التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1821 [ ص: 224 ] حديث سادس لحميد الطويل ، عن أنس متصل صحيح

مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أنه قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه .


هذا يدل على أن كسب الحجام طيب ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوكل إلا ما يحل أكله ، ولا يجعل ثمنا ، ولا عوضا ، ولا جعلا بشيء من الباطل ، واختلف العلماء في هذا المعنى ، فقال قوم : حديث أنس هذا وما جاء في معناه من إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجام أجره ناسخ لما حرمه من ثمن الدم وناسخ لما كرهه من أكل إجارة الحجام .

حدثنا أحمد بن قاسم المقرئ ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : أخبرنا شعبة ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه أنه اشترى غلاما حجاما فكسر محاجمه ، أو أمر بها فكسرت .

وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم
، وهذا حديث صحيح ، وظاهره عندي على غير ما تأوله أبو جحيفة بدليل ما في حديث أنس هذا ; لأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم ليس من أجرة الحجام في شيء ، وإنما هو كنهيه عن ثمن الكلب وثمن الخمر والخنزير وثمن الميتة ، ونحو [ ص: 225 ] ذلك ، ولما لم يكن نهيه عن ثمن الكلب تحريما لصيده كذلك ليس تحريم ثمن الدم تحريما لأجرة الحجام ; لأنه إنما أخذ أجرة تعبه وعمله وكل ما ينتفع به فجائر بيعه والإجارة عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من السنة قص الشارب .

وقال : أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى وأمر بحلق الرأس في الحج فكيف تحرم الإجارة فيما أباحه الله ورسوله قولا وعملا ، فلا سبيل إلى تسليم ما تأوله أبو جحيفة ، وإن كانت له صحبة ; لأن الأصول الصحاح ترده ، فلو كان على ما تأوله أبو جحيفة كان منسوخا بما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

وقال آخرون : كسب الحجام فيه دناءة ، وليس بحرام . واحتجوا بحديث ابن محيصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في أكله وأمره أن يعلفه نواضحه ويطعمه رقيقه .

وكذلك روى رفاعة بن نافع ، قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الحجام وأمرنا أن نطعمه نواضحنا ، فهذا يدل على أنه نزههم عن أكله ، ولو كان حراما لم يأمرهم أن يطعموه رقيقهم ; لأنهم متعبدون فيهم كما تعبدوا في أنفسهم . هذا قول الشافعي وأتباعه وأظن الكراهة منهم في ذلك من أجل أنه ليس يخرج مخرج الإجارة لأنه غير مقدر ، ولا معلوم ، وإنما هو عمل يعطى عليه عامله ما تطيب به نفس معمول له ، وربما لم تطب نفس العامل بذلك فكأنه شيء قد نسخ بسنة الإجارة والبيوع والجعل المقدر المعلوم . وهكذا دخول الحمام عند بعضهم ، وقد بلغني أن طائفة من الشافعيين كرهوا دخول الحمام ، إلا بشيء معروف وإناء معلوم وشيء [ ص: 226 ] محدود يوقف عليه من تناول الماء وغيره ، وهذا شديد جدا ، وفي تواتر العمل بالأمصار في دخول الحمام وأجرة الحجام ما يرد قولهم . وحديث أنس هذا شاهد على تجويز أجرة الحجام بغير سوم ، ولا شيء معلوم قبل العمل ; لأنه لم يذكر ذلك فيه ، ولو ذكر لنقل ، وحسبك بهذا حجة ، وإذا صح هذا كان أصلا في نفسه وفيما كان مثله ، ولم يجز لأحد رده ، والله أعلم .

أخبرنا سعيد بن سيد وعبد الله بن محمد بن يوسف ، قالا : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : سمعت أبا جعفر السبتي ، يقول : لم يكن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجام لتحريم ، إنما كان على التنزه وكانت قريش تكره أن تأكل من كسب غلمانها في الحجامة ، وكان الرجل في أول الإسلام يأخذ من شعر أخيه ولحيته ، ولا يأخذ منه على ذلك شيئا .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان ، عن يحيى ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، عن السائب بن يزيد ، عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث

وهذا الحديث لا يخلو أن يكون منسوخا منه الحجام بحديث أنس وابن عباس والإجماع على [ ص: 227 ] ذلك ، أو يكون على جهة التنزه كما ذكرنا ، وليس في عطف ثمن الكلب ومهر البغي عليه ما يتعلق به في تحريم كسب الحجام ; لأنه قد يعطف الشيء على الشيء وحكمه مختلف ، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع والحمد لله .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن عبد الله المهراني ، حدثنا محمد بن الوليد القرشي ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، حدثنا خالد الحذاء ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره .

قال ابن عباس : ولو كان به بأس لم يعطه . هكذا قال خالد الحذاء ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ، ولو علمه خبيثا لم يعطه ، وفي هذا الحديث إباحة الحجامة ، وفي معناها إباحة التداوي كله بما يؤلم ، وبما لا يؤلم إذا كان يرجى نفعه ، وقد بينا ما للعلماء في إباحة التداوي والرقى من الاختلاف والتنازع ، وما في ذلك من الآثار في باب زيد بن أسلم والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية