن أبي شيبة قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قال : كان الرجل إذا دعا في الصلاة رفع صوته فنزلت هذه الآية ، وكل من روي عنه أنها نزلت في القراءة فقد روي عنه أنها نزلت في الدعاء .

قال أبو عمر :

هذا الحديث من أفضل ما يروى في فضل المنتظر للصلاة ; لأن الملائكة تستغفر له ، وفي استغفارها له دليل على أنه يغفر له إن شاء الله ، ألا ترى أن طلب العلم من أفضل الأعمال ، وإنما صار كذلك - والله أعلم - لأن الملائكة تضع أجنحتها له بالدعاء والاستغفار ، وأما قول مالك وتفسيره " ما لم يحدث " بأنه الحدث الذي ينقض الوضوء ، فقد خالفه فيه غيره ، وقال : هو الكلام القبيح والخوض فيما لا يصلح من [ ص: 44 ] اللهو ، والذي قاله مالك هو الصواب إن شاء الله ; لأن كل من أحدث وقعد في المسجد فليس بمنتظر للصلاة ; لأنه إنما ينتظرها من كان على وضوء ، وغير نكير أن تترحم الملائكة على كل منتظر للصلاة وتدعو له بالمغفرة والرحمة والتوفيق والهداية لفضل انتظاره للصلاة إذا لم يحبسه غيرها على ما ذكرنا إذا كان منتظرا للصلاة ، لا يمنعه أن ينصرف إلى أهله إلا الصلاة ، وهذا أولى بأن تدعو له الملائكة بالمغفرة والرحمة ، فرحمته وسعت كل شيء لا شريك له ، وقول مالك يدل على أن كل من لم يحدث حدثا ينقض الوضوء داخل في معنى هذا الحديث ، وإن خاض في بعض ما يخاض فيه من أخبار الدنيا - والله أعلم - إذا كان أصل عقده انتظار الصلاة بعد الصلاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية