التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
727 [ ص: 296 ] حديث سادس لعبد الرحمن بن القاسم

مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت .


هذا حديث صحيح ثابت لا يختلف أهل العلم بالحديث في صحته وثبوته ، ولكن الفقهاء اختلفوا في القول به على حسب ما ذكرناه في باب حميد بن قيس من كتابنا هذا ، وذكرنا اعتلال كل طائفة لمذهبها في ذلك من جهة الأثر والنظر هناك ، وسنذكر هاهنا فيه من جهة الأثر ما لم يقع هناك إن شاء الله .

وهذا الحديث روي عن عائشة من وجوه ، فممن رواه عنها : القاسم ، وسالم ، وعروة ، والأسود ، ومسروق ، وعمرة ، وممن رواه عن القاسم ابنه عبد الرحمن ، وأفلح بن حميد ، ورواه عن عروة ابن شهاب وعثمان بن عروة وهشام بن عروة ، ولم يسمعه هشام من أبيه ، إنما سمعه من أخيه عثمان ، عن أبيه .

[ ص: 297 ] وروى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن القاسم - يحيى بن سعيد الأنصاري ، ومنصور بن المعتر ، والثوري ، وحماد بن سلمة ، وابن عيينة وغيرهم .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد ، حدثنا الحسن بن مخلد العطار ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يحل .

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعيد . قال : أخبرنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن . قال : أخبرنا أحمد بن شعيب . قال : أخبرنا حسين بن منصور بن جعفر النيسابوري . قال : حدثنا عبد الله بن نمير . قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين أحرم ، ولحله حين أحل .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم . قال : حدثنا محمد بن معاوية . قال : حدثنا أحمد بن شعيب . قال : أخبرنا أحمد بن حرب . قال : حدثنا ابن إدريس ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأطيب ما أجد لحرمه ولحله ، وحين يريد أن يزور البيت .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد . قال : حدثنا حمزة بن محمد بن علي . قال : حدثنا أحمد بن شعيب . قال : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم . قال : حدثنا هشيم . قال : أخبرنا منصور عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن القاسم [ ص: 298 ] . قال : قالت عائشة : طيبت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن . قال : حدثنا محمد بن عمر بن يحيى . قال : حدثنا علي بن حرب . قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة . قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين لحرمه حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت . قالت : ولا أعلم أن المحرم يحله غير الطواف بالبيت .

حدثنا خلف بن القاسم . قال : حدثنا وجيه بن الحسن . قال : حدثنا بكار بن قتيبة . قال : حدثنا أبو عامر العقدي . قال : حدثنا أفلح بن حميد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت .

حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد . قال : حدثنا التميمي . قال : حدثنا عيسى بن مسكين . قال : حدثنا سحنون . قال : حدثنا ابن وهب . قال : أخبرني أسامة بن زيد ، وأفلح بن حميد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة . قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي لحرمه حين أحرم ، ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت .

. قال ابن وهب : وأخبرني أسامة بن زيد . قال : حدثني أبو بكر بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة مثله .

أخبرنا سعيد بن نصر . قال : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي . قال : حدثنا عبد الله بن الزبير . قال : حدثنا سفيان . قال : سمعت الزهري يحدث عن عروة ، عن [ ص: 299 ] عائشة قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين لحرمه حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت .

ورواه الأوزاعي . قال فيه عنه : عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : وطيبته لإحلاله طيبا لا يشبه طيبكم هذا - يعني ليس له بقاء . هكذا رواه ضمرة بن ربيعة ، عن الأوزاعي .

ورواه عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي بإسناده مثله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان . قال : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا أحمد بن زهير . قال : حدثنا أبي . قال : حدثنا سفيان بن عيينة . قال : حدثنا عثمان بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين بأطيب الطيب . قال أحمد بن زهير قال : حدثنا أبي . قال سفيان بن عيينة : قال عثمان بن عروة : هشام يرويه عني .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى . قال : حدثنا محمد بن عمر بن يحيى . قال : حدثنا علي بن حرب . قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة . قال : سألتها : بأي شيء كنت تطيبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ . قالت بأطيب طيب .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان . قال : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة . قال : حدثنا أبي . قال : حدثنا هشام ، عن ابن جريج . قال : أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة ، سمع عروة ، والقاسم بن محمد يخبران عن عائشة قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذريرة في حجة الوداع في الحل والإحرام .

[ ص: 300 ] أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين بأطيب ما أجد .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا أحمد بن يحيى بن الوزير ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عن عثمان بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : لقد كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه بأطيب ما أجد .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن الصباح ، قال : حدثنا إسماعيل بن زكريا ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم .

ورواه الثوري ، وشعبة ، عن منصور والأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة مثله سواء ; إلا أنهم قالوا في موضع المسك : الطيب .

ورواه عبد الرحمن بن الأسود ، وأبو إسحاق ، عن الأسود ، عن عائشة مثله بمعناه .

[ ص: 301 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الحسن بن عبيد الله . قال : حدثنا إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم .

حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا روح بن الفرج أبو الزنباع ، قال : حدثنا أبو زيد بن أبي الغمر ، قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عائشة قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغالية الجيدة .

وهذا الحديث بهذا اللفظ وهذا الإسناد - لم يروه إلا أبو زيد بن أبي الغمر ، وقد أنكروه عليه .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير . قال : حدثنا أبي . قال : حدثنا وكيع . قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة . قالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يلبي .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو ، عن سالم ، عن عائشة . قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه قبل أن يحرم ، ولحله بعد ما رمى الجمرة ، وقبل أن يزور .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي [ ص: 302 ] إسحاق ، عن الأسود ، عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتطيب قبل أن يحرم ، فترى أثر الطيب في مفرقه بعد ثلاث .

أخبرنا أحمد بن محمد . قال : حدثنا وهب بن مسرة . قال : حدثنا ابن وضاح . قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة . قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة . قالت : رأيت بصيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث ، وهو محرم .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان . قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ . قال : حدثنا أبو إسماعيل الترمذي . قال : حدثنا الحميدي . قال : حدثنا سفيان . قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة أنها قالت : رأيت الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثالثة - وهو محرم .

قال أبو عمر :

فذهب قوم إلى القول بهذه الآثار ، وقالوا : لا بأس أن يتطيب المحرم قبل إحرامه بما شاء من الطيب - ومسكا كان أو غيره مما يبقى عليه بعد إحرامه - ولا يضره بقاؤه عليه بعد إحرامه إذا تطيب قبل إحرامه ; لأن بقاء الطيب عليه ليس بابتداء منه ، وليس بمتطيب بعد الإحرام ، وإنما المنهي عنه التطيب بعد الإحرام ، قالوا : ولا بأس أن يتطيب أيضا إذا رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت ، وحجتهم فيما ذهبوا إليه من ذلك كله حديث عائشة هذا ، وهو حديث ثابت ، وقد عملت به عائشة رضي الله عنها ، وجماعة من الصحابة : منهم سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن جعفر [ ص: 303 ] وأبو سعيد الخدري ، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق ، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وزفر ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وكل هؤلاء يقول : لا بأس أن يتطيب قبل أن يحرم ، وبعد رمي جمرة العقبة .

قرأت على أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره ، قال : حدثنا عبد الله بن يونس . قال : حدثنا بقي بن مخلد . قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة . قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه . قال : رأيت عائشة تنكت في مفارقها الطيب قبل أن تحرم ، ثم تحرم .

. قال أبو بكر : وحدثنا وكيع ، عن محمد بن قيس ، عن الشعبي . قال : كان سعد يتطيب عند الإحرام بالذريرة .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عائشة بنت سعد ، عن سعد مثله .

وذكر أبو بكر ، حدثنا وكيع ، عن عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وابن الزبير أنهما كانا لا يريان بالطيب عند الإحرام بأسا .

. قال : وحدثنا وكيع عن محمد بن قيس ، عن الشعبي . قال : كان عبد الله بن جعفر يموت المسك ، ثم يجعله على يافوخه قبل أن يحرم .

. قال : وحدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى . قال : رأيت عبد الله بن الزبير ، وفي رأسه ولحيته من الطيب ، وهو محرم ، ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس ماله .

[ ص: 304 ] . قال : وحدثنا وكيع ، وأبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ابن الزبير ، أنه كان يتطيب بالغالية الجيدة عند إحرامه .

. قال : وحدثنا أبو أسامة ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن ابن عباس كان لا يرى بأسا بالطيب عند إحرامه ، ويوم النحر .

وذكر عبد الرزاق ، عن الأسلمي ، عن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن زينب أن أبا سعيد الخدري كان يدهن بألبان عند الإحرام . قال : وأخبرنا الأسلمي . قال : أخبرني صالح مولى التوأمة - أنه سمع ابن عباس يقول : إني لأتطيب بأجود ما أجد من الطيب إذا أردت أن أحرم ، وإذا حللت قبل أن أفيض .

وذكر أبو بكر . قال : حدثنا وكيع ، عن علي ، عن كثير بن بسام ، عن ابن الحنفية ، أنه كان يغلف رأسه بالغالية الجيدة إذا أراد أن يحرم .

وعبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن شهاب ، أن عروة كان يتطيب عند الإحرام بألبان والذريرة ، وهو مذهب القاسم ، والشعبي ، وإبراهيم ، وقال آخرون ، منهم مالك وأصحابه : لا يجوز أن يتطيب المحرم قبل إحرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام ، وإذا أحرم حرم عليه الطيب حتى يطوف بالبيت ، وهذا مذهب عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعبد الله بن عمر ، وعثمان بن أبي العاص ، وبه قال عطاء ، والزهري ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وإليه ذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، وهو اختيار الطحاوي .

وحجة من ذهب هذا المذهب من جهة الأثر : حديث يعلى بن أمية ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمر الرجل الذي أحرم بعمرة وعليه طيب خلوق أو غيره ، [ ص: 305 ] وعليه جبة - أن ينزع عنه الجبة ، ويغسل الطيب ، وادعوا الخصوص في حديث عائشة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أملك الناس لأربه ، ولأن ما يخاف على غيره من تذكر الجماع الممنوع منه في الإحرام مأمون منه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : لو كان على عمومه للناس عامة ما خفي على عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، مع علمهم بالمناسك وغيرها ، وجلالتهم في الصحابة ، وموضع عطاء من علم المناسك موضعه ، وموضع الزهري من علم الأثر موضعه .

ذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء . قال : أخبرني صفوان بن يعلى ، أن يعلى كان يقول لعمر : أرني نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه ، فلما كان بالجعرانة ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب أظل به عليه ، معه خمسة ناس من أصحابه منهم : عمر بن الخطاب ; إذ جاء رجل عليه جبة متضمخ بطيب فقال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب ؟ فسكت ساعة ، فجاءه الوحي ، فأشار عمر إلى يعلى بيده أن تعالى ، فجاء وأدخل رأسه ، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه يغط كذلك ساعة ، ثم سري عنه ; فقال : أين السائل عن العمرة آنفا ؟ فالتمس الرجل فأتي به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك .

قال ابن جريج : كان عطاء يأخذ في الطيب للمحرم بهذا الحديث . قال ابن جريج : وكان عطاء يكره الطيب عند الإحرام ، ويقول : إن كان به شيء منه فليغسله ولينقه ، وكان يأخذ بشأن صاحب الجبة . . قال ابن جريج : [ ص: 306 ] وكان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع ، والآخر ، فالآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع .

قال أبو عمر :

مذهب ابن جريج في هذا الباب خلاف مذهب عطاء ، وحجته أن الآخر ينسخ الأول - حجة صحيحة ، ولا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والأثر أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان ، وحديث عائشة عام حجة الوداع ، وذلك سنة عشر ، فإذا لم يصح الخصوص في حديث عائشة فالأمر فيه واضح جدا ، وقد ذكرنا خبر يعلى بن أمية ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة صاحب الجبة من طرق شتى في باب حميد بن قيس من كتابنا هذا ، وذكرنا هناك كثيرا من اعتلال الطائفتين للمذهبين ، والحمد لله .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر أنه أخبره عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : وجد عمر بن الخطاب طيبا وهو بالشجرة ، فقال : ما هذا الريح ؟ فقال معاوية : مني ، طيبتني أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - . فتغيظ عليه عمر ، وقال : منك ! لعمري أقسمت عليك لترجعن إلى أم حبيبة فلتغسله عنك كما طيبتك ، وكان الزهري يأخذ بقول عمر فيه .

وروى مالك ، عن نافع ، عن أسلم مولى عمر ، عن عمر - أنه وجد ريح طيب ، وهو بالشجرة فذكر مثله .

ورواه أيوب ، عن نافع ، عن أسلم ، عن عمر مثله سواء ، وزاد : قال : فرجع معاوية إليها حتى لحقهم ببعض الطريق ، ومالك ، عن الصلت بن زبيد ، عن غير واحد من أهله ، أن عمر بن الخطاب وجد ريح طيب ، وهو [ ص: 307 ] بالشجرة ، وإلى جنبه كثير بن الصلت فقال عمر : ممن هذه الريح ؟ فقال كثير : مني ، لبدت رأسي ، وأردت أن أحلق . قال عمر : فاذهب إلى شربة فادلك رأسك حتى تنقيه ، ففعل كثير بن الصلت .

قال أبو عمر :

الشربة مستنقع الماء عند أصول الشجر حوض يكون مقدار ريها ، وقال ابن وهب : هو الحوض حول النخلة يجتمع فيها الماء ، وأنشد أهل اللغة في هذا المعنى من شاهد الشعر قول زهير :


ينهضن من شربات ماؤها طحل على الجذوع يخفن الغم والغرقا

وهذا مما عيب على زهير ، وقالوا : أخطأ لأن خروج الضفادع من الماء ليس مخافة الغرق ، وإنما ذلك لأنهن يبضن على شطوط الماء ، ومن هذا قول كثير عزة :


من الغلب من عضدان هامة     شربت بسقي وجمت للنواضح بيرها

فمعنى قوله : شربت أي جعلت لها شرب ، والعضيد والعضد والعضدان قالوا : بنات النخل ، والشربات : جمع شربة ، والشرب : جمع شرب .

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة . قال : حدثنا وكيع . قال : حدثنا محمد بن قيس ، عن بشير بن يسار الأنصاري . قال : لما أحرموا وجد عمر ريح طيب فقال : ممن هذه الريح ؟ فقال البراء بن عازب : مني يا أمير المومنين ، قال : قد علمنا أن امرأتك عطرة أو عطارة ، إنما الحاج الأنفر الأغبر . . قال : وحدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن الزهري ، أن عمر بن الخطاب دعا بثوب [ ص: 308 ] فأتي بثوب فيه ريح طيب فرده . ومالك ، عن نافع وعبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة ، وعلمهم أمر الحج ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء أو الطيب ، لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت .

وكيع ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه أن عثمان رضي الله عنه رأى رجلا قد تطيب عند الإحرام ، فأمره أن يغسل رأسه بطين .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد . قال : أخبرنا حمزة بن محمد . قال : حدثنا أحمد بن شعيب . قال : أخبرنا هناد بن السري ، عن وكيع ، عن مسعر وسفيان ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه قال : سمعت ابن عمر يقول : لأن أصبح مطليا بقطران أحب إلي من أن أصبح محرما أنضخ طيبا . فدخلت على عائشة فأخبرتها بقوله فقالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف في نسائه ، ثم أصبح محرما . قال : وأخبرنا حميد بن مسعدة ، عن بشر بن المفضل . قال : حدثنا شعبة ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه قال : سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال : لأن أطلى بالقطران أحب إلي من ذلك ، فذكرت ذلك لعائشة فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، قد كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطوف على نسائه ، ثم يصبح ينضخ طيبا قد ذكرنا ما للعلماء في معنى قوله في هذا الحديث ينضخ طيبا ، وتقصينا القول في الطيب للمحرم بما في ذلك من الاعتلال ، والنظر ، ومعاني الأثر ممهدا ، ذلك كله في باب حميد بن قيس من كتابنا هذا ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا .

[ ص: 309 ] وذكر عبد الرزاق . قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم . قال : كان ابن عمر يترك المجمر قبل الإحرام بجمعتين . وأبو بكر قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن برد ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يحرم ترك إجمار ثيابه قبل ذلك بخمس عشرة . قال : وحدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن ابن جريج ، عن عطاء أنه كره الطيب عند الإحرام ، وقال : إن كان به منه شيء فليغسله ولينقه . قال : وحدثنا عبد الله بن نمير ، عن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير أنه كان يكره للمحرم حين يحرم أن يدهن بدهن فيه مسك أو أفواه أو عبير . قال : وحدثنا عبد الأعلى ، عن هشام ، عن محمد أنه كان يكره أن يتطيب الرجل عند إحرامه . قال : وحدثنا عبد الأعلى عن هشام ، عن الحسن مثل ذلك ، ويحب أن يحيى أشعث أغبر .

قال أبو عمر :

قد أجمعوا على أنه لا يجوز للمحرم بعد أن يحرم أن يمس شيئا من الطيب حتى يرمي جمرة العقبة ، واختلفوا في ذلك إذا رمى الجمرة قبل أن يطوف بالبيت على ما ذكرنا ، وأجمعوا أنه إذا طاف بالبيت طواف الإفاضة يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة أنه قد حل له الطيب ، والنساء ، والصيد ، وكل شيء ، وتم حله ، وقضى حجه ، وهاهنا مسائل كثيرة ، للعلماء فيها تنازع على أصولهم هي فروع ليس من شرطنا ذكرها ، وفي هذا الباب للفقهاء حجج من جهة النظر ، قد ذكرنا منها ما عليه مدار الباب عند ذكر حديث حميد بن قيس ، عن عطاء في قصة الأعرابي صاحب الجبة - لا وجه لإعادتها هاهنا ، وجملة القول على مذهب مالك في هذا الباب أن الطيب عنده للإحرام وبعد العقبة - ليس بحرام ، وإنما هو مكروه ، ومال فيه إلى اتباع عمر ، وابن عمر لقوة ذلك عنده ، وبالله التوفيق .

[ ص: 310 ] ذكر مالك ، عن يحيى بن سعيد ، وعبد الله بن أبي بكر ، وربيعة أن الوليد بن عبد الملك سأل سالم بن عبد الله ، وخارجة بن زيد بن ثابت بعد أن رمى الجمرة ، وحلق رأسه ، وقبل أن يفيض - عن الطيب ، فنهاه سالم ، وأرخص له خارجة ، وروى جماعة عن مالك أنه أخذ في هذه المسألة بقول خارجة ، ولم ير على من تطيب بعد رمي جمرة العقبة وقبل أن يطوف طواف الإفاضة - شيئا ، وإن كان يكره له ذلك ، وأخذه في هذا بقول خارجة ترك لقول عمر ومذهبه في ذلك ; لأن عمر قال : من رمى جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء ، والطيب ، ومعلوم أنه إذا لم يحل له الطيب فهو حرام عليه ، وتلزمه الفدية إن تطيب قبل الإفاضة على مذهب عمر ، وقد خالف مالك عمر أيضا في معنى حديثه هذا ; لأن مالكا يقول : لا يحل الاصطياد لمن رمى جمرة العقبة حتى يطوف طواف الإفاضة ، وقد قال عمر : إلا النساء والطيب ، ولم يقل : والصيد .

وزعم بعض أصحاب مالك أن ذلك الموضع لم يكن موضع صيد ، فلذلك استغنى عن ذكره عمر - رحمه الله - وحجة مالك قول الله عز وجل وإذا حللتم فاصطادوا ومن لم يفض لم يحل كل الحل ; لأنه حرام من النساء عند الجميع ، وقال الشافعي ، وجماعة : من رمى جمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء .

قال أبو عمر :

فإذا طاف طواف الإفاضة فقد تم حجه ، وحل له كل شيء بإجماع ، وإنما رخص الشافعي ، ومن تابعه في الطيب لمن رمى جمرة العقبة [ ص: 311 ] لحديث عائشة : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت تريد بعد رمي جمرة العقبة ، ورخص في الصيد من أجل قول عمر إلا النساء ، والطيب ، ولم يقل : ( والصيد ) ، وقد قال الله عز وجل وإذا حللتم فاصطادوا ومن رمى جمرة العقبة فقد حل له الحلاق والتفث كله بإجماع ، فقد دخل تحت اسم الإحلال ، وفي هذه المسألة ضروب من الاعتلال تركتها ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية