التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1461 [ ص: 157 ] حديث رابع لعمرو بن يحيى مرسل .

مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار .


لم يختلف ، عن مالك في إسناد هذا الحديث وإرساله هكذا ، وقد رواه الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه كثير بن عمرو بن عوف ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإسناد كثير هذا ، عن أبيه ، عن جده غير صحيح .

وأما معنى هذا الحديث فصحيح في الأصول ، وقد ثبت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حرم الله من المؤمن دمه ، وماله ، وعرضه ، وأن لا يظن به إلا الخير ، وقال : إن دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام ، يعني من بعضكم على بعض . وقال حاكيا عن ربه عز وجل : يا عبادي إني حرمت الظلم ( على نفسي ) فلا تظالموا ، وقال الله عز وجل : ( وقد خاب من حمل ظلما ) ، وأصل الظلم وضع الشيء غير موضعه ، وأخذه من غير وجهه ، ومن أضر [ ص: 158 ] بأخيه المسلم أو بمن له ذمة فقد ظلمه ، والظلم ظلمات يوم القيامة كما ثبت في الأثر الصحيح ، وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ، وللجار أن يغرز خشبه في جدار جاره .

قال أبو عمر :

كان شعبة ، والثوري يثنيان على جابر الجعفي ، ويصفانه بالحفظ والإتقان ، وكان ابن عيينة يذمه ويحكي عنه من سوء مذهبه ما يسقط روايته ، واتبعه على ذلك أصحابه : ابن معين وعلي ، وأحمد وغيرهم ، فلهذا قلت : إن هذا الحديث لا يستند من وجه صحيح ، والله أعلم .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار فقيل : إنهما لفظتان بمعنى واحد تكلم بهما جميعا على وجه التأكيد ، وقال ابن حبيب : الضرر عند أهل العربية : الاسم ، والضرار : الفعل . قال : ومعنى " لا ضرر " لا يدخل على أحد ضرر لم يدخله على نفسه ، ومعنى : " لا ضرار " لا يضار أحد بأحد ، هذا ما حكى ابن حبيب .

وقال الخشني : الضرر الذي لك فيه منفعة ، وعلى جارك فيه مضرة ، والضرار : الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة . وهذا وجه حسن المعنى في الحديث ، والله أعلم .

[ ص: 159 ] أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أبو علي الحسن بن سليمان قبيطة ، حدثنا عبد الملك بن معاذ النصيبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى بن عمارة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضر الله به ، ومن شاق شق الله عليه ، وقال غيره : الضرر والضرار : مثل القتل والقتال ، فالضرر أن تضر بمن لا يضرك ، والضرار أن تضر بمن قد أضر بك من غير جهة الاعتداء بالمثل والانتصار بالحق ، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم : أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ، وهذا معناه عند أهل العلم : لا تخن من خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك ، والنهي إنما وقع على الابتداء ، أو ما يكون في معنى الابتداء كأنه يقول : ليس لك أن تخونه وإن كان قد خانك ، كما لم يكن له أن يخونك أولا ، وأما من عاقب بمثل ما عوقب به وأخذ حقه ، فليس بخائن ، وإنما الخائن من أخذ ما ليس له أو أكثر مما له ، وقد اختلف الفقهاء في الذي يجحد حقا عليه لأحد ويمنعه منه ، ثم يظفر المجحود بمال الجاحد قد ائتمنه عليه ، ونحو ذلك ، فقال منهم قائلون : ليس له أن يأخذ حقه من ذلك ، ولا يجحده إياه ، واحتجوا بظاهر قوله : أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ، وقال آخرون : له أن ينتصف منه ، ويأخذ حقه [ ص: 160 ] من تحت يده ، واحتجوا بحديث عائشة في قصة هند مع أبي سفيان ، واختلف قول مالك في هذه المسألة على الوجهين المذكورين ، فروى الرواية الأولى عنه ابن القاسم ، وروى الأخرى عنه زياد بن عبد الرحمن ، وغيره . وللفقهاء في هذه المسألة وجوه ، واعتلالات ليس هذا باب ذكرها ، وإنما ذكرنا ههنا لما في معنى الضرار من مداخلة الانتصار بالإضرار ممن أضر بك ، والذي يصح في النظر ، ويثبت في الأصول أنه ليس لأحد أن يضر بأحد سواء أضر به قبل أم لا ، إلا أن له أن ينتصر ويعاقب إن قدر بما أبيح له من السلطان ، والاعتداء بالحق الذي له هو مثل ما اعتدي به عليه ، والانتصار ليس باعتداء ، ولا ظلم ، ولا ضرر إذا كان على الوجه الذي أباحته السنة ، وكذلك ليس لأحد أن يضر بأحد من غير الوجه الذي هو الانتصاف من حقه ، ويدخل الضرر في الأموال من وجوه كثيرة لها أحكام مختلفة ، فمن أدخل على أخيه المسلم ضررا منع منه ، فإن أدخل على أخيه ضررا بفعل ما كان له فعله فيما له ، فأضر فعله ذلك بجاره أو غير جاره ، نظر إلى ذلك الفعل : فإن كان تركه أكبر ضررا من الضرر الداخل على الفاعل ذلك في ماله إذا قطع عنه ما فعله - قطع أكبر الضررين ، وأعظمهما حرمة في الأصول ، مثال ذلك : رجل فتح كوة يطلع منها على دار أخيه ، وفيها العيال ، والأهل ، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن ، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم قد ورد فيه النهي ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يتحقق عليه من خلال باب داره : لو علمت أنك تنظر لفقأت عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر ، وقد جعل جماعة من أهل العلم من فقئت عينه في مثل هذا هدرا للأحاديث الواردة بمعنى ما ذكرت لك . وأبى ذلك آخرون وجعلوا فيه القصاص ، منهم مالك ، وغيره ، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الكوة ، والباب ما فتح ما له فيه منفعة وراحة ، وفي [ ص: 161 ] غلقه عليه ضرر ; لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين إذا لم يكن بد من قطع أحدهما , وكذلك من أحدث بناء في رحا ماء أو غير رحا فيبطل ما أحدثه على غيره منفعة قد استحقت ، وثبت ملكها لصاحبها منع من ذلك ; لأن إدخاله المضرة على جاره بما له فيه منفعة كإدخاله عليه المضرة بما لا منفعة فيه . ألا ترى أنه لو أراد هدم منفعة جاره وإفسادها من غير بناء يبنيه لنفسه لم يكن ذلك له ؟ فكذلك إذا بنى أو فعل لنفسه فعلا يضر به بجاره ويفسد عليه ملكه ، أو شيئا قد استحقه وصار ماله .

وهذه أصول قد بانت عللها ، فقس عليها ما كان في معناها تصب إن شاء الله .

وهذا كله باب واحد متقارب المعاني متداخل ، فاضبط أصله . ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع منه العلماء ، كدخان الفرن ، والحمام ، وغبار الأندر ، والأنتان ، والدود المتولدة من الزبل المبسوط في الرحاب ، وما كان مثل ذلك كله فإنه يقطع منه ما بان ضرره ، وبقي أثره ، وخشي تماديه ، وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض التراب ، والحصر عند الأبواب ، فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه ، وليس مما يستحق به شيء يبقى ، والضرر في منع مثل هذا أكبر وأعظم من الصبر على ذلك ساعة خفيفة ، وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر من أذاه على ما يقدر ، كما عليه أن لا يؤذيه وأن يحسن إليه ، ولقد أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يورثه ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ) ، ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) . [ ص: 162 ] أخبرنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن صالح بن عمر المقرئ قال : حدثنا أبو علي الحسن بن الطيب الكوفي قال : حدثنا سعيد بن أبي الربيع السمان البصري قال : حدثنا عنبسة بن سعيد قال : حدثنا فرقد السبخي ، عن مرة الطيب ، عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ملعون من ضار مسلما أو ماكره .

حدثنا أحمد بن فتح بن عبد الله قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حامد البغدادي المعروف بابن ثرثال قال : حدثنا الحسن بن الطيب بن حمزة الشجاعي البلخي قال : حدثنا سعيد بن أبي الربيع السمان قال : حدثنا عنبسة بن سعيد قال : حدثنا فرقد السبخي ، عن مرة الطيب ، عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ملعون من ضار أخاه المسلم أو ماكره وهذا حديث في إسناده رجال معروفون بضعف الحديث ، فليس مما يحتج به ، ولكنه مما يخاف عقوبة ما جاء فيه . ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك أنه سئل ، عن امرأة عرض لها - يعني مسا من الجن - فكانت إذا أصابها زوجها ، أو جنبت ، أو دنا منها اشتد ذلك بها ، فقال مالك : لا أرى أن يقربها ، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها . قال : وقال مالك : من مثل بامرأته فرق بينهما بتطليقة . قال : وإنما يفرق بينهما مخافة أن يعود إليها فيمثل بها أيضا كالذي فعل أول مرة ، وإنما ذلك في المثلة البينة التي يأتيها متعمدا ، مثل فقء العين ، وقطع اليد ، وأشباه ذلك ، قال : وقد يفرق بين الرجل وامرأته بما هو أيسر من هذا وأقل ضررا ، إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية