التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
28 [ ص: 112 ] حديث أول لعبد الله بن يزيد

مالك ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا كان الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم ، وذكر أن النار اشتكت إلى ربها ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف .


وقد مضى القول في معنى هذا الحديث في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، والذي عليه الجماعة أهل السنة : أن الجنة والنار مخلوقتان بعد ، إحداهما رحمة الله لمن شاء من خلقه ، والأخرى عذابه ونقمته لمن شاء أن يعذبه من خلقه .

أخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : سألت يحيى بن معين عن الجنة والنار فقال : مخلوقتان لا تبيدان .

[ ص: 113 ] قال أبو عمر :

الدلائل من الآثار كثيرة على أن الجنة مخلوقة بعد ، والنار مخلوقة بعد ; فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة . وقال الله عز وجل في آل فرعون ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ) الآية ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة .

وقوله : اشتكت النار إلى ربها ، هذا الحديث أبين شيء في أنها قد خلقت ، وأنها باقية شتاء وصيفا .

أخبرنا خلف بن القاسم قال : أخبرنا أبو قتيبة قال : حدثنا إبراهيم بن هاشم قال : حدثنا أبو نصر التمار قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما خلق الله الجنة قال : يا جبريل اذهب فانظر إليها ، قال : فذهب فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لا يسمع بهذه أحد إلا دخلها ، ثم حفها بالمكاره ، ثم قال له : اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ; فلما خلق النار قال : [ ص: 114 ] يا جبريل اذهب فانظر إليها ، فنظر إليها فقال : يا رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فحفها بالشهوات وقال : اذهب فانظر إليها . فنظر إليها فقال : يا رب لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا يدخلها .

وقرأت على خلف بن القاسم أن الحسين بن جعفر حدثهم قال : حدثنا يوسف بن يزيد قال : حدثنا الحجاج بن إبراهيم الأزرق قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله عز وجل دعا جبريل فأرسله إلى الجنة فقال : انظر إليها ، وانظر إلى ما أعددت لأهلها ، فرجع فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فحفت بالمكاره فقال : ارجع فانظر إليها . فرجع وقال : وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد ، ثم أرسله إلى النار فقال : اذهب إلى النار فانظر ما أعددت لأهلها فيها ، فرجع فقال : وعزتك لا يدخلها أحد يسمع بها ، فحفت بالشهوات ، ثم قال : عد إليها فانظر ، فرجع فقال : وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها .

وأخبرنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو قتيبة سلم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال : حدثنا محمود بن غيلان قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لله ملائكة فضلاء سيارة ، يلتمسون مجالس الذكر ، فإذا مروا بقوم يذكرون الله ، يحفون بهم بأجنحتهم ، فإذا انصرفوا عرجت الملائكة إلى السماء ، فيقول لهم ربنا تبارك [ ص: 115 ] وتعالى ، وهو أعلم : من أين جئتم ؟ فيقولون من عند عبادك ، يسبحونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ويستجيرونك . فيقول ، وهو أعلم : وما يسألون ؟ فيقولون : يسألونك الجنة ، فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا . فيقول : كيف لو رأوها ؟ ويقول : مم يستجيرون - وهو أعلم - فيقولون : من النار . فيقول : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا . فيقول : كيف لو رأوها ؟ ثم يقول : فإني أشهدكم أني قد أعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم مما استجاروا . فيقولون : أي رب ، فيهم عبدك الخطاء ليس منهم ، إنما مر بهم فجلس إليهم ، فيقول : وفلان قد غفرت له ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم .

وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء .

وروى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ; إلا أنه قال في آخره : هم الجلساء لا يشقى ( بهم ) جليسهم ، والآثار في خلق الجنة والنار كثيرة جدا صحاح ثابتة يجب الإيمان بها والتسليم لما جاء منها ، وبالله التوفيق .

حدثنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد قال : حدثنا الزعفراني قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حفت النار بالشهوات ، وحفت الجنة بالمكاره .

وحدثناه عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا ابن أبي غالب عبيد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن محمد الباهلي قال : حدثنا رزق الله بن [ ص: 116 ] موسى قال : حدثنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

ورواه الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الجنة حفت بالمكاره ، وإن النار حفت بالشهوات .

وأما قوله : اشتكت النار إلى ربها ، فحمله قوم على المجاز ، كقول الشاعر :


شكا إلي جملي طول السرى

وكقول عنترة :


وشكا إلي بعبرة وتحمحم

وكقول القائل :


امتلأ الحوض وقال قطني     مهلا رويدا قد ملأت بطني

وكقول العرب : قالت السماء فهطلت .

وقالت رجلي فخدرت ، ونحو هذا .

وكقول عروة بن حزام حين جعل القول لمن لا يوجد منه قول :


ألا يا غرابي دمنة الدار     بينا أبا لصرم من عفراء تنتحبان
فإن كان حقا ما تقولان فانهضا     بلحمي إلى وكريكما فكلاني

وكقول ذي الرمة :


فقالت لي العينان سمعا وطاعة     وحدرتا مثل الجمان المنظم

[ ص: 117 ] ومثل هذا قول القائل :


كم أناس في نعيم عمروا     في ذرى ملك تعالى فبسق
سكت الدهر زمانا عنهم     ثم أبكاهم دما حين نطق

وهذا ومثله كثير في أشعار العرب ولغاتها ، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في باب زيد بن أسلم .

وقال جماعة من أهل العلم : إن ذلك على الحقيقة ، وإنها تنطق ينطقها الله الذي ينطق الجلود وكل شيء ، ولها لسان كما شاء الله عز وجل ، فاستشهدوا بقوله عز وجل ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) وبقوله ( سمعوا لها تغيظا وزفيرا ) وبما جاء من نحو هذا في الآثار الثابتة نحو قوله : فتقول قط قط ، وتقول : وكلت بكل جبار عنيد ، وهذا ونحوه في القرآن والأحاديث كثير جدا ، وحملوا ما في القرآن والآثار من مثل هذا على الحقيقة .

واحتجوا بقول الله عز وجل ( يقص الحق ) وقوله ( والحق أقول ) ونحو هذا ، ولكلا القولين وجه يطول الاعتلال له ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية