التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
994 حديث ثالث لعبد ربه بن سعيد مرسل تتصل معانيه من وجوه شتى صحاح كلها مالك ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صدر من حنين - وهو يريد الجعرانة سأله الناس حتى دنت به ناقته من شجرة فتشبكت بردائه حتى نزعته عن ظهره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ردوا علي ردائي ، أتخافون أن لا أقسم بينكم ما أفاء الله عليكم ؟ والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما ، لقسمته بينكم ، ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا . فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في الناس فقال : أدوا الخائط والمخيط [ ص: 38 ] فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة ؛ قال : ثم تناول من الأرض وبرة من بعير أو شيئا ، ثم قال : والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس - والخمس مردود عليكم .


لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث عن عمرو بن شعيب ، وقد روي متصلا عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكمل من هذا المساق , وأتم ألفاظا من رواية الثقات .

وروى هذا الحديث أيضا الزهري ، عن عمر بن أخي محمد بن جبير بن مطعم ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، ورواه معمر ، ويونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده ، وروي أيضا عن ابن كعب بن مالك ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنذكر هذه الأحاديث وغيرها مما في معنى حديث مالك هذا في هذا الباب بعد القول بما فيه من المعاني - إن شاء الله . في هذا الحديث دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة حنين وغنم فيها - وإن كان هذا لا يحتاج إلى دليل لثبوت معرفة ذلك عند العامة والخاصة من العلماء ، ولكن ذكرنا ذلك ، لأن بمثل هذا الحديث وشبهه عرف ذلك . وفيه إباحة سؤال العسكر للخليفة حقوقهم من الغنيمة أن يقسمه بينهم ، وفيه جواز قسم الغنائم في دار الحرب ؛ لأن الجعرانة كانت يومئذ من دار الحرب ، وفيها قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين ، وذلك موجود في حديث جبير بن مطعم ، وجابر ؛ وقسمة الغنائم في دار الحرب موضع اختلف فيه العلماء ، فذهب مالك والشافعي [ ص: 39 ] والأوزاعي وأصحابهم إلى أن الغنائم يقسمها الإمام على العسكر في دار الحرب ، قال مالك : وهم أولى برخصها ، وقال أبو حنيفة : لا تقسم الغنائم في دار الحرب . وقال أبو يوسف : أحب إلي ألا تقسم في دار الحرب إلا أن لا يجد حمولة فيقسمها في دار الحرب . قال أبو عمر : القول الصحيح في هذه المسألة ما قاله مالك والشافعي والأوزاعي ، ولا وجه لقول من خالفهم في ذلك من معنى صحيح ، مع ثبوت الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه . وفيه جواز مدح الرجل الفاضل الجليل لنفسه , ونفيه عن نفسه ما يعيبه بالحق الذي هو فيه ؛ وعليه إذا دفعت إلى ذلك ، ضرورة أو معنى يوجب ذلك فلا بأس بذلك ؛ وقد قال الله عز وجل - حاكيا عن يوسف - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إني حفيظ عليم . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أنا أول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع ، وأول مشفع ، وأنا سيد ولد آدم - ولا فخر . ومثل هذا كثير في السنن ، وعن علماء السلف ، لا ينكر ذلك إلا من لا علم له بآثار من مضى . وفيه دليل - والله أعلم - على أن الخليفة على المسلمين لا يجوز أن يكون كذابا ولا بخيلا ولا جبانا . وقد أجمع العلماء على أن الإمام يجب أن لا تكون فيه هذه الخلال السوء ، وأن يكون أفضل أهل وقته حالا ، وأجملهم خصالا ؛ وقد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين البخل والجبن والكذب ، وأكثر الآثار على هذا ؛ وفي [ ص: 40 ] ذلك ما يعارض حديث صفوان بن سليم أن المؤمن يكون جبانا وبخيلا ، ولا يكون كذابا ؛ وقد ذكرنا هذا المعنى بما يجب فيه من القول في باب صفوان - والحمد لله .

وأجمع الحكماء على أن الكذب في السلطان أقبح منه في غيره ، وأنه من أكبر عيوبه وأهدمها لسلطانه ، لأنه لا يوثق منه بوعد ولا وعيد ؛ وفي الكذب في الوعد والوعيد فساد أمره - كما قال معاوية لعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - إن فساد هذا الأمر بأن يعطوا على الهوى لا على الغناء ، وأن يكذبوا في الوعد والوعيد ؛ وكذلك البخل والجبن في السلطان ، أقبح وأضر وأشد فسادا منه على غيره ، وللكلام في سيرة السلطان موضع غير كتابنا هذا .

ويروي أهل الأخبار أن عبد الملك بن مروان كتب إلى ابن عمر أن بايع الحجاج ، فإن فيك خصالا لا تصلح معها للخلافة - وهي : البخل والغيرة والعي . ويروى أن ذلك كان من معاوية إليه - والله أعلم - في بيعة يزيد وهو خبر لا إسناد له ؛ فجاوبه ابن عمر : ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) اللهم إن ابن مروان يعيرني بالبخل والغيرة والعي ، فلو وليت وأعطيت الناس حقوقهم وقسمت بينهم فيئهم ، أي حاجة كان بهم حينئذ إلى مالي فيبخلوني ؟ ولو جلست لهم في مجالسهم فقضيت حوائجهم لم تكن لهم حاجة إلى بيتي فيعرفوا غيرتي ؛ وما من قرأ كتاب الله ووعظ به بعيي وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : أدوا الخائط والمخيط ، فالخائط واحد الخيوط المعروفة ، والمخيط الإبرة . ومن روى أدوا الخياط والمخيط ، فإن الخياط قد [ ص: 41 ] يكون الخيوط ، وقد يكون الخياط والمخيط بمعنى واحد وهي الإبرة . ومنه قول الله عز وجل : ( حتى يلج الجمل في سم الخياط ) - يعني ثقب الإبرة ، ولا خلاف أن المخيط - بكسر الميم - الإبرة . وقال الفراء : ويقال : خياط ومخيط ، كما قيل : لحاف وملحف ، وقناع ومقنع ، وإزار ومئزر ، وقرام ومقرم ؛ وهذا كلام خرج على القليل ليكون ما فوقه أحرى بالدخول في معناه كما قال عز وجل : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ومعلوم أن من يعمل أكثر من مثقال ذرة أحرى أن يراه . وفي هذا الحديث دليل على أن الغلول كثيره وقليله حكمه حرام نار ، قال : الله عز وجل ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) وقد ذكرنا في معنى الغلول وحكمه وحكم الغال وحكم عقوبته ما فيه كفاية في باب ثور بن زيد من كتابنا هذا وأما قوله في هذا الحديث : فإن الغلول عار ونار وشنار يوم القيامة ، فالشنار لفظة جامعة لمعنى العار والنار ، ومعناها الشين والنار ، يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا ، ونار وعذاب في الآخرة . والغلول مما لا بد فيه من المجازاة ، لأنه من حقوق الآدميين - وإن لم يتعين صاحبه ، فإن جملة أصحابه متعينة ، وهو أشد في المطالبة ، ولا بد من المجازاة فيه بالحسنات والسيئات - والله أعلم . [ ص: 42 ] حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أبو بكر محمد بن عمير الخطاب الضرير ، حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف ، حدثنا عبد العزيز بن يحيى ، حدثنا مالك بن أنس ، - وهو أوثق من سمعناه منه - عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت لأخيه عنده مظلمة في مال أو عرض ؛ فليأته فليستحله منها قبل أن يؤخذ منه يوم القيامة - وليس ثم دينار ولا درهم ، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته لصاحبه ، وإلا أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه . رواه جماعة عن مالك وعن ابن أبي ذئب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة - لم يقولوا عن أبيه ، وإنما قال فيه عن أبيه - يحيى بن أيوب العلاف - وحده - والله أعلم . وأما قوله : ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس - والخمس مردود عليكم - فإنه أراد : إلا الخمس فإنه إلي أعمل فيه برأيي ، وأرده عليكم باجتهادي ؛ لأن الأربعة الأخماس من الغنيمة مقسومة على الموجفين ممن حضر القتال على الشريف والمشروف والرفيع والوضيع والغني والفقير - بالسواء ، للفارس ثلاثة أسهم - إذا كان حرا ذكرا غير مستأجر ؛ وللراجل منهم سهم واحد ، وليس للرأي والاجتهاد في شيء من ذلك مدخل ، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء قرنا بعد قرن وراثة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما اختلف فيه من سهم الفارس - على ما قد ذكرناه في باب نافع عن ابن عمر ؛ فإن من أهل العلم طائفة منهم أبو حنيفة يقولون للفارس سهمان ، والجمهور على أن للفرس سهمين ولراكبه : سهما ثلاثة أسهم . وقد قال جماعة من أهل العلم إن هذا الحديث فيه نفي الصفي ، لقوله - عليه السلام - وقد أخذ وبرة من البعير والذي نفسي بيده - ما لي مما أفاء الله عليكم - ولا مثل هذه إلا الخمس - والخمس مردود عليكم . [ ص: 43 ] وقال آخرون ممن أوجب الصفي : كان هذا القول منه قبل أن يجعل الله له الصفي . وقال آخرون : يحتمل أن يكون سكت عن الصفي ، لمعرفتهم به إذ خاطبهم ؛ وقالت طائفة : لا صفي - ولم تعرفه واحتجت بظاهر هذا الحديث . قال أبو عمر : سهم الصفي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلوم ، وذلك أنه كان يصطفي من رأس الغنيمة شيئا واحدا له عن طيب أنفس أهلها ثم يقسمها بينهم على ما ذكرنا ؛ وأمر الصفي مشهور في صحيح الآثار ، معروف عند أهل العلم ولا يختلف أهل السير أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت من الصفي . روى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت كانت صفية من الصفي . وروى عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس بن مالك ، قال : لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر واصطفى صفية بنت حيي لنفسه ، خرج بها . وذكر الحديث ، رواه الدراوردي ويعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن عمرو . وفي هذا الحديث - إن صح - أن الصفي كان قبل خيبر ، لأن خيبر كانت قبل حنين ، وقد خولف عمرو بن أبي عمرو في لفظ هذا الحديث عن أنس . وفي الصفي أيضا حديث أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير ، وهو حديث رواه قرة ، وسعيد بن أبي عروبة عنه قال : قرأت كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني زهير بن أقيش ، فإذا فيه : من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني زهير بن أقيش ، إنكم [ ص: 44 ] إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم ، وسهم النبي عليه السلام ، والصفي ، أو قال : وسهم الصفي - فأنتم آمنون بأمان الله ورسوله . وروى أبو حمزة عن ابن عباس - في حديث وفد عبد القيس عن النبي - عليه السلام - أنه قال : وتعطوا سهم الله من المغانم ، والصفي . وروى عمر بن عبد الواحد ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاء ، فكانت صفية من ذلك السهم ؛ وكان إذا لم يغز بنفسه ، ضرب له بسهم ولم يخيب . أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : أخبرنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا محمد بن بشار ، قال حدثنا أبو عاصم ، وأزهر , قالا حدثنا ابن عون ، قال : سألت محمدا - يعني ابن سيرين - عن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والصفي ؟ فقال : كان يضرب له بسهم مع المسلمين - وإن لم يشهد ، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء . قال : وحدثنا محمد بن كثير ، قال : أخبرنا سفيان ، عن مطرف ، عن الشعبي ، قال : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة ، وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس . قال أبو عمر : قد أجمع العلماء طرا على أن سهم الصفي ليس - لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم - فارتفع القول في ذلك ، إلا أن أبا ثور حكي عنه ما يخالف هذا الإجماع ، قال : يؤخذ الصفي ويجري مجرى سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن كان بينهم الصفي ثابتا . [ ص: 45 ] قال أبو عمر : الآثار المرفوعة في الصفي متعارضة ، وليس فيه عن الصحابة شيء يثبت ؛ وأما سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فللعلماء في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخمس أقوال منها : أنه يرد إلى من سمي في الآية ، قال : ذلك طائفة من أهل العلم ، ورأوا أن يقسم الخمس أرباعا . وقال آخرون : هو إلى الخليفة بعده يصرفه فيما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف فيه . وقال آخرون : يجعل في الخيل والعدة في سبيل الله ، وممن قال هذا : قتادة ، وبه قال أحمد بن حنبل ؛ وقال الشافعي : يضع الإمام سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر ينفع الإسلام : من سد ثغر ، وكراع ، وسلاح ، وإعطاء أهل العناء والبلاء في الإسلام , والنفل عند الحرب . وأما أبو حنيفة ، فقال : سهم الرسول وسهم ذي القربى سقطا بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ويقسم الخمس على ثلاثة أسهم لليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وأما مالك - رحمه الله - فقال : يجعل الخمس في بيت المال ويجتهد الإمام في قسمه , إلا أنه لم يسقط سهم ذي القربى ، وقال : يعطيهم الإمام ويجتهد في ذلك . وأما اختلافهم في قسم الخمس ، فعلى ما أصف لك : قال مالك : قسمة الخمس كقسمة الفيء ، وهما جميعا يجعلان في بيت المال ؛ قال : ويعطى أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهما على ما يرى الإمام ، قال : ويجتهد في ذلك ، فإن تكافأ أهل البلدان في الحاجة ، بدأ بالذي المال فيهم ؛ وإن كان بعض البلدان أشد حاجة ، نقل إليهم أكثر المال . قال : ابن القاسم : وكان مالك يرى التفضيل في العطاء على قدر الحاجة ، ولا يخرج مال من بلد إلى بلد غيره حتى يعطى أهل البلد الذي فيه المال ما يغنيهم على وجه النظر والاجتهاد ؛ قال : ويجوز أن يجيز الوالي على وجه الدين أو الأمر يراه قد استحق به الجائزة . قال : والفيء حلال للأغنياء [ ص: 46 ] وقال : سفيان الثوري : الفيء حكمه ما صولح عليه الكفار ، والغنيمة ما غلبوا عليه قسرا ؛ قال : وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخمس هو خمس الخمس ، وما بقي من الخمس فللطبقات التي سمى الله في آية الخمس . قال الطحاوي : فهذا من قول الثوري يدل على أن سهم ذوي القربى باق بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الثوري : في موضع آخر : الخمس إلى الإمام يضعه حيث أراه الله ، وهذا كقول مالك سواء . وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم : للفقراء ، والمساكين ، وابن السبيل ، فأسقط بينهم ذا القربى . وقال : أبو يوسف سهم ذي القربى مردود على من سمى الله - عز وجل - في الآية ، قال : وخمس الله والرسول واحد . قال أبو عمر : الآية : قول الله عز وجل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية ، والغنيمة : ما أخذ عنوة ، وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب وأجلوه من ديارهم وتركوه بالرعب ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرت بالرعب . وقال الشافعي في الغنيمة : الخمس كما قال الله عز وجل - قال : وفي الفيء الخمس أيضا ، قال : الغنيمة : ما أوجف عليه بخيل أو ركاب وهي لمن حضر الوقيعة من غني أو فقير بعد إخراج الخمس ، قال : ويقسم الخمس على من سمى الله - عز وجل - قال : وسهم ذي القربى لبني هاشم وبني المطلب غنيهم وفقيرهم [ ص: 47 ] فيه سواء للذكر مثل حظ الأنثيين ، وخالفه المزني وأبو ثور ، فقالا : الذكر والأنثى فيه سواء . قال الشافعي : والفيء : ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، وفيه الخمس أيضا . قال : وعطاء المقاتلة في الفيء والنساء والذرية ، ولا بأس أن يعطى الرجل أكثر من كفايته ؛ وليس للمماليك فيه شيء ، ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة ، قال : ويسوى في العطاء كما فعل أبو بكر . وقال الأوزاعي : خمس الغنيمة مقسوم على من سمى الله في الآية . وقال محمد بن جرير : يقسم الخمس على أربعة أسهم ، لأن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مردود على من سمي معه في الآية ، قياسا على ما أجمعوا عليه فيمن عدم من سهمان الصدقات . قال : وأجمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم الخمس على ست ، فعلم بذلك أن قوله - عز وجل - لله مفتاح كلام ، وكذلك قال : أكثر أهل التفسير ؛ قال : ويقسم سهم ذي القربى على بني هاشم بن عبد مناف ، وبني المطلب بن عبد مناف : الذكر والأنثى في ذلك سواء ; لأنهم إنما استحقوه باسم القرابة قال أبو عمر : أما قول الشافعي : إن في الفيء خمسا ، فقول ضعيف لا وجه له من جهة النظر الصحيح ولا الأثر ؛ وأما قوله وقول من تابعه على أن ذوي القربى الذين عنوا بالآية في خمس الغنيمة هم بنو هاشم وبنو المطلب ، فهو موجود صحيح من حديث ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، قال : قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني هاشم وبني المطلب من الخمس ، وقال : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد - الحديث . وليس في هذا الباب حديث مسند غير هذا ، وهو حديث صحيح ؛ وبه قال الشافعي : وأبو ثور ، وروي عن ابن عباس ، ومحمد بن الحنفية - [ ص: 48 ] أن ذوي القربى الذين عنى الله في آية الخمس ، هم أهل البيت - يعني بني هاشم . وعن عمر بن عبد العزيز : أنه بعث إلى بني هاشم سهم الرسول ، وسهم ذي القربى ؛ ومن مذهبه أيضا أن يقسم الخمس أخماسا كمذهب الشافعي ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج ، ومسلم بن خالد الزنجي . قال أبو عمر : وأما اعتلال الفقهاء واعتلال أصحابهم لمذاهبهم في هذا الباب ، فشيء لا يقوم به كتاب ، لأنه موضع اتسع لهم فيه القول وطال جدا ، ولا سبيل إلى اجتلاب ذلك في هذا الكتاب ، خشية التطويل والعدول عن المراد فيه ؛ وإنما ذكرنا مذاهب الفقهاء في قسمة الخمس ، لما جرى فيه من ذكر الخمس في حديث هذا الباب ؛ وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس - والخمس مردود عليكم . فذكرنا ما لأهل العلم في كيفية رد الخمس على أهله ، ووجه قسمته ، ليقف الناظر في كتابنا هذا على ذلك ؛ ولعلنا أن نفرد للخمس والفيء أيضا كتابا نورد فيه أقاويل العلماء من السلف والخلف ، بما لكل واحد منهم من وجوه الحجة والاعتلال لأقوالهم من جهة الأثر والنظر - إن شاء الله . وأما الأحاديث المسندة في معاني الحديث المرسل في هذا الباب : فأخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : أخبرني أبي قال حدثنا أحمد بن خالد ، قال حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال حدثنا حجاج بن منهال ، وأخبرنا قاسم بن محمد ، قال حدثنا خالد بن سعيد ، قال حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور ، قال حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر ، قال حدثنا موسى بن إسماعيل ، قالا جميعا حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتته وفود حنين فقالوا : يا محمد ، إنا [ ص: 49 ] أهل وعشيرة - فذكر الحديث ، وفيه قال : وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راحلته واتبعه الناس ، فقالوا : اقسم علينا فيئنا ، اقسم علينا فيئنا ، حتى ألجأوه إلى شجرة ، فخطفت رداءه ، فقال : يا أيها الناس ، ردوا علي ردائي فوالله لو أن لكم بعدد شجر تهامة نعما ، لقسمته بينكم ، ثم لا تلفونني جبانا ولا بخيلا ولا كذوبا ؛ ثم مال إلى راحلته ، فأخذ منها وبرة فوضعها بين أصبعيه ، ثم قال : أيها الناس إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ، ولا هذه إلا الخمس - والخمس مردود عليكم ؛ فأدوا الخيط والمخيط ; فإن الغلول يكون على أهله يوم القيامة عارا وشنارا ؛ فقام رجل ومعه كبة شعر ، فقال : يا رسول الله ، أخذت هذه لأصلح بها برذعة لي فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب ، فهو لك ؛ فقال : أما إذ بلغت ما أرى ، فلا أرب لي فيها - ونبذها . وهذا حديث متصل جيد الإسناد ، وقد أحاط بمعاني حديث مالك وألفاظه ؛ وزاد : وحدثنا سعيد بن نصر ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال حدثنا ابن أبي أويس ، قال : حدثني أبي ، عن ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : تعلق ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين بشجرة - والناس مجتمعون يسألونه المغانم ، فحسب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم أمسكوا بردائه ، فغضب وقال : أرسلوا ردائي تريدون أن تبخلوني ؛ فوالله لو أفاء الله عليكم مثل شجر تهامة نعما ، لقسمته بينكم ، ولا تجدوني بخيلا ، ولا جبانا ، ولا كذابا . فقالوا : إنما تعلقت بك سمرة فخلصوه . [ ص: 50 ] وأخبرنا عبد الرحمن بن مروان ، قال حدثنا أحمد بن سليمان بن عمرو البغدادي ، قال حدثنا أبو حفص عمر بن الحسن قاضي حلب ، قال حدثنا المسيب بن واضح ، قال حدثنا أبو إسحاق ، عن سفيان ، عن عبد الرحمن بن عياش ، عن سليمان بن موسى ، عن محكول ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، عن عبادة بن الصامت ، قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وبرة من جنب بعير فقال : أيها الناس ، إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس - والخمس مردود عليكم قال أبو عمر : عبد الرحمن بن عياش وقع عنده في أصل كتابه ، وإنما هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، روي هذا الحديث عن سليمان بن موسى الأشدق ، عن محكول ، عن أبي سلام الحبشي ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وبرة من جنب بعير ثم قال : أيها الناس إنه لا يحل لي من هذا الذي أفاء الله عليكم قدر - هذه إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ؛ فأدوا الخيط والمخيط ، وإياكم والغلول ، فإنه عار على أهله يوم القيامة ؛ وعليكم بالجهاد ، فإنه باب من أبواب الجنة ، يذهب الله به الغم والهم . قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الأنفال ويقول : ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم . هكذا ذكره علي بن المديني ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن سليمان بن موسى - بإسناده . وحدثنا محمد بن عبد الله بن حكم ، قال حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي ، قال حدثنا هشام بن عمار ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا أبو العلاء ، سمع أبا سلام الأسود ، يقول : [ ص: 51 ] سمعت عمرو بن عبسة يقول : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : لا يحل لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم . وحدثنا سعيد بن نصر ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال حدثنا ابن أبي أويس ، قال حدثنا أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد ابن أبي عتيق ، وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ، قال : أخبرني جبير بن مطعم ، أنه بينما هو يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الناس - مقفلة من حنين - اختلف عليه الأعراب فسألوه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه ، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العضاه نعما ، لقسمته بينكم ، ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا سلمة بن شبيب ، قال حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن همام ابن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوتيكم من شيء ولا أمنعكموه ، إن أنا إلا خازن أضع حيث أمرت .

التالي السابق


الخدمات العلمية