التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
478 [ ص: 118 ] حديث ثان لعبد الله بن يزيد

مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة : أنه قرأ : ( إذا السماء انشقت ) فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها .


هذا حديث صحيح ، ولم يختلف فيه عن مالك ; إلا أن رجلا من أهل الإسكندرية رواه عن ابن بكير ، عن مالك ، عن الزهري ، وعبد الله بن يزيد ، جميعا عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وذكر الزهري فيه خطأ عن مالك ، لا يصح ، والحديث صحيح ، وقد رواه عن أبي هريرة جماعة ، منهم أبو سلمة ، والأعرج ، وعطاء بن ميناء ، وأبو رافع ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، ومحمد بن سيرين ، وفي رواية ابن سيرين ، وعطاء بن ميناء ، والأعرج ، عن أبي هريرة ، زيادة و : ( اقرأ باسم ربك ) .

وفي هذا الحديث السجود في المفصل ، وهو أمر مختلف فيه ، فأما مالك وأصحابه وطائفة من أهل المدينة فإنهم لا يرون السجود في المفصل ، وهو قول ابن عمر ، وابن عباس ، وروي ذلك عن أبي بن كعب ، وهو قول سعيد [ ص: 119 ] بن المسيب ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وطاوس ، وعطاء ; كل هؤلاء يقول : ليس في المفصل سجود ، بالأسانيد الصحاح عنهم ، وقال يحيى بن سعيد : أدركنا القراء لا يسجدون في شيء من المفصل ، وكان أيوب السختياني لا يسجد في شيء من المفصل .

وقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندهم أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ، ويعني قوله : " المجتمع عليه " أي لم يجتمع على غيرها كما اجتمع عليها عندهم ، هكذا تأول في قوله هذا ابن الجهم وغيره .

وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني عكرمة بن خالد أن سعيد بن جبير أخبره أنه سمع ابن عباس ، وابن عمر يعدان كم في القرآن من سجدة فقالا : الأعراف ، والرعد ، والنحل ، وبني إسرائيل ، ومريم ، والحج - أولها ، والفرقان ، و " طس " و " الم تنزيل " و " ص " و " حم السجدة " إحدى عشرة سجدة ، قالا : وليس في المفصل سجود ، هذه رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وروى عنه عطاء أنه لا يسجد في " ص " وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : عد ابن عباس سجود القرآن عشرا ، فذكر مثل ما تقدم غير " ص " فإنه أسقطها .

وروى أبو جمرة الضبعي ، ومجاهد ، عن ابن عباس - مثل رواية سعيد بن جبير عنه ، وعن ابن عمر : إحدى عشرة سجدة فيها " ص " ليس في المفصل منها شيء ، وهذا كله قول مالك وأصحابه .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني سليمان الأحول أن مجاهدا أخبره أنه سأل ابن عباس : أفي " ص " سجدة ؟ قال : نعم ، ثم تلا [ ص: 120 ] ( ووهبنا له ) حتى بلغ : فبهداهم اقتده . قال : هو منهم ، وقال ابن عباس : رأيت عمر قرأ " ص " على المنبر فنزل فسجد فيها ، ثم علا المنبر .

وعن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله .

قال : وحدثنا الفضل بن محمد ، ومعمر عن أبي جمرة الضبعي ، عن ابن عباس مثله ، وحجة من لم ير السجود في المفصل ما حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن رافع قال : حدثنا أزهر بن القاسم رأيته بمكة قال : حدثنا أبو قدامة ، عن مطر الوراق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة .

قال أبو عمر :

هذا عندي حديث منكر ، يرده قول أبي هريرة : سجدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ( إذا السماء انشقت ) ولم يصحبه أبو هريرة إلا بالمدينة . قال أبو داود : هذا حديث لا يحفظ عن غير أبي قدامة هذا بإسناده . قال أبو داود : وقد روي من حديث أبي الدرداء عن النبي عليه السلام إحدى عشرة سجدة ، وإسناده واه .

قال أبو عمر :

رواه عمر الدمشقي - مجهول - عن أم الدرداء عن أبي الدرداء .

[ ص: 121 ] قال أبو عمر :

في حديث أبي الدرداء إحدى عشرة سجدة ، منها : النجم ، واحتجوا أيضا بحديث زيد بن ثابت ، رواه وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن يزيد بن قسيط ، عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن ثابت قال : قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد فيها . وليس فيه حجة إلا على من زعم أن السجود واجب ، وقد قيل : إن معناه أن زيد بن ثابت كان القارئ ، فلما لم يسجد لم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن المستمع تبع للتالي ، وهذا يدل على صحة قول عمر : إن الله لم يكتبها علينا ، فإنما حديث زيد بن ثابت هذا حجة على من أوجب سجود التلاوة ، وقال جماعة من أهل العلم : السجود في المفصل في ( والنجم ) و ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم ربك ) هذا قول الشافعي ، والثوري ، وأبي حنيفة ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وروي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وأبي هريرة ، وابن عمر على اختلاف عنه ، وعن عمر بن عبد العزيز ، وجماعة من التابعين ، وحجة من رأى السجود في المفصل حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سجد في ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم ربك ) .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا سفيان ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء بن ميناء ، عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم ربك ) .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قالا : حدثنا مسدد قال : حدثنا المعتمر قال : سمعت أبي قال : [ ص: 122 ] حدثنا بكر ، عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ ( إذا السماء انشقت ) فسجد ، قلت : ما هذه السجدة ؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه .

قال أبو عمر :

هذا حديث ثابت أيضا صحيح ، لا يختلف في صحة إسناده ، وكذلك الذي قبله صحيح أيضا ، وفيه السجود في المفصل ، والسجود في ( إذا السماء انشقت ) معينة ، والسجود في الفريضة ، وهذه فصول كلها مختلف فيها ، وهذا الحديث حجة لمن قال به ، وحجة على من خالف ما فيه .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : أخبرنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا المعتمر عن قرة ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال : سجد أبو بكر ، وعمر ، ومن هو خير منهما في ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم ربك ) .

حدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة قال : سجدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ( إذا السماء انشقت ) .

[ ص: 123 ] قال أبو عمر :

يقولون : إن هذا الإسناد انفرد به ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد - لم يروه عن يحيى بن سعيد غيره ، ويخشون أن يكون خطأ ، وإنما يعرف بهذا الإسناد حديث التفليس .

ويروى هذا الحديث عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي سلمة ، وأما بهذا الإسناد عن يحيى بن سعيد فلم يروه غير ابن عيينة ، والله أعلم .

وقد زاد بعضهم فيه عن ابن عيينة بإسناده ( اقرأ باسم ربك ) .

حدثنا أحمد بن فتح قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا علي بن سعيد قال : حدثنا محمد بن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ( إذا السماء انشقت ) ، و ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا محمد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا : أخبرنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم ربك ) .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : أخبرنا محمد بن معاوية ، وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حمزة بن محمد قالا : أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا محمد بن رافع قال : حدثنا ابن أبي فديك ( قال : أخبرنا ابن أبي [ ص: 124 ] ذئب ، عن عبد العزيز بن عياش ، عن ابن قيس ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ( إذا السماء انشقت ) .

قال أبو عمر :

ابن قيس هذا هو محمد بن قيس القاص ، وهو ثقة ، وروايته لهذا الحديث عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أصح من حديث ابن عيينة عندهم ، والله أعلم .

وقد ذكره عبد الله بن يوسف التنيسي في الموطأ عن مالك ، وروته طائفة كذلك في الموطأ عن مالك أنه بلغه عن عمر بن عبد العزيز قال لمحمد بن قيس القاص : اخرج إلى الناس فمرهم أن يسجدوا في ( إذا السماء انشقت ) .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا يونس بن محمد قال : حدثنا ليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن صفوان بن سليم ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد في ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم ربك ) .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مطلب بن شعيب قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا الليث قال : حدثنا ابن الهادي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه رأى أبا هريرة وهو يصلي فسجد في ( إذا السماء انشقت ) قال أبو سلمة حين انصرف : لقد [ ص: 125 ] سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها ، قال : إني لو لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها لم أسجد .

وحدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن يحيى - يعني ابن أبي كثير - عن أبي سلمة قال : رأيت أبا هريرة قرأ ( إذا السماء انشقت ) فسجد فيها قال : فقلت : يا أبا هريرة ألم أرك سجدت ؟ قال : لو لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد ما سجدت .

قال أبو عمر :

احتج من أنكر السجود في المفصل بقول أبي سلمة لأبي هريرة : لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها ، قالوا : فهذا دليل على أن السجود في ( إذا السماء انشقت ) كان قد تركه ( الناس ) ، وجرى العمل بتركه في المدينة ، فلهذا كان اعتراض أبي سلمة لأبي هريرة في ذلك ، واحتج من رأى السجود في ( إذا السماء انشقت ) وفي سائر المفصل بأن أبا هريرة رأى الحجة في السنة لا فيما خالفها ، ورأى أن من خالفها محجوج بها ، وكذلك أبو سلمة لما أخبره أبو هريرة بما أخبره به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكت لما لزمه من الحجة ، ولم يقل له : الحجة في عمل الناس لا فيما تحكي أنت عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . بل علم أن الحجة فيما نزع به أبو هريرة فسلم وسكت ، وقد ثبت عن أبي بكر وعمر والخلفاء بعدهما السجود في ( إذا السماء انشقت ) ، فأي عمل يدعى في خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين بعده ؟ .

[ ص: 126 ] حدثنا عبد الله بن محمد قال : أخبرنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا قرة ، وهو ابن خالد ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : سجد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في ( إذا السماء انشقت ) ومن هو خير منهما .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، والثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، وذكره الثوري أيضا ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : العزائم أربع : " الم تنزيل " و " حم السجدة " والنجم ، و " اقرأ باسم ربك " وهذا الحديث رواه شعبة ، عن عاصم قال : سمعت زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود : عزائم السجود أربع : " الم تنزيل السجدة " و " حم السجدة " والنجم ، و " اقرأ باسم ربك " وهذا عندي خطأ وغلط من شعبة في هذا الحديث ، والله أعلم . وكان علي بن المديني يقول : هذا جاء من عاصم .

قال أبو عمر :

الدليل على أن ذلك جاء من شعبة - أن يعقوب بن شيبة روى عن أبي بكر بن أبي الأسود قال : حدثنا سعيد بن عامر قال : سمعت شعبة مرة يحدث عن عاصم ، عن زر ، عن علي في عزائم السجود ، ومرة عن عبد الله ، فهذا يدل على أن الثوري حفظه عن عاصم وضبطه ، وشعبة أدركه فيه الوهم والله أعلم .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، ومالك ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة أن عمر سجد في النجم ، ثم قام فوصل إليها سورة .

[ ص: 127 ] قال أبو عمر :

هذا الخبر في الموطأ عن ابن شهاب ، عن الأعرج أن عمر - هكذا مقطوعا ليس فيه ذكر أبي هريرة .

فهذا جملة ما احتج به من رأى السجود في المفصل من جهة الأثر ; إذ لا مدخل في هذه المسألة للنظر ، وقد احتج من لم ير السجود في المفصل بما أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هناد بن السري .

وأخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالا : حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ذئب ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن ثابت قال : قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجم ، فلم يسجد فيها . قال أبو داود : وأخبرنا ابن السرج قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرنا أبو صخر ، عن ابن قسيط ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه بمعناه .

قال أبو عمر :

اختلف ابن أبي ذئب ، وأبو صخر في إسناد هذا الحديث ، والقول فيه - عندي - قول ابن أبي ذئب ; لأنه قد تابعه يزيد بن خصيفة على ذلك .

حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا علي بن حجر قال : أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن يزيد ، وهو ابن خصيفة ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن عطاء بن [ ص: 128 ] يسار أنه أخبره أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال : لا قراءة مع الإمام في شيء ، وزعم أنه قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( والنجم إذا هوى ) فلم يسجد ، فاحتج بهذا الخبر من لم ير السجود في المفصل ، وقال من رأى السجود في المفصل ممن لم ير السجود واجبا : لا حجة في هذا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سجد في ( والنجم ) وترك ، وكذلك سجود القرآن من شاء سجد ومن شاء ترك ، ولم يفرضها الله ولا كتبها على عباده ، وذكروا ما أخبرنا به عبد الله بن محمد قال : أخبرنا محمد بن بكر قال : أخبرنا أبو داود قال : أخبرنا حفص بن عمر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عبد الله : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم فسجد فيها ، وذكر تمام الحديث .

وروى المطلب بن أبي وداعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وروى مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد ، وسجد الناس معه ، ثم قرأها يوم الجمعة ( الأخرى ) فتهيأ الناس للسجود فقال : على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ، فلم يسجد ، ومنعهم أن يسجدوا . قالوا : فعلى هذا معنى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يسجد في ( والنجم ) وأنه سجد فيها ، والله أعلم .

فهذا ما في سجود المفصل من الآثار الصحاح ، واختلاف العلماء من الصحابة ومن بعدهم رضوان الله عليهم .

[ ص: 129 ] واختلفوا أيضا في السجود في سورة ( ص ) : فذهب مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة إلى السجود فيها ، وروي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وجماعة من التابعين ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وأبو ثور ، واختلف في ذلك عن ابن عباس ، وذهب الشافعي إلى أن لا سجود في ( ص ) وهو قول ابن مسعود ، وعلقمة .

ذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : قال عبد الله بن مسعود : إنما هي توبة نبي ذكرت ، وكان لا يسجد فيها ، يعني ( ص ) .

وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عياض بن عبد الله بن سعد ، عن أبي سعيد الخدري قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ( ص ) فلما بلغ السجدة نزل فسجد ، وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر ، قرأها فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود فقال : إنما هي توبة ، ولكني رأيتكم ، ثم نزل فسجد . فاحتج بهذا الحديث من رأى السجود في ( ص ) ومن حجة من رأى السجود في ( ص ) أيضا : ما أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا وهيب قال : حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ليس ( ص ) من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا أيوب قال : سمعت عكرمة [ ص: 130 ] يقول : سمعت ابن عباس يقول : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد في ( ص ) وليست من عزائم السجود .

واختلفوا في السجدة الثانية من الحج بعد إجماعهم على أن السجدة الأولى منها ثابتة يسجد التالي فيها في صلاة وفي غير صلاة - إذا شاء ، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : ليس في الحج إلا سجدة واحدة ، وهي الأولى ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وجابر بن زيد ، واختلف فيها عن ابن عباس ، وقال الشافعي وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، والطبري : في الحج سجدتان ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وأبي الدرداء ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس على اختلاف عنه ، ومسلمة بن مخلد ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وأبي العالية الرياحي ، وزر بن حبيش .

وقال أبو إسحاق السبيعي : أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين .

مالك ، عن نافع أن رجلا من أهل مصر أخبره أن عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ، ثم قال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين ، ومالك عن عبد الله بن دينار قال : رأيت ابن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين .

[ ص: 131 ] وعبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع أن عمر وابن عمر كانا يسجدان في الحج سجدتين ، قال : وقال ابن عمر : لو سجدت فيها واحدة كانت السجدة الآخرة أحب إلي ; قال : ( وقال ابن عمر ) إن هذه السورة فضلت بسجدتين .

وعن الثوري عن عاصم ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس قال : فضلت سورة الحج بسجدتين ، وعن الثوري عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الأولى من سورة الحج عزيمة ، والآخرة تعليم ، وكان لا يسجد فيها .

وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل : كم في الحج ؟ فقال : سجدتان قيل له : حديث عقبة بن عامر ، عن النبي عليه السلام قال : في الحج سجدتان قال : نعم ، رواه ابن لهيعة عن مشرح ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي عليه السلام قال : في الحج سجدتان فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما قال : وهذا توكيد لقول عمر ، وابن عمر ، وابن عباس لأنهم قالوا : فضلت سورة الحج بسجدتين .

واختلفوا في جملة عدد سجود القرآن : فذهب مالك وأصحابه إلى أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء ، هذا تحصيل مذهب مالك عند أصحابه .

وقد روى ابن وهب ، عن مالك : أن سجود القرآن خمس عشرة سجدة في المفصل وغير المفصل ، وكان ابن وهب رحمه الله يذهب إلى هذا .

[ ص: 132 ] وروي عن ابن عمر ، وابن عباس على اختلاف عنهما ، وعن أنس ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وكل من تقدم ذكرنا عنه أنه لا يسجد في المفصل .

وقال أبو حنيفة ، والثوري : أربع عشرة سجدة ، فيها الأولى من الحج .

وقال الشافعي : أربع عشرة سجدة سوى سجدة ( ص ) فإنها سجدة شكر ، وفي الحج عنده سجدتان .

وقال أبو ثور : أربع عشرة سجدة ، فيها الثانية من الحج ، وسجدة ( ص ) ، وأسقط سجدة ( النجم ) .

وقال أحمد بن حنبل ، وإسحاق : خمس عشرة سجدة ، في الحج سجدتان ، وسجدة ( ص ) .

وقال الطبري : خمس عشرة سجدة ، ويدخل في السجدة بتكبير ، ويخرج منها بتسليم .

وقال الليث بن سعد : أستحب أن يسجد في القرآن كله في المفصل وغيره .

واختلفوا في وجوب سجود التلاوة : فقال أبو حنيفة وأصحابه : هو واجب .

وقال مالك والشافعي ، والأوزاعي : هو مسنون وليس بواجب ، وذكر عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة ، عن عثمان بن عبد الرحمن ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير ، أنه حضر عمر بن الخطاب يوم الجمعة فقرأ على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة ، نزل فسجد ، وسجد الناس معه ; حتى إذا [ ص: 133 ] كانت الجمعة القابلة ، قرأها حتى إذا جاء السجدة ، قال : يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب وأحسن ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ، قال : ولم يسجد عمر . قال ابن جريج : وأخبرنا نافع ، عن ابن عمر قال : لم يفرض علينا السجود ، إلا أن نشاء .

قال أبو عمر :

أي شيء أبين من هذا عن عمر ، وابن عمر ، ولا مخالف لهما من الصحابة فيما علمت ، وليس قول من أوجبها بشيء ، والفرائض لا تجب إلا بحجة لا معارض لها ، وبالله التوفيق .

وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل يقرأ السجدة في الصلاة فلا يسجد ، فقال : جائز أن لا يسجد ، وإن كنا نستحب أن يسجد ، فإن شاء سجد ، واحتج بحديث عمر : ليست علينا إلا أن نشاء ، قيل له : فإن هؤلاء يشددون ( يعني أصحاب أبي حنيفة ) فنفض يده وأنكر ذلك .

وأما اختلافهم في التكبير لسجود التلاوة والتسليم منها ، فقال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة : يكبر التالي إذا سجد ، ويكبر إذا رفع رأسه في الصلاة وفي غير الصلاة .

وروي ذلك عن جماعة من التابعين ، وكذلك قال مالك إذا كان في صلاة ، واختلف عنه إذا كان في غير صلاة .

وكان الشافعي ، وأحمد يقولان : يرفع يديه إذا أراد أن يسجد .

قال الأثرم : وأخبرت عن أحمد أنه كان يرفع يديه في سجود القرآن خلف الإمام في التراويح في رمضان . قال : وكان ابن سيرين ، ومسلم بن يسار [ ص: 134 ] يرفعان أيديهما في سجود التلاوة إذا كبر ، وقال أحمد : يدخل هذا في حديث وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه مع التكبير ، ثم قال : من شاء رفع ومن شاء لم يرفع يديه هاهنا .

وقال أبو الأحوص ، وأبو قلابة ، وابن سيرين ، وأبو عبد الرحمن السلمي : يسلم إذا رفع رأسه من السجود ، وبه قال إسحاق . قال : يسلم عن يمينه فقط : السلام عليكم .

وقال إبراهيم النخعي ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، ويحيى بن وثاب : ليس في سجود القرآن تسليم - وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابهم ، وقال أحمد بن حنبل : أما التسليم ، فلا أدري ما هو .

فهذه أوصل مسائل السجود ، وبقيت فروع تضبطها هذه الأصول ( كرهنا ذكرها خشية الإطالة على شرطنا في الاعتماد على الأصول ) والأمهات ، وما في الأحاديث المذكورة من المعاني المضمنات ، والله المعين لا شريك له .

التالي السابق


الخدمات العلمية