التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1748 [ ص: 266 ] حديث رابع لحميد بن قيس منقطع

مالك ، عن حميد بن قيس المكي أنه قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب ، فقال لحاضنتهما : ما لي أراهما ضارعين ؟ فقالت حاضنتهما : يا رسول الله إنه تسرع إليهما العين ، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استرقوا لهما ، فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين


هكذا جاء هذا الحديث في الموطأ عند جميع الرواة فيما علمت وذكره ابن وهب في جامعه ، فقال : حدثني مالك بن أنس ، عن حميد بن قيس ، عن عكرمة بن خالد ، قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله سواء ، وهو مع هذا كله منقطع ، ولكنه محفوظ لأسماء بنت عميس الخثعمية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة متصلة صحاح ، وهي أمهما ، وقد يجوز - والله أعلم - أن تكون مع ذلك حاضنتهما المذكورة في حديث مالك هذا ، وكانت أسماء بنت عميس - رحمها الله - تحت جعفر بن أبي طالب ، وهاجرت معه إلى الحبشة ، وولدت هناك عبد الله بن جعفر ومحمد بن جعفر وعون بن جعفر وهلك عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، قتل يوم مؤتة بمؤتة من أرض الروم ، فخلف عليها بعده أبو بكر الصديق ، فولدت له محمد بن أبي بكر بالبيداء [ ص: 267 ] بذي الحليفة على ما روي من اختلاف ألفاظ ذلك الحديث عام حجة الوداع فأمرها أن تغتسل ، ثم لتهل ، ثم توفي أبو بكر رضي الله عنه فخلف عليها بعده علي بن أبي طالب فولدت له يحيى بن علي ، وقد ذكرنا خبرها مستوعبا في كتاب النساء من كتابنا في الصحابة وجائز أن تكون حاضنتهما غيرها ، وقد رويت قصة أسماء بنت عميس في ابني جعفر بن أبي طالب والاسترقاء لهما من حديثها ، ومن حديث جابر بن عبد الله .

وقوله في الحديث " ما لي أراهما ضارعين " ، يقول : ما لي أراهما ضعيفين ضئيلين ناحلين وللضرع في اللغة وجوه منها الضعف ، قال صاحب كتاب العين : الضرع الصغير الضعيف ، قال : والضرع والضراعة أيضا التذلل ، يقال : قد ضرع يضرع وأضرعته الحاجة .

وأما الحاضن فهو الذي يضم الشيء إلى نفسه ويستره ويكنفه وأصله من الحضن والمحتضن ، وهو ما دون الإبط إلى الكشح ، تقول العرب الحمامة تحضن بيضها .

حدثني أبو عثمان سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو ، يعني ابن دينار ، قال : أخبرني عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة ، عن أسماء بنت عميس أنها قالت : يا رسول الله إن ابني جعفر يصيبهما العين أفأسترقي لهما ، قال : نعم لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين .

قال أبو عمر : عروة بن عامر روى عن ابن عباس وعبيد بن رفاعة ، روى عنه عمرو بن دينار وحبيب بن أبي ثابت والقاسم بن أبي بزة وله أخ يسمى عبيد الله بن عامر روى عن ابن عمر ، وروى عنه ابن أبي نجيح ولهما أخ ثالث أصغر منهما اسمه عبد الرحمن بن عامر [ ص: 268 ] روى عنه سفيان بن عيينة وهم مكيون ثقات .

أخبرني أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ ، قال : حدثنا ابن حبابة ببغداد ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن ابن باباه ، عن أسماء بنت عميس أنها قالت : يا رسول الله فذكر مثله ، سواء .

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، قال : حدثنا إبراهيم بن علي بن غالب التمار ، قال : حدثنا محمد بن الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني عطاء ، عن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى بنيها بني جعفر ، فقال : ما لي أرى أجسامهم ضارعة قالت : يا نبي الله إن العين تسرع إليهم أفأرقيهم ؟ قال : وبماذا ؟ فعرضت عليه كلاما ليس به بأس ، فقال : ارقيهم به .

وبه ، عن حجاج ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني أبو الزبير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص لبني عمرو بن حزم في رقية الحمة ، قال : وقال لأسماء بنت عميس : ما شأن أجسام بني أخي ضارعة ؟ [ ص: 269 ] أتصيبهم حاجة ؟ قالت : لا ولكن تسرع إليهم العين أفنرقيهم ، قال : وبماذا ؟ فعرضت عليه ، فقال : ارقيهم .

وحدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أسامة ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا ابن جريح ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله ، يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأسماء بنت عميس : ما شأن أجسام بني أخي ضارعة ؟ فذكر مثله سواء .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا ابن المفسر ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريح ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لأسماء بنت عميس : ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة أتصيبهم الحاجة ؟ قالت : لا ولكن العين تسرع إليهم أفأرقيهم ؟ ، قال : بماذا ؟ فعرضت عليه كلاما ، قال : لا بأس به فارقيهم .

وفي هذا الحديث إباحة الرقى للعين ، وفي ذلك دليل على أن الرقى مما يستدفع به أنواع من البلاء إذا أذن الله في ذلك وقضى به ، وفيه أيضا دليل على أن العين تسرع إلى قوم فوق إسراعها إلى آخرين وأنها تؤثر في الإنسان بقضاء الله وقدرته وتضرعه في أشياء كثيرة قد فهمته العامة والخاصة ، فأغنى ذلك عن الكلام فيه ، وإنما يسترقى من العين إذا لم يعرف العائن .

وأما إذا عرف الذي أصابه بعينه ، فإنه يؤمر بالوضوء على حسب ما يأتي ذكره وشرحه وبيانه في باب ابن شهاب ، عن ابن أبي أمامة من هذا الكتاب ، ثم يصب ذلك الماء على المعين على حسب ما فسره الزهري مما قد ذكرناه هنالك ، فإن لم يعرف العائن استرقي حينئذ [ ص: 270 ] للمعين ، فإن الرقى مما يستشفى به من العين وغيرها وأسعد الناس من ذلك من صحبه اليقين ، وما توفيقي إلا بالله .

وفي إباحة الرقى إجازة أخذ العوض عليه ; لأن كل ما انتفع به جاز أخذ البدل منه ، ومن احتسب ، ولم يأخذ على ذلك شيئا كان له الفضل ، وفي قوله " لو سبق شيء القدر لسبقته العين " دليل على أن الصحة والقسم قد جف بذلك كله القلم ولكن النفس تطيب بالتداوي وتأنس بالعلاج ولعله يوافق قدرا وكما أنه من أعطي الدعاء وفتح عليه فلم يكد يحرم الإجابة ، كذلك الرقى والتداوي من ألهم شيئا من ذلك وفعله ربما كان ذلك سببا لفرجه .

ومنزلة الذين لا يكتبون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون أرفع وأسنى ، ولا حرج على من استرقى وتداوى ، وقد ذكرنا اختلاف الناس في هذا الباب عند ذكر حديث زيد بن أسلم من كتابنا هذا وبينا الحجة لكل فريق منهم ، وبالله التوفيق .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا علي بن المديني ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي خزامة ، عن أبيه : أنه قال : يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها وتقى نتقيها وأدوية نتداوى بها هل ترد من القدر ، أو تغني من القدر شيئا ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها من القدر .

قال إسماعيل : ورواه يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي خزامة أحد بني الحارث بن سعد ، عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله سواء ، هكذا حدث به سليمان [ ص: 271 ] بن بلال عن يونس ، ورواه عثمان بن عمر ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي خزامة أن الحارث بن سعد أخبره أن أباه أخبره ، قال إسماعيل ، والصواب ما قاله سليمان ، عن يونس .

قال أبو عمر : ورواه يزيد بن زريع ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن أبي خزامة ، عن أبيه ، كما قال ابن عيينة سواء لم ينسبه ، ورواه حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن رجل من بني سعد ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ؟ مثله سواء لم يذكر اسمه ، ولا كنيته .

قال أبو عمر : قد روى ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أسماء بنت عميس في هذا الباب ، حدثناه خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز . وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن جامع ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا وهيب ، قال : حدثنا ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : العين حق ، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا .

قال أبو عمر : قوله وإذا استغسلتم فاغسلوا يعني غسل المعاين المصاب بالعين [ ص: 272 ] وسترى معنى ذلك مجودا في كتابنا هذا عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن أبي أمامة بعون الله تعالى .

أخبرنا عبد الرحمن ، حدثنا علي ، حدثنا أحمد ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني سفيان الثوري ، عن منصور ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ حسنا وحسينا : أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ، ثم يقول : هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : كنا نرقي في الجاهلية ، فقلنا : يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ ، قال : اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك .

قال أبو عمر : سيأتي للرقى ذكر في مواضع من هذا الديوان على حسب تكرار أحاديث مالك في ذلك ، وفي كل باب منها نذكر من الأثر ما ليس في غيره إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية