التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1316 [ ص: 170 ] حديث خامس لعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان

مالك ، عن عبد الله بن يزيد أن زيدا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء فقال له سعد : أيتهما أفضل ؟ قال : البيضاء ، فنهاه عن ذلك ، وقال سعد : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا يبس ، فقالوا : نعم ، فنهى عن ذلك قال مالك : كل رطب بيابس من نوعه حرام .


هكذا قال يحيى ، عن مالك ، عن عبد الله بن يزيد أن زيدا أبا عياش أخبره - لم يقل : عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، وتابعه على ذلك جماعة من الرواة منهم ابن القاسم ، وابن وهب ، والقعنبي ، وابن بكير وغيرهم ، كلهم روى هذا الحديث كما رواه يحيى سواء ، ولم يذكر واحد منهم مولى الأسود بن سفيان ، ولم يزد على قوله : عبد الله بن يزيد ، وقد توهم بعض الناس أن عبد الله بن يزيد هذا ليس بمولى الأسود بن سفيان ، وإنما هو عبد الله بن يزيد بن هرمز القارئ الفقيه ; قال : ولو كان مولى الأسود [ ص: 171 ] بن سفيان ، لقاله مالك في الموطأ في الحديث كما قاله في جميع موطئه غير هذا الحديث - فيما رواه عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان .

قال أبو عمر :

ليس كما ظن هذا القائل ، ولم يرو مالك عن عبد الله بن يزيد بن هرمز في موطئه حديثا مسندا ، وهذا الحديث لعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان محفوظ ، وقد نسبه جماعة عن مالك منهم الشافعي ، وأبو مصعب .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال : أخبرني الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي ، عن مالك بن أنس ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان : أن زيدا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص ، عن البيضاء بالسلت ، فقال : أيتهما أفضل ؟ فقالوا : البيضاء ، فنهى عن ذلك ، وقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن شراء التمر بالرطب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا يبس ، فقالوا : نعم ، فنهى عن ذلك .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن الحسن بن إسحاق الرازي ، حدثنا روح بن الفرج بن عبد الرحمن القطان ، حدثنا يوسف بن عدي ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن مالك بن أنس ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان قال : أخبرنا زيد أبو عياش مولى سعد بن أبي وقاص ، عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرطب بالتمر فقال : هل ينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم ، فنهى عنه .

[ ص: 172 ] ففي هذا الحديث أيضا مولى الأسود بن سفيان ، وقد روى هذا الحديث أسامة بن زيد وغيره ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، فثبت بهذا كله ما قلنا دون ما ظن القائل ما ذكرنا ; إلا أن أسامة بن زيد خالف مالكا في إسناد هذا الحديث .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مطلب بن شعيب قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني أسامة بن زيد وغيره ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن رسول الله سئل عن رطب بتمر فقال : أينقص الرطب ؟ قالوا : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يباع الرطب باليابس .

هكذا قال عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي أسامة ، عن رجل ، وخالفه ابن وهب فرواه عن أسامة بمثل إسناد مالك ; إلا أنه قال : أبو عياش ، ولم يقل : زيد .

وجدت في كتاب أبي - رحمه الله - في أصل سماعه : أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال قال : حدثهم قال : حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : أخبرنا أسد بن موسى قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني أسامة بن زيد أن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان حدثه قال : أخبرني أبو عياش ، عن سعد أنه قال : ابتاع رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مد رطب بمد تمر ، فسئل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أرأيت الرطب إذا يبس أينقص ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : لا تبايعوا التمر بالرطب . أما زيد أبو عياش فزعم بعض الفقهاء أنه مجهول لا [ ص: 173 ] يعرف ، ولم يأت له ذكر إلا في هذا الحديث ، وأنه لم يرو عنه إلا عبد الله بن يزيد هذا الحديث فقط .

وقال غيره : قد روى عنه أيضا عمران بن أبي أنس فقال فيه مولى أبي مخزوم ، وقيل عن مالك : إنه مولى سعد بن أبي وقاص ، وقيل إنه زرقي ، ولا يصح شيء من ذلك - والله أعلم - .

وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن أمية ، عن عبد الله بن يزيد ، عن أبي عياش ، عن سعد ، ولم يسم أبا عياش بزيد ولا غيره .

وروى هذا الحديث يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن عياش ، عن سعد ، ويقولون : إن عبد الله بن عياش هذا هو أبو عياش الذي قال فيه مالك عن عبد الله بن يزيد أن يزيد أبا عياش أخبره أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : أخبرنا أبو داود قال : أخبرنا الربيع بن نافع أبو ثوبة قال : حدثنا معاوية يعني ابن سلام ، عن يحيى بن أبي كثير قال : أخبرنا عبد الله بن عياش أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر نسيئة . قال أبو داود : رواه عمران بن أبي يونس عن مولى لبني مخزوم ، عن سعد نحوه .

قال أبو عمر :

هكذا قال : نسيئة ، والصواب عندي ما قاله مالك ، وقد وافقه إسماعيل بن أمية على إسناده ولفظه ، وفي حديث أسامة بن زيد ، وإن خالفهما في الإسناد ما يعضد المعنى الذي جاء به مالك وإسماعيل بن أمية ، وأما قول يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث : عبد الله بن عياش فخطأ لا [ ص: 174 ] شك فيه ، وإنما هو أبو عياش ، واسمه زيد ، وقد قال فيه ابن أبي عمر العدني ، عن سفيان بن عيينة في المصنف : أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عبد الله بن يزيد ، عن أبي عياش الزرقي : أن رجلا سأل سعد بن أبي وقاص عن السلت بالشعير فقال : تبايع رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل ينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا : نعم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فلا إذا .

هكذا قال ابن أبي عمر ، عن ابن عيينة في هذا الحديث ، عن أبي عياش الزرقي ، وأبو عياش الزرقي له صحبة ، واسمه زيد بن الصامت عند أكثر أهل الحديث ، وقد قيل غير ذلك على ما ذكرته في بابه من كتاب الصحابة ، وعاش أبو عياش الزرقي إلى أيام معاوية .

أخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : أخبرنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا عبد الله بن الزبير قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثنا إسماعيل بن أمية ، عن عبد الله بن يزيد ، عن أبي عياش قال : تبايع رجلان على عهد سعد بن أبي وقاص بسلت وشعير ، فقال سعد : تبايع رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر ورطب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذا .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث تفسير البيضاء المذكورة في حديث مالك أنها الشعير ، وهو كذلك عند أهل العلم ، وقد جود إسماعيل بن أمية في ذلك .

[ ص: 175 ] ( ولم يختلف نسخ الموطأ في هذا اللفظ ، وروى القطان هذا الحديث عن مالك فلم يذكر ذلك فيه ، وإنما اقتصر على المرفوع منه دون قصة سعد ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن محمد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى ، عن مالك بن أنس قال : حدثني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن عياش ، عن سعد قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اشتراء الرطب بالتمر ، فقال لمن حوله : أينقص إذا يبس ؟ قالوا : نعم ، فنهى عنه ) .

قال أبو عمر :

عبد الله بن يزيد يقول في هذا الحديث : أخبرني زيد أبو عياش ، ويحيى بن أبي كثير يقول : عبد الله بن عياش ، وإسماعيل بن أمية لم يسمه في حديثه ، ولا أسامة بن زيد ، ولا أدري إن كان عبد الله بن عياش الذي روى عنه يحيى بن أبي كثير ، عن سعد ، عن النبي عليه السلام أنه نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة هو أبو عياش هذا أم لا ؟ .

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا أحمد بن محمد المكي قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قالا جميعا : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، عن مالك ، عن عبد الله بن يزيد أن زيدا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت فقال له سعد : أيهما أفضل ؟ قال : البيضاء . قال : فنهاه ، عن ذلك . قال : وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 176 ] يسأل عن شراء التمر بالرطب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم ، فنهاه عن ذلك .

قال أبو عمر :

أما البيضاء فهي الشعير على ما ظهر ، وذكر في هذا الحديث من رواية إسماعيل بن أمية على ما تقدم ذكره ، وقد غلط في ذلك وكيع في روايته لهذا الحديث ، عن مالك فقال فيه : السلت بالذرة .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع ، عن مالك بن أنس ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد أبي عياش قال : سألت سعدا عن السلت بالذرة فكرهه ، وقال سعد : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرطب بالتمر فقال : أينقص إذا جف ؟ قلنا : نعم . فنهى عنه ، وهذا غلط لأن الذرة صنف عند مالك غير السلت ، لم يختلف عنه في ذلك .

أخبرنا أحمد بن محمد ، وأحمد بن قاسم قالا : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا ابن وضاح قال : ذكر علي بن زياد ، عن مالك أنه قال : يعني سعد بقوله : أيتهما أفضل ؟ يريد أيتهما أكثر في الكيل ، وليس أيتهما أفضل في الجودة .

وأخبرنا خلف بن القاسم ، وعبد الرحمن بن عبد الله قالا : حدثنا الحسن بن رشيق قال : المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي ، أبو سعيد عن أبي المصعب قال : ومعنى أيتهما أفضل يعني : أيتهما أكثر في الكيل ؟ ، وكذلك رواه ابن نافع ، وأشهب ، عن مالك .

[ ص: 177 ] قال أبو عمر :

ففي هذا الحديث من قول سعد ما يدل على أن السلت والشعير عنده صنف واحد لا يجوز التفاضل بينهما ، ولا يجوزان إلا مثلا بمثل ، وكذلك القمح معهما صنف واحد ، وهذا مشهور معروف من مذهب سعد بن أبي وقاص ، وإليه مالك وأصحابه . ذكر مالك في الموطأ أنه بلغه أن سليمان بن يسار قال في علف حمار سعد بن أبي وقاص فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك طعاما فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله . ومالك ، عن نافع ، عن سليمان بن يسار أنه أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، في علف دابته فقال لغلامه : خذ حنطة أهلك طعاما فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله .

ومالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ، عن ابن معيقيب الدوسي مثل ذلك . قال مالك : وهو الأمر عندنا .

قال أبو عمر :

معلوم أن الحنطة عندهم هي البر ، فقد كره سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن الأسود ، وابن معيقيب أن يباع البر بالشعير إلا مثلا بمثل ، وهذا موضع اختلف فيه السلف ، وتنازع فيه بعدهم الخلف ، فذهب مالك وأصحابه إلى أن البر والشعير والسلت صنف واحد لا يجوز بيع بعض شيء من ذلك ببعضه إلا مثلا بمثل كالشيء الواحد .

[ ص: 178 ] وروى شعبة ، عن الحكم ، وحماد أنهما كرها البر بالشعير متفاضلا ، ومن حجة من ذهب هذا المذهب ما رواه بسر بن سعيد ، عن معمر بن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الطعام مثلا بمثل قال : وكان طعامنا يومئذ الشعير مع ما ذكرنا من عمل الصحابة ، والتابعين بالمدينة .

قال أبو عمر :

ليس في حديث معمر حجة لأن فيه : وكان طعامنا يومئذ الشعير ، ولا يختلف العلماء أن الشعير بالشعير لا يجوز إلا مثلا بمثل ، فهذا الحديث إنما هو كحديثه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : البر بالبر مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، وقال الليث بن سعد : لا يصلح الشعير بالقمح إلا مثلا بمثل ، وكذلك السلت ، والذرة ، والدخن ، والأرز لا يباع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل لأنه صنف واحد ، وهو مما يخبز قال : والقطاني كلها : العدس ، والجلبان ، والحمص ، والفول ، يجوز فيها التفاضل ; لأن القطاني مختلفة في الطعم واللون والخلق .

قال أبو عمر :

جعل الليث البر ، والشعير ، والسلت ، والدخن ، والأرز ، والذرة صنفا واحدا ، هذه الستة كلها لا يجوز بيع شيء منها بشيء منها إلا مثلا بمثل ، يدا بيد - عنده .

[ ص: 179 ] وقال أبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهما ، والثوري : يجوز بيع الحنطة بالشعير متفاضلا ، وكذلك الدخن ، والأرز ، والذرة ، والسلت ، كل هذه الأشياء أصناف مختلفة يجوز بيع بعضها ببعض إذا اختلف الاسم واللون - متفاضلا إذا كان يدا بيد ، وبهذا قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وداود ، والطبري ، ومن حجة من ذهب هذا المذهب ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثني أبي قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : حدثني مسلم بن يسار ، وعبد الله بن عبيد ، وقد كان يدعى ابن هرمز ، قال : جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ، وبين معاوية إما في بيعة ، وإما في كنيسة ، فقام عبادة فقال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والتمر بالتمر ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، وقال أحدهما : والملح بالملح ، - ولم يقله الآخر ; إلا سواء بسواء مثلا بمثل ، وقال أحدهما : من زاد أو ازداد فقد أربى ، - ولم يقله الآخر ; وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة ، والفضة بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أبي قال : حدثنا عفان ، وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا المحسن بن علي قال : حدثنا بشر بن عمر قالا جميعا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن مسلم المكي ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت ، وفي حديث عفان أنه شهد خطبة عبادة بن الصامت فحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، والفضة بالفضة ، وزنا بوزن ، زاد بشر بن عمر ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة - والفضة أكثرها - يدا بيد ، وأما نسيئة فلا ، والبر بالبر كيلا بكيل ، والشعير بالشعير كيلا بكيل ، [ ص: 180 ] ولا بأس ببيع الشعير بالبر - والشعير أكثرهما - يدا بيد ، زاد بشر بن عمر ، وأما نسيئة فلا .

قال أبو داود : روى هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة ، وهشام الدستوائي ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار ، وقال أحمد بن زهير : أبو الخليل هذا هو صالح بن أبي مريم الضبعي ، ومسلم بن يسار هذا هو مولى عثمان بن عفان .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان ، عن خالد عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخبر يزيد وينقص ، زاد قال : فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد .

وذكر حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة أنه سمع هذا الحديث من أبي الأشعت مع مسلم بن يسار .

وروى محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه .

وروى الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : ما اختلف ألوانه من الطعام فلا بأس به يدا بيد ، التمر بالبر ، والزبيب بالشعير ، وكرهه نسيئة ، وهذا يدل على أن مراد ابن عمر اختلاف الأنواع .

[ ص: 181 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عاصم بن علي بن عاصم قال : حدثنا الربيع ، عن ابن سيرين ، عن أنس قال : لا بأس بالورق بالذهب واحد باثنين يدا بيد ; ولا بأس بالبر بالشعير واحد باثنين يدا بيد ، ولا بأس بالتمر بالملح واحد باثنين يدا بيد . فهذا ما في معنى البيضاء بالسلت في هذا الحديث عند العلماء .

وأما قول سعد : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر فإن أهل العلم اختلفوا في بيع التمر بالرطب ، فجمهور علماء المسلمين على أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز بحال من الأحوال لا مثلا بمثل ، ولا متفاضلا ; لا يدا بيد ، ولا نسيئة ، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في حديث سعد هذا ، ولنهيه عن بيع الرطب باليابس من جنسه على ما مضى في هذا الباب ، ولنهيه عن بيع التمر بالتمر ، والزبيب بالعنب ، والزرع بالحنطة ، وهذا كله من المزابنة المنهي عنها .

أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح ، وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قالا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع التمر بالتمر كيلا ، وعن بيع العنب بالزبيب كيلا ، وعن بيع الزرع بالحنطة كيلا ، وهذا كله نص في موضع الخلاف ، فبطل ما خالفه ، ومعلوم أن المزابنة المنهي عنها بيع الرطب باليابس من جنسه ، والكيل بالجزاف من جنسه .

[ ص: 182 ] وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة ، والمزابنة : بيع الرطب بالتمر كيلا ، وبيع العنب بالزبيب كيلا ، فأي شيء أبين من هذا لمن لم يحرم التوفيق .

وممن ذهب إلى هذا : مالك ، والشافعي وأصحابهما ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن .

وقال أبو حنيفة : لا بأس ببيع الرطب بالتمر مثلا بمثل ، وكذلك الحنطة الرطبة باليابس ، وهو قول داود بن علي في ذلك ، وحجة أبي حنيفة ، ومن قال بقوله - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بيع التمر بالتمر إلا مثلا بمثل دخل في ذلك الرطب والبسر ; لأن ذلك كله يسمى تمرا قال : ولا يخلو من أن يكون الرطب والتمر جنسا واحدا أو جنسين مختلفين ، فإن كانا جنسا واحدا فلا بأس ببيع بعضه ببعض مثلا بمثل يدا بيد ، وإن كانا جنسين فذلك أحرى أن يجوز متفاضلا ، ومثلا بمثل لقوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم قال : وإنما يراعى الربا في حال العقد ، ولا يراعى في المآل . والحجة عليه للشافعي ، ومن قال بقوله - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد راعى المآل في حديث سعد بن أبي وقاص ، وقال : أينقص الرطب إذا يبس ؟ فهذا نص واضح في مراعاة المآل ، وقد نص أيضا على بيع العنب بالزبيب أنه لا يجوز أصلا ، فكذلك الرطب بالتمر ، وسنبين معنى قوله : أينقص الرطب ؟ في آخر هذا الباب إن شاء الله ، واختلف الفقهاء أيضا في بيع الرطب بالرطب ، والبسر بالرطب ، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : لا بأس ببيع الرطب بالرطب مثلا بمثل ، ولا بأس ببيع البسر بالبسر مثلا بمثل ، وقال أبو حنيفة : يجوز بيع البسر بالرطب مثلا بمثل ، وهو قول داود .

[ ص: 183 ] وقال مالك وأبو يوسف ، ومحمد : لا يجوز بيع الرطب بالبسر على حال ، وراعى محمد بن الحسن في الرطب بالتمر ، وما كان مثله - المآل ، مراعاة لا يؤمن معها عدم المماثلة ، فقال : إذا أحاط العلم أنهما إذا يبسا تساويا جاز .

وقال الشافعي : لا يجوز بيع الرطب بالرطب ، ولا البسر بالبسر ، ولا كل ما ينقص في المتعقب إذا أريد بقاؤه ، وحجته حديث سعد عن النبي عليه السلام أنه قال : أينقص الرطب إذا يبس ؟ فراعى المآل في ذلك كله إذا أريد به البقاء ، فقياس قوله أنه لا يجوز العنب بالعنب ، ولا التين الأخضر بالتين الأخضر إذا أريد تجفيف ذلك ويبسه ، لا مثلا بمثل ، ولا متفاضلا ، وذلك كله جائز عند مالك مثلا بمثل .

وقياس قول أبي حنيفة : أن التين الأخضر باليابس جائز مثلا بمثل كالعنب بالزبيب ، والرطب بالتمر ، والبسر بالرطب .

وقال أبو يوسف : يجوز بيع الحنطة باليابسة يعني الرطبة بالماء ، فأما الرطبة من الأصل يعني الفريك ، فلا يجوز باليابسة .

وقال الشافعي ، ومالك وأصحابهما ، ومحمد بن الحسن ، والليث بن سعد : لا يجوز بيع الحنطة المبلولة باليابسة كما لا يجوز الفريك بها .

وقال أبو حنيفة : يجوز بيع الحنطة الرطبة والمبلولة باليابسة ، وقال محمد : لا يجوز ; إلا أن يحيط العلم بأنهما إذا يبست المبلول أو الرطبة تساويا .

ولم يختلف قول أبي حنيفة وأصحابه في جواز بيع العنب بالزبيب مثلا بمثل ، فهذا خلاف السنة الثابتة ، والله المستعان ، والذي أقول : إنهم لو علموا نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عن ذلك نصا ، وثبت عندهم ما خالفوه ; فإنما دخلت عليهم الداخلة من قلة اتساعهم في علم السنن ، وغير جائز [ ص: 184 ] أن يظن بهم أحد إلا ذلك ، ولو خالفوا السنة جهارا بغير تأويل لسقطت عدالتهم ، وهذا لا يجوز أن يظن بهم مع اتباعهم ما صح عندهم من السنن ، فهذا شأن العلماء أجمع .

ولكن الحجة في السنة ، وفي قول من قال بها وعلمها ، لا في قول من جهلها وخالفها ، وبالله التوفيق .

قال أبو عمر :

أجمعوا أنه لا يجوز عندهم العجين بالعجين لا متماثلا ولا متفاضلا لا خلاف بينهم في ذلك ، وكذلك العجين بالدقيق ، فإذا طبخ العجين ، وصار خبزا جاز بيعه عند مالك بالدقيق متفاضلا ومتساويا ; لأن الصناعة قد كملت فيه ، وأخرجته - فيما زعم أصحابه - عن جنسه ، واختلف الغرض فيه . وقول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد في بيع الدقيق بالخبز كقول مالك ، وأما الشافعي فلا يجوز عنده الخبز بالدقيق على حال لا متساويا ولا متفاضلا ، ولا يجوز عند الشافعي بيع العسل بالعسل ; إلا أن يكون في أحدهما شيء من الشمع ، فإذا كان كذلك جاز مثلا بمثل ، ولا يجوز عنده بيع الخل بالخل لجهل ما في واحد منهما من الماء ، وكذلك الشبرق بالشبرق ، ولا يجوز عنده على اختلاف من قوله ، وقياس قوله أنه لا يجوز الفطير بالخمير ، ولا الخبز بالخبز أصلا - والله أعلم - .

واختلف قول الشافعي في بيع الدقيق بالدقيق ، واختلف أصحابه في ذلك ، ولم يختلف قول الشافعي في بيع الحنطة بالدقيق : إنه لا يجوز ، واختلف أصحابه في ذلك ، واختلف قول الشافعي في بيع الشيرج [ ص: 185 ] بالشيرج هل يجوز أم لا ؟ فمرة أجازه مثلا بمثل ، وكذلك الدقيق بالدقيق ; ومرة كره ذلك على كل حال . وقال الأوزاعي : لا يجوز السمن بالودك إلا مثلا بمثل ، وكذلك الشحم غير المذاب بالسمن ; إلا أن يريد أكله ساعتئذ فيجوز ، وأما القمح بالدقيق ، فاختلف قول مالك فيه فمرة أجازه مثلا بمثل ، وهو المشهور من مذهبه الظاهر فيه ، وهو قول الليث ، ومرة منع منه ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابهما ، وقد روي عن عبد العزيز بن أبي سلمة مثل ذلك ، وروي عنه أن ذلك جائز على كل حال ، ولا خلاف عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز بيع الدقيق بالحنطة ، ولا بيع قفيز من حنطة بقفيز من سويق ، وهو قول الشافعي .

قال أبو عمر :

قول أبي حنيفة وأصحابه في كراهية بيع الحنطة بالدقيق متساويا - نقض لقولهم في جواز بيع العنب بالزبيب ، ونقض لقول أبي حنيفة في جواز بيع الرطب بالتمر - والله أعلم - ; إلا أنهم يعتلون بأن الطحين لا يخرج البر عن جنسه ، وأن المماثلة لا يمكن فيهما مع الأمر في ذلك ، ولذلك لم يجيزوا بيع بعضهما ببعض أصلا .

وقال مالك : لا بأس بالحنطة بالدقيق مثلا بمثل ، ولا بأس بالسويق بالقمح متفاضلا ، وهو قول الليث في السويق بالقمح أيضا .

وقال الأوزاعي : تصلح القلية ( بالقمح ) مثلا بمثل ، ولا بأس به وزنا .

[ ص: 186 ] قال الطحاوي : منع الأوزاعي من المماثلة في الكيل ، وأجازها في الوزن ، ولم نجد ذلك عن أحد من أهل العلم سواه .

وقال شعبة : سألت الحكم ، وحمادا ، عن الدقيق بالبر فكرهاه .

وعن شعبة أيضا قال : سألت ابن شبرمة عن الدقيق بالبر فقال : شيء لا بأس به ، وأما السويق بالدقيق وبالحنطة فأجازه مالك متفاضلا ، ومتساويا ، وهو قول أبي يوسف ، وأبي ثور .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز مثلا بمثل ، ولا متفاضلا .

وروى ابن سماعة ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة : أنه لا يجوز إلا مثلا بمثل ، وهو قول الثوري .

وقال مالك : لا تباع الجديدة بالسويق إلا مثلا بمثل ; لأنه سويق كله ; إلا أن بعضه دون بعض .

وقال الأوزاعي : لا تباع الجديدة بالسويق ، ولا بالدقيق إلا وزنا .

وعند الشافعي : لا يباع شيء من ذلك كله بعضه ببعض على حال ، وأما الخبز بالدقيق فلا بأس بذلك متفاضلا ، وعلى كل حال عند مالك ، والثوري ، وأبي ثور ، وإسحاق .

وقال الشافعي : لا يجوز بيع الدقيق بالخبز على حال من الأحوال لا متفاضلا ولا متساويا ، وهذا قول عبيد الله بن الحسن .

وقال أحمد بن حنبل : لا يعجبني الخبز بالدقيق ، وكذلك لا يجوز عند الشافعي وعبد الله بن الحسن بيع الخبز بالخبز أيضا ، لا متساويا ولا متفاضلا ، وقال مالك في الخبز : إذا تحرى أن تكون مثلا بمثل فلا بأس به ، وإن لم يوزن ، وهو قول الأوزاعي ، وأبي ثور ، وقد روي عنهم أن ذلك لا يجوز [ ص: 187 ] إلا وزنا ، وقال الشافعي : كل ما داخله الربا في التفاضل ، فلا يجوز فيه التحري .

وروي عن أبي حنيفة أنه قال : لا بأس بالخبز قرصا بقرصين .

قال أبو عمر :

هذا خطأ عندي ، وغلط فاحش لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الطعام إلا مثلا بمثل ، هذا عند الجميع في الجنس الواحد ، ومعلوم أن خبز البر كله طعام جنس واحد ، وكذلك خبز الشعير كله جنس واحد ، وكل واحد منهما تبع لأصله عند العلماء ، فمن جعل البر والشعير صنفا واحدا فخبر ذلك كله عنده جنس واحد على أصل قوله ، ومن جعل كل واحد منهما غير صاحبه ، وجعله جنسا على حدة ، فخبز كل واحد منهما صنف وجنس غير صاحبه إلا الشافعي ، وعبيد الله بن الحسن ; فإنهما لا يجيزان شيئا من الخبز بعضه ببعض لما يدخله من الماء والنار ، والأصل عندهما فيه أنه دقيق بدقيق لا يوصل إلى المماثلة فيه .

وعند الليث بن سعد : كل ما يخبز صنف واحد من الحبوب كلها ، وقد روي عن مالك مثل ذلك .

قال أبو عمر :

إنما أجاز أبو حنيفة الخبز قرصا بقرصين لأنه لم يدخل عنده ذلك في الكيل الذي هو أصله ، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا عنده ; لأن الربا عنده وعند أصحابه لا يدخل إلا فيما يكال أو يوزن ، وأصل الدقيق [ ص: 188 ] عنده والبر الكيل لا الوزن ، وأظن الخبز عندهم ليس من الموزونات ; لأنه يجب عنده على مستهلكه القيمة لا المثل على أصلهم في ذلك - والله أعلم - .

وأجمع العلماء على أن التمر بالتمر لا يجوز إلا مثلا بمثل ، واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين ، والحبة الواحدة بالحبتين ، فقال الثوري ، والشافعي : لا يجوز ذلك ، وهو قول أحمد ، وإسحاق ، وهو عندي قياس قول مالك .

وذكر الطحاوي قال : حدثنا أبو حازم قال : حدثنا ابن أبي زيدون ، عن الفريابي ، عن سفيان الثوري قال : لا يجوز تمرة بتمرتين ، ولا تمرة بتمرة .

قال أبو حازم : ما أحسن معناه في هذا ، ذهب إلى أن ذلك كله أصل الكيل ، وإلى أن التمرة بالتمرتين وبالتمرة غير مدرك بالكيل .

قال أبو عمر :

أما تمرة بتمرة فلا أدري ما في ذلك عند مالك والشافعي ومن تابعهما على القول بأن التمرة بالتمرتين لا يجوز ؟ ، والذي أقوله في ذلك على أصلهما أن المماثلة إن أمكنت في التمرة بالتمرة بالوزن جاز ذلك - والله أعلم - . وقول الثوري حسن جدا لعدم المماثلة في التمرة بالتمرة ، وعدم الكيل الذي هو أصلها ، ولأن ما كان أصله الكيل ; فلا يرد إلى الوزن عندهم إلا مع الاضطرار .

[ ص: 189 ] قال أبو عمر :

لا حاجة بأحد إلى بيع تمرة بتمرة فلا وجه للتعرض إلى مثل هذه الشبهة فيما لا ضرورة ولا حاجة بالناس إليه ، وقد احتج من أجاز التمرة بالتمرتين بأن مستهلك التمرة والتمرتين تجب عليه القيمة ، فقال : إنه لا مكيل ولا موزون فجاز فيه التفاضل ، وهذا - عندي غير لازم ; لأن ما جرى فيه الربا في التفاضل دخل قليله وكثيره في ذلك قياسا ونظرا ، والله الموفق للصواب .

وقال مالك : لا يجوز البيض بالبيض متفاضلا ; لأنه يدخر ، ويجوز عنده مثلا بمثل ; قال : ويجوز بيع الصغير منه بالكبير . وبيض الدجاج ، وبيض الأوز ، وبيض النعام إذا تحرى ذلك أن يكون مثلا بمثل - جاز .

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : جائز بيضة ببيضتين وبأكثر ، وجائز التفاضل في البيض لأنه ليس مما يدخر .

وقال الأوزاعي : لا بأس ببيضة ببيضتين يدا بيد ، وجوزة بجوزتين ، ولا يجوز عند الشافعي بيضة ببيضتين ، ولا رمانة برمانتين ، ولا بطيخة ببطيختين لا يدا بيد ولا نسيئة ; لأن ذلك كله طعام مأكول ، وقد قدمت لك أصله ، وأصل غيره من الفقهاء فيما يدخله الربا ، وعلة كل واحد منهم في ذلك - في غير موضع من كتابنا هذا ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا .

وقال مالك : لا يباع اللحم الرطب بالقديد ، ولا مثلا بمثل ، ولا متفاضلا ; قال : وكذلك اللحم المشوي بالنيئ لا يجوز متساويا ، ولا متفاضلا ، ولا بأس عند مالك بالطري بالمطبوخ مثلا بمثل متفاضلا إذا أثرت فيه الصنعة ، وخالفت الغرض منه ومن غيره ; قال [ ص: 190 ] الشافعي : لا يجوز بيع اللحم من الجنس الواحد مطبوخا منه بنيئ بحال إذا كان إنما يدخر مطبوخا ، وكذلك المطبوخ بالمطبوخ لا يجوز ; إلا أن يكون لا مرق فيه ، ويكون جنسا واحدا ، فيجوز مثلا بمثل ، وإن كان جنسين جاز فيه التفاضل والتساوي يدا بيد .

وذكر المزني عن الشافعي قال : اللحم كله صنف واحد ، وحشيه ، وإنسيه ، وطائره ، لا يجوز بيعه إلا مثلا بمثل ، وزنا بوزن ، وجعله في موضع آخر على قولين قال المزني : وقد قطع بأن ألبان البقر والغنم والإبل أصناف مختلفة ، فلحومها التي هي أصول الألبان أولى بالاختلاف .

وقال الشافعي في الإملاء على مسائل مالك المجموعة : إذا اختلفت أجناس الحيتان فلا بأس ببعضها ببعض متفاضلا ، وكذلك لحوم الطير إذا اختلفت أجناسها ، قال المزني : وفي هذا كفاية - يعني من قوله ومذهبه .

وقال الطحاوي : قياس قول أبي حنيفة وأصحابه أن لا يباع اللحم النيئ بالمشوي إلا يدا بيد مثلا بمثل ; إلا أن يكون في أحدهما شيء من التوابل ، فيكون الفضل لآخذ التوابل .

وذكر ابن خواز بنداد قال : قال أصحاب أبي حنيفة : يجيء على قول أبي حنيفة ألا يجوز النيئ بالمشوي كما قال في المقلوة بالبر ، ويبقى على قوله أيضا أنه يجوز كما قال في الحنطة المبلولة باليابسة قال ابن خواز بنداد : اختلط المذهب على أصحاب أبي حنيفة في هذه المسألة وليس له فيها نص .

وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والحسن بن حي : يجوز بيع شاتين مذبوحتين إحداهما بالأخرى ، ولو لم يكن معهما جلد لم يجز ; لأن اللحم باللحم لا يجوز إلا وزنا بوزن ، ولا يجوز فيه التحري .

وقال الشافعي : لا يجوز التحري فيما بعضه ببعض متفاضلا ربا .

[ ص: 191 ] وقال مالك والليث : لا يشترى اللحم بعضه ببعض إلا مثلا بمثل ، ويتحرى ذلك ، وإن لم يوزن ، ولا يباع المذبوح بالمذبوح إلا مثلا بمثل على التحري ، وكذلك الرأس بالرأسين .

وقال ابن خواز بنداد في باب بيع الرطب بالتمر : فإن قيل : قد اتفق الجميع أن شاة بشاتين جائز ، وإن كانت إحداهما أكثر لحما من الأخرى ، قيل له إن كان يراد بهما اللحم فلا يجوز بيع شاة بشاتين .

وقال مالك : لا يجوز خل التمر بخل العنب إلا مثلا بمثل ، وهو عنده جنس واحد لأن الغرض فيه واحد قال : وكذلك نبيذ التمر ، ونبيذ الزبيب ، ونبيذ العسل لا يجوز إلا مثلا بمثل إذا كان لا يسكر كثيره . قال مالك : وليس هذا مثل زيت الزيتون ، وزيت الفجل ، وزيت الجلجلان ; لأن هذه مختلفة ، ومنافعها شتى ، والغرض فيها مختلف .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا بأس بخل التمر بخل العنب : اثنان بواحد ، ولا يجوز عند الشافعي بيع الخل بالخل أصلا - إذا كان الأصل فيه واحدا .

وذكر ابن خواز بنداد عن الشافعي بيع الخل أنه قال في الزيوت : كل زيت منها جنس بنفسه ، فزيت الزيتون غير زيت الفجل ، وغير زيت الجلجلان .

وقال الليث بن سعد : كله صنف واحد لا يجوز إلا مثلا بمثل ، زيت الزيتون وزيت الجلجلان وزيت الفجل قال : ولا بأس بزيت الكتان بغيره من الزيت متفاضلا يدا بيد .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا في هذا الباب أصوله مستوعبة ، وذكرنا من فروعها كثيرا ليوقف [ ص: 192 ] بذلك على أصول مذاهب العلماء به ، ويوقف بذلك على المعنى الجاري فيه منها الربا في الزيادة .

وأما باب المزابنة في بيع الزيت بالزيتون ، واللحم بالحيوان ، والزبد باللبن ، والعنب بالعصير الحلو ، وما أشبه ذلك كله - فقد مضت منه أصول عند ذكر المزابنة في مواضع من كتابنا هذا ; منها : حديث داود بن الحصين وحديث ابن شهاب ، عن سعيد وحديث نافع ، عن ابن عمر ، وذكرنا هنالك من معنى المزابنة ما يوقف به على المراد من مذاهب العلماء في ذلك إن شاء الله .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : أينقص الرطب إذا يبس ؟ على ما في حديث هذا الباب ، فللعلماء فيه قولان : أحدهما ، وهو أضعفهما : أنه استفهام استفهم عنه أهل النخيل والمعرفة بالتمور والرطب ، ورد الأمر إليهم في علم نقصان الرطب إذا يبس ، ومن زعم ذلك قال : إن هذا أصل في رد المعرفة بالعيوب ، وقيم المتلفات إلى أرباب الصناعات . والقول الآخر ، وهو أصحهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستفهم عن ذلك ، ولكنه قرر أصحابه على صحة نقصان الرطب إذا يبس ; ليبين لهم المعنى الذي منه منع ، فقال لهم : أينقص الرطب ؟ أي أليس ينقص الرطب إذا يبس ، وقد نهيتكم عن بيع التمر بالتمر إلا مثلا بمثل ; فهذا تقرير منه وتوبيخ ، وليس باستفهام في الحقيقة ; لأن مثل هذا لا يجوز جهله على النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستفهام في كلام العرب قد يأتي بمعنى التقرير كثيرا ، وبمعنى التوبيخ كما قال الله عز وجل وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين فهذا استفهام معناه التقرير وليس معناه أنه استفهام عما جهل جل الله وتعالى عن ذلك ، ومن التقرير أيضا بلفظ الاستفهام قوله [ ص: 193 ] عز وجل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وقوله آلله خير أم ما يشركون وقوله وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي وهذا كثير ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : أينقص الرطب إذا يبس ؟ نحو قوله : أرأيت إن منع الله الثمرة ، فيم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ فإنه قد قال : أليس الرطب إذا يبس نقص ؟ فكيف تبيعونه بالتمر والتمر لا يجوز بالتمر إلا مثلا بمثل ، والمماثلة معروفة في مثل هذا ، فلا تبيعوا التمر بالرطب بحال ، فهذا أصل في مراعاة المآل في ذلك ، وهذا تقرير قوله - صلى الله عليه وسلم - عند من نزهه ونفى عنه أن يكون جهل أن الرطب ينقص إذا يبس ، وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى ، وبه التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية