التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 26 ] مالك عن سعيد بن إسحاق ، ويقال سعد حديث واحد

وهو سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكرنا جده كعب بن عجرة في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا ، وهو من حليف لبني سالم من الأنصار ، وسعد بن إسحاق هذا ثقة ، لا يختلف في ثقته وعدالته ، روى عنه مالك ، ومعمر ، والثوري ، والقطان ، وشعبة ، وكان من ساكني المدينة ، وبها كانت وفاته سنة أربعين ومائة .

وروى عنه من الجلة : ابن شهاب ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وقد قيل : إن هذا الحديث رواه ابن شهاب ، عن مالك ، فقال فيه : حدثني رجل من أهل المدينة يقال له مالك بن أنس ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب ، عن الفريعة بنت مالك بن سنان - فذكر الحديث . رواه أحمد بن شبيب ، عن أبيه ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، كتبناه عن خلف بن قاسم من وجوه ، وأحمد بن شبيب يتكلمون فيه .

[ ص: 27 ] مالك ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة ، أن الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه ، قالت : فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة ، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : نعم ، قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ، ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمرني ، فنوديت له ، فقال : كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك ، فأخبرته فاتبعه وقضى به .

هكذا قال يحيى : سعيد بن إسحاق ، وتابعه بعضهم ، وأكثر الرواة يقولون : فيه سعد بن إسحاق - وهو الأشهر ، وكذلك قال : شعبة وغيره .

وقال عبد الرزاق في هذا الحديث : عن الثوري ، ومعمر عن سعيد بن إسحاق - كما قال يحيى ، كذلك في كتاب الدبري [ ص: 28 ] أخبرنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن لكعب بن عجرة ، قال : حدثتني عمتي - وكانت تحت أبي سعيد الخدري - أن فريعة حدثتها أن زوجها خرج في طلب أعلاج أباق ، حتى إذا كان بطرف القدوم - وهو جبل - أدركهم فقتلوه ، قالت : فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أن زوجها قتل ، وأنه تركها في مسكن ليس له ، واستأذنته في الانتقال ، فأذن لها فانطلقت ، حتى إذا كانت بباب الحجرة ، أمر بها فردت ، وأمرها أن تعيد عليه حديثها ، ففعلت ، فأمرها ألا تبرح حتى يبلغ الكتاب أجله .

قال : وأخبرنا معمر ، عن سعيد بن إسحاق ، قال : أحمد بن خالد ، كذا قرأ علينا الدبري سعيد بن إسحاق ، وإنما أعرفه سعد بن إسحاق ، فقرأ علينا عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة أنه حدثه عن عمته زينب ابنة كعب بن فريعة : بهذا الحديث ، وزاد معمر : فلما كان في زمن عثمان أتت امرأة تسأله عن ذلك ، قالت : فريعة ، فذكرت له ، فأرسل إلي ، فسألني ، فأخبرته ، فأمرها ألا تخرج من بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله .

قال : وأخبرنا الثوري ، عن سعيد بن إسحاق - هكذا قال : سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة ، عن فريعة ابنة مالك [ ص: 29 ] - أن زوجها قتل بالقدوم ، قالت : فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له إن لها أهلا ، فأمرها أن تنتقل ، فلما أدبرت دعاها ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله - أربعة أشهر وعشرا .

قال : وأخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي بكر أن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، أخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة - أن فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري - أخبرتها أن زوجا لها خرج حتى إذا كان من المدينة على ستة أميال عند طرف جبل يقال له القدوم ، تعادى عليه اللصوص فقتلوه ، وكانت فريعة في بني الحارث بن الخزرج في مسكن لم يكن لبعلها ، إنما كان سكناها ، فجاءها إخوتها - فيهم أبو سعيد الخدري - فقالوا ليس بأيدينا سعة فنعطيك ونمسك ولا يصلحنا إلا أن نكون جميعا ، ونخشى عليك الوحش ، فسلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقصت عليه ما قال إخوتها بالوحشة ، واستأذنته في أن تعتد عندهم ، فقال : افعلي إن شئت ، قالت : فأدبرت حتى إذا كنت في الحجرة ، قال : تعالي عودي لما قلت ، فعادت ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، ثم إن عثمان بعثت إليه أمرأة من قومه تسأله أن تنتقل من بيت زوجها فتعتد في غيره ، فقال : افعلي ، ثم قال لمن حوله : هل مضى من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صاحبي في مثل هذا شيء ؟ فقالوا : إن فريعة تحدث ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليها ، فأخبرته ، فانتهى إلى قولها ، وأمر المرأة أن لا تخرج من بيتها .

قال : ابن جريج : وأخبرت أن هذه المرأة التي أرسلت إلى عثمان أم أيوب بنت ميمون بن عامر الحضرمي ، وأن زوجها عمران بن طلحة بن عبيد الله .

[ ص: 30 ] هكذا قال : عبد الله بن أبي بكر وسعد بن إسحاق ، وكذلك قال يحيى القطان : حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا محمد بن مسعود ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثني سعد بن إسحاق ، قال : حدثتني زينب بنت كعب ، عن فريعة بنت مالك ، قالت : خرج زوجي في طلب أعلاج ، فأدركهم بطرف القدوم ، فقتلوه ، فأتى نعيه - وأنا في دار شاسعة من دور أهلي ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له : إني أتاني نعي زوجي وأنا في دار شاسعة من دور أهلي ، ولم يدع لي نفقة ، ولا مالا ورثته ، وليس المسكن لي ، فلو تحولت إلى إخوتي وأهلي كان أرفق بي في بعض شأني ، فقال : تحولي ، فلما خرجت من المسجد أو الحجرة ، دعاني أو أمر من دعاني ، فدعيت له ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، فاعتدت أربعة أشهر وعشرا ، فأرسل إلي عثمان ، فأتيته ، فحدثته ، فأخذ به .

أخبرنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب ، أنها سمعت فريعة ابنة مالك بن سنان تحدث أن زوجها قتل بمكان بالمدينة ، يسمى طرف القدوم ، وأن فريعة ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تريد أن تنتقل من بيت زوجها إلى أهلها فذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لها في ذلك ، فقامت ، ثم دعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله .

[ ص: 31 ] في هذا الحديث إيجاب العمل بخبر الواحد ، ألا ترى إلى عمل عثمان بن عفان به وقضائه باعتداد المتوفى عنها ( زوجها ) في بيتها من أجله - في جماعة الصحابة من غير نكير .

وفي هذا الحديث - وهو حديث مشهور معروف - عند علماء الحجاز والعراق أن المتوفى عنها زوجها ، عليها أن تعتد في بيتها ولا تخرج منه ، وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر ، منهم : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وغيرهم ، وكان داود وأصحابه يذهبون إلى أن المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتد في بيتها ، وتعتد حيث شاءت ، لأن السكنى إنما ورد به القرآن في المطلقات ، ومن حجته : أن المسألة مسألة اختلاف ، قالوا : وهذا الحديث إنما ترويه معروفة بحمل العلم ، وإيجاب السكنى إيجاب حكم ، والأحكام لا تجب إلا بنص كتاب أو سنة ثابتة أو إجماع .

قال : أبو عمر :

أما السنة فثابتة بحمد الله ، وأما الإجماع فمستغنى عنه مع السنة ، لأن الاختلاف إذا نزل في مسألة ، كانت الحجة في قول من وافقته السنة - وبالله التوفيق .

وأما الاختلاف في هذه المسألة ، فذكر عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، عن ابن عباس ، قال : إنما قال الله : تعتد أربعة [ ص: 32 ] أشهر وعشرا ، ولم يقل في بيتها ، قال : وأخبرني عطاء أن عائشة حجت واعتمرت بأختها بنت أبي بكر في عدتها ، وكان قتل عنها زوجها طلحة بن عبيد الله ، قال عطاء : ولا يضر المتوفى عنها أين اعتدت .

قال : ابن جريج : وأخبرني ابن شهاب ، عن عروة ، قال : خرجت عائشة بأختها أم كلثوم حين قتل عنها زوجها : طلحة بن عبيد الله إلى مكة في عمرة ، قال : عروة وكانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها .

قال : وأخبرنا الثوري ، عن عبيد الله بن عمر أنه سمع القاسم بن محمد يقول : أبى الناس ذلك عليها : وعن الثوري وغيره ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن علي - رضي الله عنه - أنه انتقل ابنته أم كلثوم في عدتها - وقتل عنها عمر - رحمه الله .

[ ص: 33 ] ، قال : وأخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : أخذ المترخصون في المتوفى عنها بقول عائشة ، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر .

قال : وأخبرنا معمر ، وابن جريج ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لا تنتقل المتوفى عنها إلا أن ينتوي أهلها منزلا فتنتوي معهم - وهو قول ابن شهاب - وأما إذا كان المسكن بكراء ، فقال مالك : هي أحق بسكناه من الورثة والغرماء من رأس مال المتوفى ، إلا أن لا يكون فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجها ، وإذا كان المسكن لزوجها ، لم يبع في دينه حتى تنقضي عدتها ، وهذا كله قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وجمهور العلماء - وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية