التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
501 [ ص: 194 ] مالك ، عن عبد الله ( بن عبد الله ) بن جابر بن عتيك الأنصاري المعاوي - حديثان

وعبد الله هذا مدني تابعي ثقة ، روى عنه مالك ، وعبيد الله بن عمر ، وقد ذكرنا نسبه عند ذكر جده جبار بن عتيك في كتاب الصحابة .

حديث أول لعبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك

مالك ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية ، وهي قرية من قرى الأنصار فقال : هل تدرون أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجدكم هذا ؟ فقلت له : نعم ، وأشرت له إلى ناحية منه فقال لي : هل تدري ما الثلاث التي دعا بهن فيه ؟ فقلت له : نعم ، قال : فأخبرني بهن قال : فقلت : دعا بأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ، ولا يهلكهم بالسنين ، فأعطيهما ، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها ; قال : صدقت قال ابن عمر : فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة .


[ ص: 195 ] هكذا روى يحيى هذا الحديث بهذا الإسناد ، وقد اضطربت فيه رواة الموطأ عن مالك اضطرابا شديدا ، فطائفة منهم تقول كما قال يحيى : عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر ، لم يجعلوا بين عبد الله شيخ مالك هذا ، وبين ابن عمر أحدا ، منهم ابن وهب ، وابن بكير ، ومعن بن عيسى ، وطائفة منهم تقول عن مالك ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك ، عن عتيك بن الحارث بن عتيك أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر ، منهم ابن القاسم على اختلاف عنه ، وقد روي عنه مثل رواية يحيى ، وابن وهب ، وابن بكير ، وطائفة منهم تقول : مالك ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك ، عن جابر بن عتيك أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر . منهم : القعنبي على اختلاف ( عنه في ذلك ) ، والتنيسي ، وموسى بن أعين ، ومطرف .

قال أبو عمر :

رواية يحيى هذه أولى بالصواب عندي إن شاء الله - والله أعلم - من رواية القعنبي ، ومطرف لمتابعة ابن وهب ، ومعن ، وأكثر الرواة له على ذلك ، وحسبك بإتقان ابن وهب ، ومعن ؟ ، وقد صحح البخاري رحمه الله ، وأبو حاتم الرازي سماع عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك من ابن عمر .

أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أبو محمد جعفر بن أحمد بن عبد الله البزار ، بمصر قال : أخبرنا أبو الفضل جعفر بن أحمد بن عبد السلام البزار قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا عبد الله بن وهب قال : أخبرنا مالك ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال : [ ص: 196 ] جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية ، وهي قرية من قرى الأنصار فقال : هل تدري أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجدكم هذا ؟ فقلت : نعم ، وأشرت إليه إلى ناحية منه فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعا بهن فيه ؟ فقلت : نعم . قال : فأخبرني بهن ؟ فقلت : دعا بأن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ، ولا يهلكهم بالسنين ، فأعطيهما ، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها . فقال عبد الله بن عمر : صدقت فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة .

والدليل على أن رواية يحيى ، وابن وهب في إسناد هذا الحديث أصوب : أن عبيد الله بن عمر روى هذا الحديث ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك هذا ; كذلك حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : حدثني أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن عبيد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الله الأنصاري من بني معاوية : أن عبد الله بن عمر جاءهم فسأله أن يخرج له وضوءا . قال : فأخرجت له وضوءا فتوضأ ، ثم قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه في مسجدكم ، وسأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين ، ومنعه واحدة ; سأله أن لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم , فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يهلكهم بالسنين ، فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه ذلك .

وقد روى هذا الحديث سعد بنحو ما رواه جابر بن عتيك ، وعبد الله بن عمر ، ذكر يعقوب بن شيبة ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال : حدثنا عثمان بن حكم ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين ، وصلينا معه ، وناجى ربه طويلا ، ثم قال : سألت ربي ثلاثا : سألته ألا يهلك أمتي بالعدو فأعطانيها ، وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها .

[ ص: 197 ] قال أبو عمر :

في حديث مالك هذا من وجوه العمل : طرح العالم المسألة من العلم على تلميذه ، وسؤاله إياه عما هو أعلم به منه أو مثله ، ليقف على حفظه وعلى ما عنده من ذلك ، وفيه ما يفسر قوله عليه السلام إن لكل نبي دعوة يدعو بها فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي إن ذلك على وجه الأمنية والعطاء لا على وجه الدعاء ; لأن دعاءه كله أو أكثره مجاب إن شاء الله ; ألا ترى أنه قد أجيبت دعوته في أن لا يهلك أمته بالسنين ، ولا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستأصلهم ; فكيف يجوز أن يظن أحد أنه لم تكن له إلا دعوة واحدة يستجاب له فيها أو لغيره من الأنبياء ، هذا ما لا يتوهمه ذو لب إن شاء الله .

وقد مضى القول في هذا المعنى في باب أبي الزناد ، والحمد لله ، وفيه ما كان عليه ابن عمر من التبرك بحركات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتداء به ، وتأسيا بحركاته ، ألا ترى أنه إنما سألهم عن الموضع الذي صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجدهم ليصلي فيه تبركا بذلك ، ورجاء الخير فيه .

وفي قول ابن عمر لعبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك : أخبرني بهن ، ثم قوله له إذ أخبره بهن : صدقت - دليل على أنه قد كان يعلم ما سأل عنه - والله أعلم - ، وقد بان بحمد الله في هذا الحديث أن الله لا يهلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالسنين ، ولا يعمهم في أقطار الأرض بجوع وجدب ، وهذا يدل على أن الأرض كلها لا يعمها الجدب أبدا ; لأن أمته في أكثر أقطارها ، وإذا لم يعمهم الجدب والقحط والجوع ، فأحرى ألا يعم الأرض .

وفي هذا الحديث دليل واضح على أن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يزال إلى أن تقوم الساعة ، ولا يهلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - عدو يستأصلها أبدا ، وأنها في أكثر أقطار [ ص: 198 ] الأرض ، والحمد لله كثيرا ، وفيه دليل على أن الفتن لا تزال في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يقتل بعضها بعضا ما بقيت الدنيا ; لأنه قد منع - صلى الله عليه وسلم - ألا يجعل بأسهم بينهم . قال ابن عمر : فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : زويت لي الأرض أو قال : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكهم بسنة بعامة ، ولا يسلط عليهم عدوا من قبل أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، ولا أهلكهم بسنة بعامة ، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يسبي بعضا ، وبعضهم يهلك بعضا ، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى القيامة - وذكر تمام الحديث .

وأخبرنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا جعفر بن برقان قال : حدثنا يزيد بن الأصم ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تظهر الفتن ، ويكثر الهرج . قال : قلنا : وما الهرج ؟ قال : القتل ، وذكر الحديث .

[ ص: 199 ] وقال أبو عمر :

قد ثبت عن النبي عليه السلام من وجوه أن الهرج لا يزال إلى يوم القيامة ، والهرج بتسكين الراء : القتل ، وكذلك الرواية في هذا الحديث وغيره ، وأصل الهرج اختلاف الناس من غير رئيس ، وذلك يدعوهم إلى القتل ; قال عبد الله بن قيس الرقيات :


ليت شعري لأول الهرج هذا أم زمان يكون من غير هرج     إن يعش مصعب فنحن بخير
قد أتانا من عيشنا ما نرجي

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : أخبرنا محمد بن يحيى بن عمر بن علي قال : أخبرنا علي بن حرب قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمر ، وسمع جابر بن عبد الله يقول : لما نزلت قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعوذ بوجهك . أو من تحت أرجلكم قال : أعوذ بوجهك . أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال : هاتان أهون وأيسر .

ورواه حماد بن سلمة ، ومعمر ، وحماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر مثله سواء ; إلا أنهم قالوا في آخره : ويذيق بعضكم بأس بعض قال : هذه أهون ، وبعضهم قال : هذه أيسر ، وابن عيينة أثبت الناس في عمرو بن دينار .

وذكر عبد الرزاق وغيره ، عن عمر ، عن الزهري قال : راقب خباب بن الأرت - وكان بدريا - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، حتى إذا كان الصبح قال له : يا نبي الله لقد رأيتك الليلة تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها . قال : [ ص: 200 ] أجل ، إنها صلاة رغب ورهب ، سألت ربي فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألته ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم , فأعطاني ، وسألته أن لا يسلط علينا عدوا ، فأعطاني ، وسألته أن لا يلبسنا شيعا , فمنعني ، وذكر سنيد عن حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم قال : لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فأعفاهم منها ، أو يلبسكم شيعا قال : ما كان من الفتن والاختلاف ، قال ابن جريج : عذابا من فوقكم يقول : الرمي بالحجارة أو الغرق أو بعض ما عنده من العذاب أو من تحت أرجلكم قال : الخسف .

قال : وحدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة في قوله فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون قال : ذهب النبي عليه السلام وبقيت الفتنة ، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ، ولم يكن نبي إلا أري في أمته العقوبة إلا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع ، عن عبادة بن مسلم الفزاري ، عن جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه : اللهم إني أعوذ بك أن أغتال من تحتي ، يعني الخسف .

أخبرنا إبراهيم بن شاكر ، حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى ، حدثنا محمد بن أيوب بن حبيب ، حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا محمد بن المثنى ، وعمرو بن علي ، ومحمد بن معمر ، قالوا : حدثنا أبو عامر ، عن كثير بن زيد [ ص: 201 ] قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : حدثني جابر بن عبد الله قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الفتح ، وقال محمد بن المثنى : في مسجد قباء ثلاثا يوم الاثنين ، ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين . قال جابر : فلم ينزل في أمر مهم إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها ، فأعرف الإجابة .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار بندار قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا كثير قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : حدثنا جابر بن عبد الله قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الفتح ثلاثا ، يوم الاثنين ، ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين ، فعرف البشر في وجهه ، قال جابر : فلم ينزل في أمر مهم عائص إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة .

وحدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ، حدثنا محمد بن مروان البصري ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا كثير بن زيد قال : حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : حدثني جابر بن عبد الله قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره إلى آخره .

أخبرنا سعيد ، حدثنا قاسم قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن صقعب قال : حدثنا عطاء قال : ثلاث خلال تفتح فيهن أبواب السماء فاغتنموا الدعاء فيهن : عند نزول المطر ، وعند التقاء الرجفين ، وعند الأذان . وسيأتي من هذا المعنى في باب أبي حازم إن شاء الله ، وبه التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية