التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1645 مالك ، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن أنس بن [ ص: 176 ] مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد ، فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها


لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في لفظه فيما علمت ، ورواه سفيان بن بشر ، عن مالك ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة فأخطأ فيه ( والصواب ما في الموطإ : ) مالك ، عن عمرو ، عن أنس ، حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن عبد الرحمن بن محمد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب قال : حدثنا أبو شيبة داود بن إبراهيم البغدادي قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال : قرأت على مالك بن أنس : ، عن عمرو مولى المطلب ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : إن هذا جبل يحبنا ونحبه ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها يعني المدينة .

حدثنا خلف قال : حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق ، حدثنا محمد بن جعفر بن أعين ، وحدثنا خلف ، حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي بن محمد الكندي ، ومحمد بن عبد الله قالا : حدثنا عبد الله بن عبد العزيز البغوي قالا : حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال : قرأت على مالك بن أنس ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم طلع له أحد ، فذكره .

[ ص: 177 ] قال أبو عمر :

للناس في هذا مذهبان : أحدهما أن ذلك مجاز ، ومجازه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفرح بأحد إذا طلع له استبشارا بالمدينة ، ومن فيها من أهلها ، ويحب النظر إليه لقربه من النزول بأهله ، والأوبة من سفره ، فلهذا والله أعلم كان يحب الجبل ، وأما حب الجبل له فكأنه قال : وكذلك كان يحبنا لو كان ممن تصح وتمكن منه محبة ، وقد مضى هذا المعنى في باب عبد الله بن يزيد واضحا عند قوله صلى الله عليه وسلم : اشتكت النار إلى ربها . الحديث . والحمد لله .

ومن هذا قول عمر بن الوليد بن عقبة :


بكى أحد إن فارق اليوم أهله فكيف بذي وجد من القوم آلف

وقد قيل : معنى قوله : يحبنا ، أي : يحبنا أهله ، يعني الأنصار الساكنين قربه ، وكانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبهم ; لأنهم آووه ، ونصروه ، وأقاموا دينه ، فخرج قوله صلى الله عليه وسلم على هذا التأويل مخرج قول الله عز وجل ( واسأل القرية التي كنا فيها ) ، يريد أهل القرية ، وهذا معروف في لسان العرب ، وقد تكون الإرادة للجبل مجازا أيضا ، فيكون القول في حب الجبل كالقول في إرادة الجدار أن ينقض سواء ، ومن حمل ذلك على المجاز [ ص: 178 ] جعله كقول الشاعر :


يريد الرمح صدر أبي براء     ويرغب عن دماء بني عقيل

وزعم أن العرب خوطبت من ذلك بما تعرفه بينها من مخاطباتها ، ومفهوم كلامها ، فهذا كله مذهب من حمل هذه الألفاظ وما كان مثلها في الكتاب والسنة على المجاز المعروف من لسان العرب .

والمذهب الآخر أن ذلك حقيقة ، ومن حمل هذا على الحقيقة جعل للجدار إرادة يفهمها من شاء الله ، وجعل لكل شيء تسبيحا حقيقة لا يفقهها الناس بقوله عز وجل ( ياجبال أوبي معه ) ، وقوله ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) ، وجعل للسماوات والأرض بكاء وقولا - في مثل هذا المعنى - صحيحا ، والقول في كلا المذهبين يتسع . وقد أكثر الناس في هذا ، وبالله التوفيق .

وأما قوله : إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها ، فقد روى هذا المعنى أبو هريرة ، ورافع بن خديج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهادي ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إبراهيم حرم مكة .

وقال أحمد بن زهير : حدثنا مصعب بن عبد الله ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن إبراهيم حرم مكة .

[ ص: 179 ] ورواه جابر ، وسعد بن أبي وقاص أيضا كذلك : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا أبي ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة : لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، وذكر تمام الحديث .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا أبي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي قال : سمعت يونس بن يزيد يحدث ، عن الزهري ، عن مسلم بن يزيد أحد بني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح الخزاعي ، ثم الكعبي يقول : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإن الله حرم مكة لم يحرمها الناس ، وإنما أحلها لي ساعة من النهار آمن ، وإنها اليوم حرام كما حرمها أول مرة ، أحرم ما بين لابتيها يعني المدينة .

أخبرنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا الفضل بن سليمان ، حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين لابتي المدينة حرام كما حرم إبراهيم مكة ، اللهم اجعل البركة فيها بركتين ، وبارك لهم في صاعهم ومدهم ، وإني أحرم ما بين لابتيها يعني المدينة .

ففي هذا كله تصريح بتحريم المدينة ، وأنها لا يجوز الاصطياد فيها ، وفي تلك ما يبطل قول الكوفيين ، ويشهد لصحة قول أهل المدينة .

قال عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون : التحريم للصيد بالمدينة حق ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ، قال عبد الملك : وحد ذلك ما لو التقت الحرتان كانت البيوت شاغلة [ ص: 180 ] عنه ، وما فوق ذلك وأسفل فمباح . قال : وقال مالك : أكره ما قرب جدا من فوق ، وأسفل .

وبلغنا أن سعدا أخذ ثوب من فعل ذلك وفأسه فكلم فيه فقال : لا أدع ما أعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال لمولى لقدامة بن مظعون يدعى سالما : إذا رأيت من يقطع من الشجر - يعني شجر المدينة - شيئا فخذ فأسه . قال : وثوبه يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ولكن فأسه .

قال أبو عمر :

لم يختلف العلماء أنه لا يجوز أخذ فأس من اصطاد بالمدينة اليوم ولا ثوبه ، وقد احتج بذلك من زعم أن تحريم صيدها منسوخ بذلك ، وهذا ليس بشيء ; لأن الحديث في ذلك ، عن سعد ، وعمر رضي الله عنهما ضعيف الإسناد ، ولا يحتج به ، وقد ثبت تحريمها من الطرق الصحاح ، وليس في سقوط وجوب الجزاء على من اصطاد فيها ما يسقط تحريمها ; لما قدمناه من الحجة في ذلك في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأشبعنا القول في هذه المسألة ، ولم يكن في شريعة إبراهيم جزاء صيد فيما قال أهل العلم . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم المدينة كما حرم إبراهيم مكة ، ووجوب الجزاء في صيد الحرم شيء ابتلى الله به هذه الأمة ، ألا ترى إلى قوله عز وجل ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ) ، ولم يكن قبل ذلك ، والله أعلم . والصحابة فهموا المراد في تحريم صيد [ ص: 181 ] المدينة فتلقوه بالوجوب دون جزاء ، كذلك قال أبو هريرة ، وزيد بن ثابت ، وأبو سعيد .

ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن زينب بنت كعب بن عجرة ، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة ، وأنه حرم شجرها أن يعضد ، قالت زينب : فكان أبو سعيد يضرب بنيه إذا صادوا فيها ، ويرسل الصيد .

قال : وحدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا عاصم الأحول قال : قلت لأنس بن مالك : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؟ قال : نعم .

وقد قالت فرقة : في صيد المدينة جزاء ، واحتجوا بأنه حرم نبي كما مكة حرم نبي ، واعتلوا بقوله : إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها ، والوجه المختار ما قدمنا ذكره ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأكثر أهل العلم ، والأصل أن الذمة بريئة فلا يجب فيها شيء إلا بيقين .

وأما حرم المدينة ، وكم يبلغ من المسافة ومعنى لابتيها - وهما الحرتان - فقد مضى في كتابنا هذا في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية