التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
426 [ ص: 45 ] حديث تاسع وأربعون لأبي الزناد

مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب مكان كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد ، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقدة ، وأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان .


هذا كما قال - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم كيف يعقد الشيطان رأس ابن آدم ؟ قيل : إنها كعقد السحر من قول الله ( النفاثات في العقد ) وهذا لا يقف على حقيقته أحد ، والقافية مؤخر الرأس ، وهو القذال ، وقافية كل شيء آخره ، ومنه قيل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - : المقفى لأنه آخر الأنبياء ، ومن هذا أخذت قوافي الشعر لأنها أواخر الأبيات ، والمعنى عندي - والله أعلم - في هذا الحديث : أن الشيطان ينوم المرء ، ويزيده ثقلا وكسلا بسعيه وما أعطي من الوسوسة والقدرة على الإغواء والتضليل وتزيين الباطل والعون عليه ، إلا عباد الله المخلصين .

وفي هذا الحديث دليل على أن ذكر الله يطرد به الشيطان ، وكذلك الوضوء والصلاة ، ويحتمل أن يكون الذكر الوضوء والصلاة لما فيهما [ ص: 46 ] ( من ) معنى االذكر ، فخص بهذا الفضل في طرد الشيطان ، ويحتمل أن يكون كذلك سائر أعمال البر ، والله أعلم . فمن قام من الليل يصلي انحلت عقده ، فإن لم يفعل أصبح على ما قال - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه تنحل عقده بالوضوء للفريضة وصلاتها ، والله أعلم . وأما طرد الشيطان بالتلاوة والذكر والأذان ، فمجتمع عليه مشهور في الآثار .

حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا المغيرة بن مسلم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دخل الرجل بيته أو آوى إلى فراشه ، ابتدره ملك وشيطان ، فيقول الملك : افتح بخير ، ويقول الشيطان : افتح بشر ; فإن هو قال : الحمد لله الذي رد إلي نفسي بعد موتها ، ولم يمتها في منامها الحمد لله الذي ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) إلى آخر الآية ، فإن هو خر في فراشه فمات كان شهيدا ، ورواه حماد بن سلمة ، عن حجاج الصواف ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي عليه السلام مثله ; إلا أنه قال في آخره : فإن وقع من سريره فمات دخل الجنة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح ، وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قالا : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم قال : حدثنا الوليد قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثني عمير بن هانئ قال : حدثني جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من تعار من الليل فقال حين يستيقظ : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له [ ص: 47 ] الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله والحمد لله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم دعا : رب اغفر لي - غفر له . قال الوليد : أو قال : دعا استجيب له ، وإن قام فصلى قبلت صلاته .

وثبت عن النبي عليه السلام من وجوه أنه كان يقوم من الليل فيذكر الله بأنواع من الذكر ، ثم يتوضأ ويصلي .

وفي هذا الحديث حض على قيام الليل ; لأن فيه أنه يصبح طيب النفس نشيطا بعد ذكر الوضوء والصلاة ، وقد زعم قوم أن في هذا الحديث ما يعارض قوله عليه السلام : لا يقولن أحدكم خبثت نفسي . لقوله في هذا الحديث : وإلا أصبح خبيث النفس . وليس ذلك عندي كذلك ; لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهية لتلك اللفظة ، وتشاؤما لها إذا أضافها الإنسان إلى نفسه ، والحديث الثاني إنما هو خبر عن حال من لم يذكر الله في ليله ، ولا توضأ ولا صلى ، فأصبح خبيث النفس ذما لفعله ، وعيبا له ، ولكل واحد من الخبرين وجه ، فلا معنى أن يجعلا متعارضين ; لأن من شأن أهل العلم أن لا يجعلوا شيئا من القرآن ولا من السنن معارضا لشيء منها ، ما وجدوا إلى استعمالها وتخريج الوجوه لها سبيلا .

والحديث حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو مسلم الكشي قال : حدثنا حجاج بن نمير قال : حدثنا هشام ابن أبي عبد الله ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ، ولكن ليقل : لقست نفسي .

[ ص: 48 ] وحدثناه محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قالا أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ، ولكن ليقل : لقست نفسي .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : أخبرنا حمزة بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا محمد بن هشام قال : أخبرنا عمر بن علي ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ، ولكن ليقل : لقست نفسي .

هكذا رواه سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، ورواه يونس بن يزيد ، وإسحاق بن راشد ، عن الزهري ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء .

ورواه ابن عيينة ، عن الزهري ، عن أبي أمامة ، عن النبي عليه السلام مرسلا .

قال الخليل : لقست نفسه : إذا نازعته إلى الشيء ، وتلاقسوا : سب بعضهم بعضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية