التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1804 [ ص: 234 ] حديث رابع لعبد الرحمن بن أبي صعصعة

مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن سليمان بن يسار أنه قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة بنت الحارث فإذا ضباب فيها بيض ، ومعه عبد الله بن عباس ، وخالد بن الوليد فقال : من أين لكم هذا ؟ فقالت : أهدته إلي أختي هزيلة بنت الحارث ، فقال لعبد الله بن عباس ، وخالد بن الوليد : كلا . فقالا : ولا تأكل يا رسول الله ؟ فقال : إني تحضرني من الله حاضرة ، قالت ميمونة : أنسقيك يا رسول الله من لبن عندنا ؟ قال : نعم فلما شرب قال : من أين لكم هذا ؟ فقالت : أهدته إلي أختي هزيلة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيتك جاريتك التي كنت استأمرتني في عتقها ، أعطيها أختك ، وصلي بها رحمك ترعى عليها ، فإنه خير لك .


[ ص: 235 ] قال أبو عمر :

هكذا قال يحيى فإذا ضباب فيها بيض ، وقال ابن القاسم فإذا بضباب فيها بيض ، وقال القعنبي ، وابن نافع ، وابن بكير ، ومطرف : فأتي بضباب قال القعنبي : فيهن بيض ، وقال غيره : فيها ، وقال يحيى : أرأيتك ، وقال غيره : أرأيت ، وقال يحيى : وصلي بها رحمك ، وقال غيره : وصليها بها ترعى عليها ، والمعاني في ذلك كله متقاربة ، وكذلك ألفاظ الرواة في الموطأ في متون الأحاديث متقاربة متدافعة ، ولم يختلف الرواة للموطأ في إسناد هذا الحديث وإرساله على حسبما ذكرناه عن يحيى ، وقد رواه بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار ، عن ميمونة ; فأما ما في هذا الحديث من ذكر الضب ، وامتناع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أكله ، وإذنه لخالد بن الوليد ، وعبد الله بن عباس في أكله ، فقد مضى هذا المعنى مسندا في حديث ابن شهاب ، عن أبي أمامة من كتابنا هذا ، ومضى أيضا في الضب حديث مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي عليه السلام ، وقد ذكرنا في باب عبد الله بن دينار ما لفقهاء الأمصار من الاختلاف في أكل الضب ، وما نزعت به كل فرقة وذهبت إليه من الآثار في ذلك - بأبسط ما يكون وأوضحه ، فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك ، فلا معنى لإعادة ما مضى من ذلك هاهنا .

أما قوله في هذا الحديث فقال : إني تحضرني من الله حاضرة فمعناه - إن صحت هذه اللفظة ؛ لأنها لا توجد في غير هذا الحديث - معناها ما [ ص: 236 ] ظهر في حديث ابن عباس ، وخالد بن الوليد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيه : لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه .

وقد روي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قذر الضب فلم يأكله ، وقد بينا المعنى في ذلك كله في باب ابن شهاب ، وعبد الله بن دينار ، والحمد لله .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سليمان اليشكري ، عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم الضب ، ولكن قذره ، وأن الله لينفع به غير واحد ، وأنه لطعام الرعاء ، ولو كان عندي لأكلته .

حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أهدت خالتي أم حفيد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطا ، وسمنا ، وأضبا ، فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقط ، والسمن ، ولم يأكل من الأضب ، وأكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان حراما لم يؤكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث من أصح ما يروى من المسندات في معنى حديث هذا الباب المرسل ، وأظن أم حفيد المذكورة في حديث ابن عباس هذا هي هزيلة أم حفيد ; لأن أم ابن عباس هي أم الفضل بنت الحارث أخت ميمونة ، وأخت هزيلة أم حفيد ; فهزيلة المذكورة في حديث مالك هي أم حفيد - والله أعلم - ، ومن تدبر ذلك في الحديثين لم يخف عليه إن شاء الله .

[ ص: 237 ] وما نزع به ابن عباس فحجة واضحة ; لأنه لو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث آمرا بالمعروف ، وناهيا عن المنكر ، ومعلما - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تكرر هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا بما فيه شفاء وبيان ، والله المستعان .

وفي هذا الحديث أيضا الأكل من الصدقة ، وقبولها ، وفيه أن الصدقة على الأقارب وذوي الأرحام أفضل من العتق ، ولهذا ما سيق هذا الحديث ، وما كان مثله في معناه .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى من وجوه متصلة ومنقطعة صحاح :

أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا هناد بن السري ، عن عبدة ، عن ابن إسحاق ، وأخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يعلى قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن سليمان بن يسار ، عن ميمونة قالت : كانت لي جارية فأعتقتها ، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بعتقها فقال : آجرك الله ، أما إنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك .

ورواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير ، عن كريب ، عن ميمونة ، والقول في إسناد هذا الحديث قول ابن إسحاق - والله أعلم - .

وعند ابن إسحاق في هذا الحديث إسناد آخر : أخبرنا محمد بن إبراهيم ، [ ص: 238 ] قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم قال : حدثنا أسد بن موسى .

ووجدت في أصل سماع أبي بخطه رحمه الله أن محمد بن أحمد بن قاسم حدثهم قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ميمونة : أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - خادما ، فأعطاها خادما فأعتقتها ، فقال لها : ما فعلت الخادم : قلت : يا رسول الله أعتقتها قال : أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك .

أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : أخبرنا مسلمة بن القاسم قال : أخبرنا محمد بن ريان قال : أخبرنا محمد بن رمح قال : أخبرنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عراك بن مالك أن عروة بن الزبير أخبره : أن رجلا من بني غفار لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصحبه ، وترك أبويه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان يمهن لأبويك قال : أنا ، فأخدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خادما ، فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أياما ، ثم سأله عن العبد ما فعل ؟ قال : أعتقته قال : لو أعطيته أبويك كان خيرا لك .

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الديلي قال : حدثنا عبد الحميد بن صبيح قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : أن ميمونة أعتقت جارية لها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفلا أعطيتها أختك الأعرابية .

قال أبو عمر :

يعني هزيلة ، وهي أم حفيد - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية