التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1041 مالك ، عن عمرو بن الحارث ، عن عبيد بن فيروز ، عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده ، وقال : أربعا - وكان البراء يشير بيده ، ويقول : " يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرجاء البين ظلعها ، والعوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي "


هكذا روى مالك هذا الحديث عن عمرو بن الحارث ، عن عبيد بن فيروز ، لم يختلف الرواة عن مالك في ذلك ، والحديث إنما رواه عمرو بن الحارث ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن عبيد بن فيروز ، عن البراء بن عازب فسقط ذكر سليمان بن عبد الرحمن ، ولا يعرف هذا الحديث إلا لسليمان بن عبد الرحمن هذا ، ولم يروه غيره ، عن عبيد بن فيروز ، ولا يعرف عبيد بن فيروز إلا بهذا الحديث ، وبرواية سليمان عنه ورواه ، عن سليمان جماعة من الأئمة منهم شعبة ، وعمرو بن الحارث ، ويزيد بن أبي حبيب ، وغيرهم .

[ ص: 165 ] وذكر ابن وهب هذا الحديث ، عن عمرو بن الحارث بن سعد ، وابن لهيعة أن سليمان بن عبد الرحمن حدثهم ، عن عبيد بن فيروز مولى بني شيبان ، عن البراء بن عازب ، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال : حدثنا محمد بن تميم قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قالا : حدثنا سحنون قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث بن سعد ، وابن لهيعة أن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثهم ، عن عبيد بن فيروز مولى بني شيبان ، عن البراء بن عازب الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأشار بإصبعه ، قال : وإصبعي أقصر من إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يشير بإصبعه يقول : لا يجوز من الضحايا أربع : العوراء البين عورها ، والعرجاء البين عرجها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء التي لا تنقي ، قال البراء بن عازب : فلقد رأيتني ، وإني لآتي الشاة قد تركت ، وأشير إليها ، فإذا أطرفت أخذتها فضحيت بها .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن عبيد بن فيروز قال : سألت البراء بن عازب : ما يتقى من الأضاحي ؟ قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي أقصر من يده فقال : العوراء البين عورها ، والعرجاء البين ظلعها ، والمريضة البين مرضها ، والكسيرة التي لا تنقي ، يعني المهزولة قال : قلت للبراء : إني لأكره أن يكون في القرن نقص ، أو في الأذن نقص ، أو في السن نقص ، قال : فما كرهته فدعه ، ولا تحرمه على أحد .

[ ص: 166 ] ووجدت في أصل سماع أبي بخطه - رحمه الله - أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان بن عبد الرحمن مولى بني أسد بن موسى قال : سمعت عبيد بن فيروز مولى بني شيبان قال : سألت البراء بن عازب : ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأضاحي ، وما نهى عنه ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ويدي أقصر من يده : أربع لا يجزين : العوراء البين عورها ، والعرجاء البين ظلعها ، والمريضة البين مرضها ، والكسيرة التي لا تنقي قال : قلت : فإني أكره أن يكون في السن نقص ، أو في الأذن نقص ، أو في القرن نقص ، قال : إن كرهت شيئا فدعه ولا تحرمه على أحد .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عفان ، وعاصم بن علي قالا : حدثنا شعبة ، عن سليمان بن عبد الرحمن مولى بني أسد قال : سمعت عبيد بن فيروز مولى بني شيبان قال : سألت البراء بن عازب : ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأضاحي ، وماذا نهى عنه ؟ فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله .

وروى هذا الحديث عثمان بن عمر ، عن الليث بن سعد ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية ، عن عبيد بن فيروز ، فأدخل بين سليمان وبين عبيد بن فيروز القاسم ، وهذا لم يذكره غيره . وقد ذكرنا من رواية شعبة ، عن سليمان بن عبد الرحمن : سمعت عبيد بن فيروز . وشعبة موضعه من الإتقان والبحث موضعه ، وابن وهب أثبت في الليث من عثمان بن عمر ، ولم يذكر [ ص: 167 ] ما ذكر عثمان بن عمر فاستدللنا بهذا أن عثمان بن عمر وهم في ذلك ، والله أعلم .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قراءة مني عليهما أن قاسم بن أصبغ حدثهما قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن إسماعيل بن أبي خالد الفدكي ، أنه حدثه أن البراء بن عازب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الأضاحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكره العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والمهزولة البين هزالها ، والمكسورة بعض قوائمها بين كسرها .

قال أبو عمر :

استدل بعض من ذهب إلى إيجاب الضحية فرضا بهذا الحديث ; لقوله فيه : أربع لا تجزئ ، أو : لا تجوز في الضحايا .

قالوا : فقوله : " لا تجزئ " دليل على وجوبها ; لأن التطوع لا يقال فيه : " لا يجزئ " قالوا : والسلامة من العيوب إنما تراعى في الرقاب الواجبة ، وأما التطوع فجائز أن يتقرب إلى الله فيه بالأعور ، وغيره ، قالوا : فكذلك الضحايا .

قال أبو عمر :

ليس في هذا حجة ; لأن الضحايا قربان سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتقرب به إلى الله عز وجل ، على حسب ما ورد به الشرع ، وهو حكم ورد به التوقيف ، فلا يتعدى به سنته صلى الله عليه وسلم ; لأنه محال أن يتقرب إليه بما قد نهي عنه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أخرنا القول في إيجاب الأضحية فرضا ، أو سنة ، أو تطوعا إلى باب يحيى بن سعيد من هذا الكتاب ، فهناك موضع القول في ذلك وذكرنا في [ ص: 168 ] ذلك الباب ما للعلماء فيه من الأقوال ، والمعاني ، والاعتلال ، واقتصرنا من القول ههنا على أحكام العيوب في الضحايا ليقع في كل باب ما هو أولى به من معانيه ، وبالله التوفيق .

قال أبو عمر :

أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها ، لا أعلم خلافا بين العلماء فيها ، ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين ، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز ؟ وإذا لم تجز العرجاء فالمقطوعة الرجل أو التي لا رجل لها المقعدة أحرى ألا تجوز ؟ وهذا كله واضح لا خلاف فيه ، والحمد لله . وفي هذا الحديث دليل على أن المرض الخفيف يجوز في الضحايا ، والعرج الخفيف الذي تلحق به الشاة الغنم ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " البين مرضها ، والبين ظلعها " ، وكذلك النقطة في العين إذا كانت يسيرة ; لقوله : " العوراء البين عورها " وكذلك المهزولة التي ليست بغاية في الهزال ; لقوله : " والعجفاء التي لا تنقي " ، يريد : التي لا شيء فيها من الشحم ، والنقي : الشحم ، وقد بان في نسق ما أوردنا من الأحاديث تفسير هذه اللفظة ، وقد جاء في الحديث الآخر : " البين هزالها " وفي لفظ حديث شعبة : " والكسير التي لا تنقي " ، ومعنى الكسير هي التي لا تقوم ولا تنهض من الهزال ، ومن العيوب التي تتقى في الضحايا بإجماع : قطع الأذن أو أكثره ، والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء في الضحايا .

واختلفوا في السكاء وهي التي خلقت بلا أذن ، فمذهب مالك ، والشافعي أنها إذا لم تكن لها أذن خلقة لم تجز ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت .

وروى بشر بن الوليد ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة مثل ذلك ، وذكر محمد بن الحسن عنه ، وعن أصحابه أنها إذا لم تكن لها أذن خلقة أجزأت في الضحية قال : والعمياء خلقة لا تجوز في الضحية .

[ ص: 169 ] وقال مالك : المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ ، والشق للميسم يجزئ ، وهو قول الشافعي ، وجماعة الفقهاء .

واختلفوا في جواز الأبتر في الضحية ، فروي عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وإبراهيم النخعي أنه يجزئ في الضحية ، وكان الليث بن سعد يكره الضحية بالأبتر .

وذكر ابن وهب ، عن الليث أنه سمع يحيى بن سعيد يقول : يكره ذهاب الذنب ، والعور ، والعجف ، وذهاب الأذن ، أو نصفها .

وعن ابن لهيعة ، عن خالد بن زيد ، عن عطاء أن الأبتر لا يجوز في الضحايا ( وقد روي في الأبتر حديث مرفوع ليس بالقوي ، وفيه نظر .

حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن أحمد بن حماد الدولابي ، حدثنا إسحاق بن الحسن ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة قال : حدثنا جابر الجعفي قال : سمعت محمد بن قرظة يحدث عن أبي سعيد الخدري أنه قال : اشتريت كبشا لأضحي به فأكل الذئب من ذنبه ، أو قال : أكل ذنبه ، فسألت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ضح به ) وهذا يحتمل وجوها ، منها أنه قطع بعض ذنبه ، ومنها أنه قطع كله ، ومنها أنه إذا كان القطع طارئا عليه ولم يخلق أبتر فلا بأس به إذا كان يسيرا ، ومنها أنه لم يخص خلقة من غيرها ، ومنها أنه عرض له بعد أن اشتراه ضحية فأوجبه على مذهب من سوى بين ذلك وبين الهدي ، وقد قيل : إنه لم يسمع محمد بن قرظة من أبي سعيد الخدري ، وقد تكلموا في جابر الجعفي ولكن شعبة روى عنه ، وكان يحسن الثناء عليه ، وحسبك بذلك من مثل شعبة .

وحدثنا أحمد بن سعيد بن بشر ، حدثنا مسلمة بن قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي قال : حدثنا شعبة ، عن جابر ، عن محمد بن قرظة ، عن أبي سعيد الخدري قال : [ ص: 170 ] اشتريت كبشا أضحي به فأكل ‌‌‌‌الذئب ذنبه - أو من ذنبه - فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ضح به ، وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يتقي في الضحايا ، والبدن : التي نقص من خلقها والتي لم تسن .

قال ابن قتيبة : قوله : " لم تسن " أي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا . وهذا كما يقول : لم تلبن : لم تعط لبنا ، ولم تسمن ، أي : لم تعط سمنا ، ولم تعسل ، أي : لم تعط عسلا ، هذا مثل النهي عن الصماء في الأضاحي ، وهذا أصح ، عن ابن عمر عندي ، والله أعلم من رواية من روى عنه جواز الأضحية بالأبتر إلا أنه يحتمل أن يكون اتقى ابن عمر لمثل ذلك ورعا ، ويحتمل أن يكون اتقاؤه كان لما نقص منها خلقة ، وحمل حديثه على عمومه أولى به ، ولا حجة مع ذلك فيه .

وذكر ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب أنه قال : لا يجوز من الضحية المجذوعة ثلث الأذن ، ومن أسفل منها ، ولا يجوز مسلولة الأسنان ، ولا العوراء ولا العرجاء البين عرجها ، والمصرمة الأطباء ، المقطوعة حلمة الثدي قال : وأخبرني عبد الجبار بن عمر ، عن ربيعة أنه كان يكره كل نقص يكون في الضحية أن يضحى به ، قال : وأخبرني عمرو بن الحارث ، وابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار أنه كان يكره من الضحايا التي بها من العيب ما ينقص من ثمنها .

[ ص: 171 ] قال : وسمعت مالكا يكره كل نقص يكون في الضحايا إلا القرن وحده ، فإنه لا يرى بأسا أن يضحي بمكسورة القرن ، ويراه بمنزلة الشاة الجماء .

قال أبو عمر :

على هذا جماعة الفقهاء لا يرون بأسا أن يضحي بالمكسورة القرن ، وسواء كان قرنه يدمي ، أو لا يدمي ، وقد روي عن مالك أنه كرهه إذا كان يدمي - أنه جعله من المرض ، وأجمع العلماء على أن الضحية بالجماء جائزة ، وقالت جماعتهم وجمهورهم أنه لا بأس أن يضحى بالخصي ، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره .

قال ابن وهب : قال لي مالك : العرجاء إذا لم تلحق الغنم فلا تجوز في الضحايا .

قال أبو عمر :

روى قتادة ، عن جزي بن كليب ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في الضحايا ، عن عضباء الأذن والقرن . قال قتادة : فقلت لسعيد بن المسيب : ما عضب الأذن والقرن ؟ قال : النصف أو أكثر .

قال أبو عمر :

لا يوجد ذكر القرن في غير هذا الحديث ، وبعض أصحاب قتادة لا يذكر فيه القرن ويقتصر فيه على ذكر الأذن وحدها ، كذلك روى هشام ، وغيره ، عن قتادة ، وجملة القول أن هذا حديث لا يحتج بمثله مع ما ذكرنا من مخالفة [ ص: 172 ] الفقهاء له في القرن خاصة ، وأما الأذن فكلهم على القول بما فيه في الأذن ، وفي الأذن عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار حسان .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سلمة بن كهيل ، عن حجية بن عدي ، عن علي قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن .

وحدثنا سعيد ، وعبد الوارث قالا : حدثنا قاسم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبيد الله ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن شريح بن النعمان ، عن علي قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، ولا نضحي بمقابلة ، ولا مدابرة ، ولا شرقاء ، ولا خرقاء والمقابلة : ما قطع طرف أذنها والمدابرة : ما قطع من جانبي الأذن ، والشرقاء : المشقوقة الأذن ، والخرقاء : المثقوبة الأذن .

قال أبو عمر :

كان بعض العلماء يقول في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع لا تجوز في الضحايا " دليل على أن ما عدا تلك الأربع من العيوب في الضحايا يجوز ، والله أعلم .

[ ص: 173 ] وهذا - لعمري - كما زعم إن لم يثبت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك .

وأما إذا ثبت عنه شيء منصوص بخلاف هذا التأويل ، فلا سبيل إلى القول به ، وما زيد عليه من السنن الثابتة في غيره فمضموم إليه . وحديث علي في استشراف العين والأذن حديث حسن الإسناد ليس بدون حديث البراء ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية