التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1020 [ ص: 215 ] حديث خامس لحميد الطويل ، عن أنس متصل صحيح

مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر أتاها ليلا ، وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر حتى يصبح ، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوه ، قالوا : محمد والله محمد والخميس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين


في هذا الحديث إباحة المشي بالليل ، فإذا كان ذلك كذلك جاز الاستخدام بالمماليك والأحرار إذا اشترط ذلك عليهم وكانت ضرورة ، وفيه إتعاب الدواب بالليل عند الحاجة إلى ذلك ما لم يكن سرمدا ; لأن العلم محيط أنهم لم يخلوا من مملوك يخدمهم وأجير ، ونحو ذلك ، وفيه أن الغارة على العدو ، إنما ينبغي أن تكون في وجه الصباح لما في ذلك من التبيين والنجاح في البكور ، وفيه أن من بلغته الدعوة من الكفار لم يلزم دعاؤه ، وجازت الغارة عليه ، وطلب غفلته وغرته ، وقد اختلف العلماء في دعاء العدو قبل القتال إذا كانوا قد بلغتهم الدعوة ، فكان مالك رحمه الله ، يقول : الدعوة أصوب بلغهم ذلك ، أو لم يبلغهم ، إلا أن يعجلوا المسلمين أن يدعوهم .

وقال عنه ابن القاسم : لا يبيتوا حتى يدعوا ، وذكر الربيع ، عن الشافعي في كتاب البويطي مثل ذلك : لا يقاتل العدو حتى يدعوا ، إلا أن يعجلوا عن ذلك ، فإن لم يفعل فقد بلغتهم الدعوة .

وحكى المزني ، عن الشافعي : من لم تبلغهم الدعوة لم يقاتلوا حتى تبلغهم الدعوة ، يدعون إلى الإيمان ، قال : وإن قتل منهم أحد قبل ذلك فعلى قاتله [ ص: 216 ] الدية .

وقال المزني ، عنه أيضا في موضع آخر : من بلغتهم الدعوة ، فلا بأس أن يغار عليهم بلا دعوة .

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن دعوهم قبل القتال فحسن ، ولا بأس أن يغيروا عليهم .

وقال الحسن بن صالح بن حي : يعجبني كل ما حدث إمام بعد إمام أحدث دعوة لأهل الشرك .

قال أبو عمر : هذا قول حسن والدعاء قبل القتال على كل حال حسن ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر سراياه بذلك ، وكان يدعو كل من يقاتله مع اشتهار كلمته ودينه في جزيرة العرب وعلمهم بمنابذته إياهم ومحاربته لمن خالفه ، وما أظنه أغار على خيبر ، وعلى بني المصطلق إلا بأثر دعوته لهم في فور ذلك ، أو قريب منه مع يأسه عن إجابتهم إياه ، وكذلك كان تبييته وتبييت جيوشه لمن بيتوا من المشركين على هذا الوجه ، والله أعلم .

وفي التبييت حديث الصعب بن جثامة وحديث سلمة بن الأكوع ، قال : أمر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فغزونا ناسا فبيتناهم وقتلناهم ، قال : وكان شعارنا في تلك الليلة أمت أمت ، قال سلمة : فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أبيات من المشركين .

قال أبو عمر : هذا - والله أعلم - ومثله لقوم أظهروا العناد والأذى للمسلمين ويئس من إنابتهم وخيرهم ، والله أعلم .

أخبرنا أبو محمد عبد الله [ ص: 217 ] بن محمد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، أخبرنا علي بن حرب الطائي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم ، وهذا يحتمل ممن لم تبلغهم الدعوة ويحتمل من كل كافر محارب .

حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية ، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا باسم الله ، وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله ، اغزوا ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، أو خلال ، فأيها أجابوك إليها ، فاقبل منهم وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ، فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله كما يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .

[ ص: 218 ] قال أبو عمر : هذا من أحسن حديث يروى في معناه ، إلا أن فيه التحول عن الدار ، وذلك منسوخ ، نسخه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : لا هجرة بعد الفتح ، وإنما كان هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة ، فلما فتح الله عليه مكة ، قال لهم : قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية إلى يوم القيامة .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا خلف بن هشام البزار ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه فذكر أن الناس طمعوا في ذلك ، فلما كان من الغد ، قال : أين علي ؟ ، فقال : على رسلك انفذ حتى تنزل بساحتهم ، فإذا أنزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم منه من الحق ، أو من حق الله ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم .

قال أبو عمر : هذا حديث ثابت في خيبر أنهم لم يقاتلهم حينئذ حتى دعاهم ، وهو شيء قصر عنه أنس في حديثه ، وذكره سهل بن سعد ، وقد روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليا أن لا يقاتل [ ص: 219 ] قوما حتى يدعوهم . رواه ابن عيينة ، عن عمر بن ذر ، عن ابن أخي أنس بن مالك ، عن عمه ، وخالف أبو إسحاق الفزاري ابن عيينة في إسناد هذا الحديث ، وابن عيينة أحفظ إن شاء الله .

قال أبو عمر : فلهذه الآثار قلنا إن الدعاء أحسن وأصوب ، فإن أغار عليهم ، ولم يدعهم ، ولم يشعرهم وكانوا قد بلغتهم الدعوة فمباح جائز ; لما رواه نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون ، وأنعامهم على الماء ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم وكانت فيهم جويرية .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر التمار بالبصرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا إسماعيل بن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، قال : كتبت إلى نافع أسأله عن دعاء المشركين عند القتال فكتب إلي : أن ذلك كان في أول الإسلام ، وقد أغار نبي الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى سبيهم ، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث . حدثني بذلك عبد الله ، وكان في ذلك الجيش .

قال أبو داود : هذا حديث نبيل ، رواه ابن عون ، عن نافع لم يشركه فيه أحد .

وروى صالح بن أبي الأخضر عن الزهري ، عن عروة أن أسامة بن زيد حدثه أن رسول [ ص: 220 ] الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه ، فقال : أغر على أبنى صباحا وحرق .

حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا ابن الأصبهاني ، قال : أخبرنا ابن المبارك وعيسى بن يونس ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره سواء .

وحدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هناد بن السري ، عن ابن المبارك ، عن صالح بإسناده مثله . قال أبو داود : وحدثنا محمد بن عمرو الغزي ، قال : سمعت أبا مسهر ، يقول : وقيل له أبنى ، فقال : نحن أعلم هي يبنى فلسطين .

قال أبو عمر : قد روى هذا الحديث ، عن صالح بن أبي الأخضر وكيع وعيسى بن يونس ، فقالا فيه : يبنى كما قال أبو مسهر ، حدثناه سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا وكيع ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قرية ، يقال لها يبنى ، فقال : ائتها صباحا ، ثم حرق .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا يعقوب بن كعب ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : فحدثني أسامة بن زيد أن رسول الله [ ص: 221 ] صلى الله عليه وسلم ، قال : أغر على يبنى ذا صباح وحرق .

وروى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير على العدو عند صلاة الصبح ويستمع ، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار . فهذا كله دليل على أنه ربما لم يدع ، وذلك فيمن بلغته الدعوة ، فأما من لم تبلغه الدعوة لبعد داره ، فلا بد من دعائه ، قال الله عز وجل : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وهذا الحديث مما رواه يحيى القطان ، عن حماد بن سلمة ، حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ ، قال : حدثنا ابن حبابة ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس الحديث بتمامه .

وهذا يرد قول من قال : إن القطان لا يحدث عن حماد بن سلمة .

وحدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن نصير بن لؤلؤ البغدادي بمدينة السلام ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا هدبة بن خالد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، فذكره .

وروى عصام المزني ، عن النبي عليه السلام مثل حديث حماد ، عن ثابت بن أنس في ذلك .

وأما قوله في حديث مالك ، عن حميد ، عن أنس : بمساحيهم ومكاتلهم ، فإنه يعني المحافر والقفاف ، كانوا يخرجون لأعمالهم .

وأما قولهم : محمد والخميس ، فالخميس العسكر والجيش .

قال حميد بن ثور الهلالي فيما ذكر بعض أهل الخبر ، ولا يصح له : [ ص: 222 ]

حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما

ويروى هذا البيت لليلى الأخيلية ، وهو صحيح لها ، وهذه القصيدة مذهبتها فيها قولها :


ومخرق عنه القميص تخاله     عند اللقاء من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته     يوم الهياج على الخميس زعيما

والزعيم في هذا الموضع الرئيس ، ومنه قول الشاعر :


ولكن الزعامة للغلام

يعني الرئاسة ، والزعيم في غير هذا الكفيل والضامن من قول الله عز وجل وأنا به زعيم .

وقال أبو الحسن بن لنكك في مقصورته :


فزادهم منا خميس جحفل     تعثر منه الخيل عثرا بالقنا

وقال بكر بن حماد في قصيدة له يرثي بها حبيب بن أويس الطائي ، يخاطب أخاه سهم بن أوس :


أنسيت يوم الجسر خلة وده     والدهر غض بالسرور المقبل
أيام سار أبو سعيد واليا     نحو الجزيرة في خميس جحفل

[ ص: 223 ] وأما قوله : إذا نزل بساحة قوم فالساحة والسحسحة عرصة الدار .

أخبرني خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو قلت : إن ركبتي تمس ركبته صدقت ، يعني عام خيبر ، قال : فسكت عنهم حتى إذا كان عند السحر وذهب ذو الضرع إلى ضرعه وذو الزرع إلى زرعه أغار عليهم ، وقال : إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين .

قال أبو عمر : قد كان دعاهم ، وذلك موجود في حديث سهل بن سعد في قصة علي ، ولا يشك في بلوغ دعوته خيبر لقرب الديار من الديار ، وفي هذا الحديث إباحة الاستشهاد بالقرآن فيما يحسن ويجمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية