التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1728 [ ص: 35 ] حديث أول لسعيد بن أبي سعيد

مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة ، وضيافته ثلاثة أيام ، فما كان بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه .


لم يختلف الرواة للموطأ في هذا الحديث ، عن مالك وهو حديث صحيح ، وقد رواه ، عن سعيد بن أبي سعيد - جماعة ، أجلهم يحيى بن أبي كثير ; لأنه في درجة مع سعيد بن أبي سعيد في أبي سلمة وغيره ، وقد سمع أبو سعيد من أبي شريح الكعبي هذا الحديث .

وفي هذا الحديث آداب وسنن ، منها التأكيد في لزوم الصمت ، وقول الخير أفضل من الصمت ; لأن قول الخير غنيمة ، والسكوت سلامة ، والغنيمة أفضل من السلامة ، وكذلك قالوا : قل خيرا تغنم ، واسكت عن شر تسلم .

قال عمار الكلابي :


وقل الخير وإلا فاصمتن فإنه من لزم الصمت سلم

[ ص: 36 ] وقال آخر :


ومن لا يملك الشفتين يسخو     بسوء اللفظ من قيل وقال

ولقد أحسن القائل :


رأيت اللسان على أهله     إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا

وقال آخر :


لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل     وكل امرئ ما بين فكيه مقتل

فمن كانت هذه حاله هو المأمور بالصمت ، لا قائل الخير وذاكر الله ، وقد ذكرنا هذا المعنى وكثيرا مما قيل فيه من النظم والنثر في كتاب العلم ، وتقصيته في كتاب بهجة المجالس والحمد لله .

وروي عن ابن مسعود أنه قال : ما الشؤم إلا في اللسان ، وما شيء أحق بطول السجن منه .

وحدثنا أحمد بن فتح ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حامد ، قال : حدثنا الحسن بن الطيب ، قال : حدثنا داود بن بلال ، قال : حدثنا عبد السلام بن هاشم ، عن خالد بن فرز ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من .

[ ص: 37 ] رد غيظه دفع الله عنه عذابه ، ومن حفظ لسانه ستر الله عورته ، ومن اعتذر إلى الله قبل عذره
.

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت .

حدثنا محمد بن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح المصري قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، وعمرو بن الحارث ، عن يزيد بن عمرو المعافري ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من صمت نجا .

وقال الحسن - رحمه الله : أربع لا مثل لهن الصمت - وهو أول العبادة - ، والتواضع ، وذكر الله ، وقلة المشي .

وقد اختلف العلماء فيما يكتب على المرء من كلامه ، فذكر سنيد ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء في قوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال : يكتب كل شيء حتى ما يعلل به الرجل صبيه والمرأة صبيها .

[ ص: 38 ] قال : وحدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله عن اليمين وعن الشمال قعيد قال : كانت الحسنات عن يمينه وكانت السيئات عن شماله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .

قال : وحدثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن أبي عبيد الله ، عن مجاهد في قوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال : يكتب كل شيء حتى أنينه في مرضه .

قال : وحدثنا معتمر ، عن ليث ، عن طلحة بن مطرف ، قال : ما ظفرت من أيوب بشيء إلا بأنينه قال ليث : فحدثت به طاوسا ، وهو مريض ، فما أن حتى مات ، فقال : بهذا قوم وخالفهم آخرون ، فقالوا : لا يكتب إلا الخير والشر .

ذكر أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر ، قال : حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، قال : حدثنا الأنصاري ، قال : حدثنا هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال : يا غلام اسقني الماء ، وأسرج الفرس ، لا يكتب إلا الخير والشر .

قال : وحدثنا أبو سعيد الهروي ، قال حدثنا محمد بن عبد المجيد ، قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال أخبرنا النضر بن شميل ، قال حدثنا هشام بن حسان ، قال سمعت عكرمة يحدث ، عن ابن عباس قال : يكتب عن الإنسان ما يتكلم به من خير أو شر وما سوى ذلك فلا يكتب .

[ ص: 39 ] قال : وحدثنا علي بن عبد العزيز ، قال حدثنا أبو النعمان ، قال حدثنا حماد بن زيد ، عن يزيد بن خازم ، عن عكرمة ، قال ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال لا يكتب عليه إلا ما يؤجر فيه ويؤزر فيه ، قال : لو قال رجل لامرأته تعالي حتى نفعل كذا وكذا ، أكان يكتب عليه ؟ قال حماد بن شعيب : يقول يكتب كل شيء ، فإذا كان يوم الاثنين والخميس ألقى منه أطعمني واسقني وكتب البقية .

وذكر عن الأحنف وجها رابعا ، قال صاحب اليمين : يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال ، فإذا أصاب العبد الخطيئة ، قال امسك ، فإن استغفر الله نهاه أن يكتبها ، وإن أبى إلا أن يصر عليها كتبها .

وقال عطاء : كانوا يكرهون فضول الكلام .

وقال شفي الأصبحي : من كثر كلامه كثر خطاياه .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، وإياكم والفحش ، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش ، وإياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالبخل فبخلوا ، وبالفجور ففجروا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله : أي الإسلام أفضل ؟ قال أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك وذكر تمام الحديث .

[ ص: 40 ] وذكر مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب رأى أبا بكر الصديق ، وهو آخذ لسانه بيده ، وهو يقول إن ذا أوردني الموارد .

ورواه الدراوردي ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه مثله ، وزاد فيه ، وقال ليس شيء من الجسد إلا وهو يشكو اللسان إلى الله .

وروى حماد بن زيد ، عن أبي الصهباء ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي سعيد الخدري يرفعه ، قال : إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء تستعيذ من شر اللسان ، وتقول : اتق الله فينا ، فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا .

حدثناه أحمد بن فتح ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حامد بن ثرثال البغدادي ، قال : حدثنا الحسن بن الطيب بن حمزة البلخي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد بن حباب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا أبو الصهباء ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي سعيد الخدري يرفعه فذكره .

وأخبرنا خلف بن قاسم ، حدثنا يعقوب بن المبارك ، حدثنا إسحاق بن أحمد البغدادي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي الصهباء ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا ، قال ابن مهدي : رأيت سفيان الثوري جالسا ، عند حماد بن زيد يكتب هذا الحديث .

[ ص: 41 ] قال أبو يوسف يعقوب بن المبارك هكذا وجدته في كتابي ، عن أبي يعقوب الكاغذي .

وحدثناه يحيى بن زكرياء ، عن يعقوب الدورقي فلم يجز به أبا سعيد الخدري قال : وحدثناه إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي الصهباء ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي سعيد الخدري موقوفا .

وروى شعبة ، عن الأعمش ، عن صالح بن خباب ، عن حصين بن عقبة ، عن سلمان ، قال : ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان .

وروى الحكم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود مثله ، ومن هاهنا اتخذ القائل قوله :


وما شيء إذا فكرت فيه     أحق بطول سجن من لسان

ومن الآداب أيضا والسنن في هذا الحديث : الحض على بر الجار ، وإكرامه لقوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره .

وقد ثبت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث مالك وغيره ، أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار ، حتى ظننت أنه سيورثه . والله عز وجل قد أوصى بالجار ذي القربى والجار الجنب ، قالوا الجار ذو القربى : جارك من قرابتك ، والجار الجنب ، قالوا : الجار المجانب ، وقالوا : الجار من غير قرابتك من قوم آخرين .

وروى الأوزاعي ، عن الزهري قال : جاء رجل يشكو جاره ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مناديا ينادي : ألا إن أربعين دارا جار ، فلا يدخل الجنة من خاف جاره [ ص: 42 ] بوائقه .

قال الزهري : أربعين دارا يمينا وشمالا ، وبين يديه ومن خلفه ، ذكره سنيد ، عن محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، قال سنيد : وأخبرنا حجاج ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن - قالها ثلاثا - قالوا : وما ذلك يا رسول الله ؟ قال : الجار الذي لا يأمن جاره بوائقه ، قالوا وما بوائقه ؟ قال شره .

وفيه الحض على إكرام الضيف وإجازته ، وفي ذلك دليل على أن الضيافة ليست بواجبة ، وأنها مستحبة مندوب غير مفترضة ، لقوله جائزته ، والجوائز لا تجب فرضا ; لأنها إتحاف الضيف بأطيب ما يقدر عليه من الطعام .

قال ابن وهب : وسمعت مالكا يقول في تفسير جائزته : يوم وليلة ، قال : يحسن ضيافته ويكرمه .

وروى ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا خير فيمن لا يضيف رواه ابن وهب وقتيبة والوليد بن مسلم ، عن ابن لهيعة .

وروى أبو توبة الربيع بن نافع ، عن بقية ، عن الأوزاعي ، أنه قال له : يا أبا عمرو ، الضيف ينزل بنا فنطعمه الزيتون والكامخ ، وعندنا ما هو أفضل منه العسل والسمن ، فقال : إنما يفعل هذا من لا يؤمن بالله واليوم الآخر .

[ ص: 43 ] قال أبو عمر :

لا أعلم خلافا بين العلماء في مدح مضيف الضيف وحمده والثناء بذلك عليه وكلهم يندب إلى ذلك ويجعله من مكارم الأخلاق وسنن المرسلين ; لأنه ثبت أن إبراهيم عليه السلام أول من ضيف الضيف ، وحض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الضيافة وندب إليها .

واختلف العلماء في وجوبها فرضا ، فمنهم من أوجبها ، ومنهم من لم يوجبها ، وكل من لم يوجبها يندب إليها ويستحبها ، وممن أوجبها الليث بن سعد قال ابن وهب سألت الليث عن عبد مملوك تمر به فيقدم إليك طعاما لا تدري هل أمره سيده أم لا ، فقال الليث : الضيافة حق واجب ، وأرجو أن لا يكون به بأس .

وقال مالك : لا تجوز هبة العبد المأذون له ، ولا دعوته ، ولا عاريته ، ولا يجوز له إخراج شيء من ماله بغير عوض إلا أن يأذن له سيده ، وهو قول الشافعي والحسن بن حي .

وقال الليث : لا بأس بضيافته .

وقد روى الربيع ، عن الشافعي ، أنه قال : الضيافة على أهل البادية والحاضرة حق واجب في مكارم الأخلاق ، وقال مالك ليس على أهل الحضر ضيافة .

وقال سحنون إنما الضيافة على أهل القرى ، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر .

ومن حجة من ذهب هذا المذهب : ما حدثناه عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا الحسن بن إسماعيل ، قال : حدثنا بكر بن محمد بن العلاء القشيري القاضي ، قال : حدثنا أبو مسلم الكشي ، قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن [ ص: 44 ] أخي عبد الرزاق ، قال حدثنا عبد الرزاق ، عن سفيان ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر .

قال أبو عمر :

هذا حديث لا يصح ، وإبراهيم بن أخي عبد الرزاق متروك الحديث منسوب إلى الكذب ، وهذا مما انفرد به ، ونسب إلى وضعه .

ومما احتج به بعض من ذهب مذهب الليث في الضيافة ، حديث شعبة عن منصور ، عن الشعبي ، عن المقدام أبي كريمة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم فإن أصبح بفنائه ، فإنه دين إن شاء اقتضاه ، وإن شاء تركه .

وروى الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا : يا رسول الله ، إنك تبعثنا ، فنمر بقوم لا يقروننا ، فما ترى ؟ فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم .

حدثناه محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين الآجري بمكة ، قال حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال حدثنا الليث فذكره .

[ ص: 45 ] وروى عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي ، عن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما رجل أضاف قوما فلم يقروه ، كان له أن يعقبهم بمثل قراه .

وروى معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وروى المثنى بن الصباح ، عن عطاء ، عن خالد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف حدثنا الحسن بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله بن أبي مطر ، حدثنا محمد بن علي بن مروان حدثنا سليمان بن حرب أبو أيوب ، حدثنا الوليد ، حدثنا جرير بن عثمان الرحبي ، عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي ، عن المقدام بن معد يكرب سنان ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من نزل بقوم فعليهم أن يقروه ، فاحتج بهذه الآثار من ذهب مذهب الليث في وجوب الضيافة .

واحتجوا أيضا بما روي في تأويل قوله عز وجل لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم . قال مجاهد : ذلك في الضيافة ، إذا لم يضف ، فقد رخص له أن يقول فيه ، ذكره وكيع ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

وقال ابن جريج ، عن مجاهد : نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضفه ، فنزلت إلا من ظلم ذكر أنه لم يضفه ، لا يزيد على [ ص: 46 ] ذلك ، قالوا فهذه الآية تدل على أن ذلك ظلم ، والظلم ممنوع منه ، فدل على وجوب الضيافة .

واحتج الآخرون بحديث سعيد بن أبي سعيد هذا ، عن أبي شريح الكعبي العدوي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكور في أول هذا الباب .

وقد رواه الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد ، كما رواه مالك سواء ، وفيه دليل على أن الضيافة إكرام وبر وفضيلة لا فريضة : ومما يدل على ذلك أيضا : ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : حدثنا المقداد بن الأسود ، قال : جئت أنا وصاحب لي قد كادت تذهب أبصارنا وأسماعنا من الجوع ، فجعلنا نتعرض للناس ، فلم يضفنا أحد ، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : يا رسول الله ، أصابنا جوع شديد ، فتعرضنا للناس ، فلم يضفنا أحد ، فأتيناك ، فذهب بنا إلى منزله ، وعنده أربعة أعنز ، فقال : يا مقداد احلبهن ، وجزئ اللبن لكل اثنين جزءا .

ففي هذا الحديث : أن المقداد وصاحبه قد استضافا فلم يضافا ، ولم يأمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذا ممن استضافا قدر ضيافتهما مع شدة حاجتهما ، فدل ذلك أن الضيافة غير واجبة جملة ، أو كانت واجبة في بعض الأوقات فنسخت ، وأهل العلم يأمرون بالضيافة ، ويندبون إليها ، ويستحبونها ، وهي عندهم على أهل البوادي آكد .

وقولهم : ليس على أهل الحضر ضيافة ، يدل على تأكيد سنتها على أهل البادية ، ومنهم من سوى بين البادية والحاضرة في ذلك .

وأما اختلافهم في إيجابها فرضا ، فعلى ما تقدم ذكره ، وأما الآية فقد مضى ، عن مجاهد فيها في هذا الباب ما ذكرنا .

[ ص: 47 ] وقال سعيد ، عن قتادة في قوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم الآية ، قال عذر الله المظلوم كما تسمعون أن يدعو على من ظلمه .

وقال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير إلا من ظلم قال : إلا من أثر ما قيل له ، فلم يقل هؤلاء : إن الآية نزلت في الضيافة ، ولا في قولهم شيء يدل على أن الآية لم تنزل في الضيافة .

وقال الطحاوي : الضيافة من كرامة الضيف على حديث أبي شريح الكعبي ، وفيه دليل على انتفاء وجوبها ، قال : وجائز أن تكون كانت واجبة عند الحاجة إليها لقلة عدد أهل الإسلام في ذلك الوقت ، وتباعد أوطانهم ، وأما اليوم فقد عم الإسلام ، وتقارب أهله في الجوار ، قال : وفي حديث أبي شريح جائزته يوم وليلة ، قال : والجائزة منحة ، والمنحة إنما تكون عن اختيار ، لا عن وجوب ، وبالله التوفيق .

ومما يدل على أن الضيافة ليست بواجبة فرضا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه ، وقد أجمعوا أن إكرام الجار ليس بفرض ، فكذلك الضيف ، وفي هذا الحديث وما كان مثله دليل على أن الضيافة من مكارم الأخلاق في الحاضرة والبادية ، ويجوز أن يحتج بهذا من سوى بين الضيافة في البادية والحاضرة إلا أن أكثر الآثار في تأكيدها إنما وردت في قوم مسافرين منعوها .

ومما يدل على أنها ليست بواجبة فرضا ما حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف حدثنا الحسن بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن عاصم ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا سفيان وهو الثوري ، عن أبي [ ص: 48 ] إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله إني مررت برجل فلم يضفني ، ولم يقرني ، أفأجازيه ؟ قال : لا ، بل أقره .

حدثنا يونس بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، قال : حدثنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق الضيف ثلاث ليال ، وما سوى ذلك ، فهو صدقة .

وروى أبو صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وروى شريك ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مطرب ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إكرام الضيف يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام ، فإن أصابه بعد ذلك مرض أو مطر فهو دين عليه .

قال أبو عمر :

ينبغي له أن يتنزه عما كان من الضيافة صدقة كما ينبغي له التنزه ، عن الصدقة ، وليست صدقة التطوع بمحرمة على أحد ، إلا أن السؤال مكروه على ما بينا فيما سلف من هذا الكتاب والحمد لله .

حدثنا عبد الله ، حدثنا الحسن ، حدثنا محمد بن أحمد بن جابر ، حدثنا إسحاق بن أحمد القطان ، حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا أبو عامر الجزار ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر إذا قدم مكة ، نزل على أصهاره فيأتيه طعامه من عند دار خالد بن أسيد ، فيأكل من طعامهم ثلاثة أيام ، ثم يقول : احبسوا عنا صدقتكم ، ويقول لنافع أنفق من عندك الآن .

وقوله [ ص: 49 ] - صلى الله عليه وسلم - لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه ، يريد أن يقيم عنده حتى يحرجه ، والثواء : الإقامة ، قال عنترة :


طال الثواء على رسوم المنزل

وقال الحارث بن حلزة :


آذنتنا ببينها أسماء     رب ثاو يمل منه الثواء

وقال كثير :


أريد الثواء عندها وأظنها     إذا ما أطلنا عندها المكث ملت

وقوله : يحرجه ، أي يضيق عليه بإقامته عنده حتى يحرج وتضيق نفسه ، هذا لا يحل له .

التالي السابق


الخدمات العلمية